تمهيد
إن ظاهرة انتشار المراقد والمزارات ليست خاصة بفئةٍ من
النّاس دون أخرى، ولا هي مرتبطة بقومٍ دون قوم، بل هي
ظاهرةٌ عامة لدى جميع البشر، سواء علماؤهم وجهالُهم،
خاصتُهم وعامتُهم، مقاماتُهم الرسميّة وطبقاتُهم الشعبيّة.
ولا شك أن هذه الظاهرة مرتبطة بتاريخ الإنسان على الأرض،
فكلّ من يولد آيلٌ إلى الموت، وكلّ موجود إلى زوال، وكلُّ
فقيدٍ عزيزٌ على أهله وعشيرته، خصوصًا إذا كان من أصحاب
المقامات.
من هنا نجد أن النّاس -وبحسب طبائعهم وجِبِلاتهم- يعملون
على تخليد ذكرى موتاهم بطرق مختلفة بحسب اختلاف ثقافاتهم
ودياناتهم واعتقاداتهم المرتبطة بالحياة والموت.
طرائق التخليد
لا شك أن الكائن البشري، ولما يتمتع به من قوة عاقلة وحركة
تفكير لا تقف عند حدٍّ من الحدود، قد ابتدع طرائق مختلفة
للوصول إلى الغاية المنشودة لتخليد أصحاب المقامات الذين
يرتبط بهم، من بناء ونحت التماثيل والصور الحاكية عن
المخلَّد، أو إنشاء مؤسسات تربويّة أو ثقافيّة أو
اجتماعيّة أو صحيّة أو غير ذلك تحمل اسمه، أو نشر وإشاعة
عطاءاته ونتاجه العلمي والإبداعي إن كان من العلماء، إلى
غير ذلك من الأساليب التي تحقق هذا الهدف.
ولا يخفى أنه في كثير من الحالات يكون القصد من هذه
الأعمال هو المنفعة أو المصلحة، سواء كانت ماديّة أم
معنويّة، التي يرجوها القائم على هذا العمل نفسه، من خلال
إبراز وفاء أو ارتباط له بالمحتفى به.
ظاهرة المراقد
والمزارات
إلا أن الأهم من هذه الإبداعات البشريّة هو إنشاء المزارات
وتشييد المراقد لبعض النّاس، وتعظيم شأنهم، حتى تصل إلى
مستوى القداسة والكرامة الإلهيّة، وقد يصل الأمر إلى
انتحال أسماء بعض الشخصيّات الكبيرة في التاريخ المقدَّس
لدى جماعة من النّاس، بغية تحقيق مآرب معيّنة من وراء ذلك،
ولهذا تتعدد الأسباب والدوافع لربط النّاس بالموقع المعين،
والذي قد يكون ناشئًا من الوهم، أو رؤيا المنام، أو اعتقاد
ساذج لدى بعض النّاس، دون أن يعني ذلك فقدان المبرر
المنطقي أو الديني أو القداستي لجميع المراقد المقدّسة لدى
الجماعات البشريّة.
إن الأساس المتين والتصور الصحيح لبعض المراقد والمزارات،
وانجذاب النّاس بشكل طبيعي لمقدساتهم، وظهور بعض الآثار
الميدانيّة، من استجابة دعاء، أو استحقاق نذر، أو ظهور
شفاء مفاجئ لمريض، يشكّل أرضيّة خصبة، ويهيّئ الذهن لتقبل
فكرة التقديس للبقعة التي حصل فيها ذلك، ويجعل منها بقعة
مباركة بنظره، الأمر الذي يدفعه إلى تقديم العطاءات
والهبات لتلك البقعة، إشباعًا لحاجته الروحيّة، والتي لا
يجد لها تفسيرًا ماديًا محسوسًا لما بين يديه من معطيات
علميّة، فلا بد أن تكون آتيةً من عالم الغيب، فيُعبَّر
عنها بالمعجزة والكرامة وأشباه ذلك.
المزار والنبي
كثيرًا ما يُطلَق في أَلسِنة العامة على أصحاب هذه المراقد
والمزارات اسم [النبي]، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن
يكون نبيًا بالمعنى الاصطلاحي، أي بمعنى أنه يتلقّى الوحي
من الله تعالى، بل منشأ ذلك إما أن يكون نحوًا من التساهل
في التعبير، بغية زيادة التقديس للبقعة المعيّنة وصاحبها،
فإن ذلك أوقع في نفس المتلقي، وأدعى لتقبّل المقام ورفعة
شأنه.
وإما أن يكون مأخوذًا من المعنى اللغوي للكلمة، والتي لا
يخلو جذرها أن يكون "نبا" بمعنى ارتفع عن الأرض، أو بمعنى
"نبأ" أي أخبر بالمغيّبات، ومناسبة الإطلاق ظاهرة، أما في
الأول فمن جهة بروزه وارتفاعه عن سائر القبور لسبب من
الأسباب. وأما الثاني فنظرًا لوجود الكرامة لصاحب المقام
فكأنه يُنبِئ عن المغيّبات.
فمثلاً في البقاع اللبناني قرية تدعى "حام"، وفيها مقام
منسوب لحام ابن النبي نوح (عليه السلام)، ويعبّر عنه باسم
[النبي حام] مع أن حام بن نوح لم يكن من الأنبياء جزمًا،
أما في الكتاب المقدس وثقافة أهل الكتاب فهو ملعون على
لسان أبيه، ومطرود من رحمة الله تعالى. وأما في الثقافة
الإسلاميّة فلا يوجد أي إشارة إلى أنه من الأنبياء، بل
توجد رواية في علل الشرائع للشيخ الصدوق تدل على أنه كان
عاقًا لأبيه (عليه السلام)، وتؤيد في مضمونها ما ورد في
سِفر التكوين إجمالاً، ولم يمنع ذلك عامة النّاس من إطلاق
لفظ "النبي" عليه.
وهكذا الحال في إطلاق لفظ النبي على [نجوم] قرب بلدة
شمسطار، و[النبي عطاف والنبي صادق] في بلدة بوداي، و[النبي
عطريف] في بلدة الخريبة، و[النبي ساري] في بلدة عدلون،
و[النبي صافي] في إقليم التفاح، مع أنه لم يرد أي ذكر
لأنبياء بهذه الأسماء، مما يدل دلالة أكيدة على التساهل في
إطلاق اسم النبي على هذه المشاهد والقبور.
مقام عمران
ومن المشاهد، التي أخذت بُعدًا تقديسيًا في الفترة
الأخيرة، مقام عمران الواقع في مزرعة عمران شرقي بلدة
[القُلَيْلَة] جنوب مدينة صور الساحليّة في جبل عامل.
وهذا المقام يشتمل على ضريح مجهول لرجل صالح يحمل اسم
عمران، بحسب ما اشتهر على أَلسِنة أهل المنطقة، وتُقدَّم
له العطايا والنذور والهبات، وتروى له كرامات ومعجزات.
وقد بُني على هذا الضريح غرفة تعلوها قبّة صغيرة، يرجع
بناؤها إلى العصر العثماني.
ثم إنه في الفترة الأخيرة، في سنة 1996م. وأثناء حرب أعداء
الإنسانيّة على لبنان والمسمّاة (عناقيد الغضب)، سقطت
قذيفة قريبًا من القبر، فأظهرت بعض الآثار التي ترجع إلى
الحقبة البيزنطيّة.
من هو عمران؟
لا توجد أيّة وثيقة تاريخيّة، أو لوحة على القبر أو في
محيطه تدل على هويّة صاحبه، بل لا توجد أيّة إشارة حوله.
إلا أنه وفي الفترة الأخيرة، وبعد انتشار "فِريَة" قانا
الجليل، التي نُسِبَت فيها بعض الأمور إلى السيد المسيح
(عليه السلام)، بعنوان معجزة اجترحها هناك، وقد أثبتنا
زيفها وخطأها في كتاب (قانا الجليل-المعجزة الخطيئة)، ظهرت
عدة محاولات تربط صاحب القبر بالسيدة مريم العذراء ÷، وأنه
والدها المذكور في القرآن الكريم، على اعتبار أن المنطقة
قريبة من بلدة قانا.
ولعل أول من حاول ادعاء ذلك هو الأب مخائيل عبّود، ضمن
مقال نشره في جريدة السفير اللبنانيّة الصادرة بتاريخ
25/12/1993، يقول فيه: (إن مريم بنت عمران (العذراء) هي من
بلدة القُلَيْلَة الواقعة جنوب صور، وما يزال قبر والدها
عمران قائمًا حتى اليوم، وهو مزار ويُسمّى مزار النبي
عمران وجميع أهالي المنطقة يعرفونه)([1]).
ولا يخفى أنّه مجرد ادعاء، لا يستند إلى دليل علمي أو
حسّي، ولا إلى وثيقة أو مرجع تاريخي.
واقتفى أثره الأستاذ الدكتور وجيه أبو خليل، وحاول إثبات
أن الضريح الموجود هو لعمران والد السيدة مريم العذراء ÷،
مصرِّحًا بأن غايته من ذلك البحث جعلُ المنطقة مَعلَمًا
سياحيًا يقصده الوافدون من مختلف المناطق.
وقد استدل أبو خليل على مدَّعاه بدليلين:
أحدهما: أنه لم يرد في التاريخ إلا اسم رجلين يدعيان
عمران، الأول والد النبيَّيْن موسى وهارون (عليهما
السلام)، والثاني والد السيدة مريم العذراء ÷.
والدليل الآخر: وجود بعض الآثار التي كُشِف عنها مؤخرًا
وتبيّن وجود نفق إلى الجانب الشرقي للضريح (وكان خزان
مياه)، إضافة إلى وجود قطع فسيفساء عليها رسم صليب ورسم
قلب([2]).
ولا يخفى أن كلا الوجهين اللذَين استدل بهما لا يرقيان إلى
مستوى الدليليّة ولا يثبتان ما ادَّعاه:
أما الدليل الأول: فهو كاشف عن عدم الاستقراء والمتابعة
التاريخيّة، وذلك لكثرة الرجال الذين يحملون هذا الاسم في
التاريخ، ونذكر هنا مثلاً
أن السيد الخوئي + قد ذكر خمسة وخمسين رجلاً من أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) الذين رووا أحاديثهم الشريفة،
ونقلوا أخبارهم، دون غيرهم ممن يحملون هذا الاسم([3]).
ومن المعلوم أن علماء الشيعة، بل ومختلف رجالاتهم كانوا
على تواصل مستمر مع جبل عامل وأهله، من مختلف البلاد
الإسلاميّة، والتي يغلب عليها مذهب التشيَّع لأهل البيت
(عليهم السلام). فمقولته أن التاريخ لم يتحدث عن أحد يحمل
اسم عمران إلا والد النبي موسى (عليه السلام)، ووالد
السيدة مريم ÷ يفتقر إلى الدقة.
وأما الدليل الثاني: فهو غريب في نفسه، ذلك أن الآثار
المكتشَفة ترجع إلى الحقبة البيزنطيّة، أي إلى فترة ما بعد
المسيح بأكثر من قرن من الزمان كما هو معلوم. بل إنَّا إذا
أخذنا بعين الاعتبار أن الدولة البيزنطيّة قد تنصَّرت في
القرن الرابع الميلادي أي في عام 325م. تبيَّن أن الآثار
المسيحيّة العائدة إلى تلك الحقبة، لا بدّ وأن تكون قد
بُنِيَت بعد ذلك بزمن.
هذا بالإضافة إلى أنها أقدم من الناحية التاريخيّة من
القبر الموجود، كما تشهد به المعاينة الميدانيّة للمكان،
وهذا يعني أن صاحب القبر الموجود قد عاش في فترة لاحقة،
ولا بد أن تكون بعد الإسلام، مما يكشف بما يقارب اليقين
أنه من رجالات المسلمين.
ويدل على ذلك أن اتجاه القبر نحو قِبلَة المسلمين، أي أن
اتجاه الجسد من الشرق إلى الغرب، وهي الطريقة الخاصة
بالمسلمين في دفن موتاهم.
مقام النبي عمران
بقي أن نشير هنا إلى أن المقام المذكور قد اشتهر بين
النّاس أنه مقام النبي عمران، واتصافه بالنبي لا يخلو من
دلالة أو إشارة إلى أنه ليس مجرد رجل صالح، أو عالم من
علماء المسلمين، بل هو من الأنبياء المرسلين، فلا يخلو
أمره من أن يكون والد النبي موسى (عليه السلام)، أو والد
السيدة مريم ÷.
أما والد النبي موسى (عليه السلام) فلم يثبت أنه من
الأنبياء، بل في رواية عن أبي ذر عن رسول الله (صلى لله
عليه وآله) أنه قال: (أول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم
عيسى وستمائة نبي)([4]).
كما أنه لم يرد له أي شأن أو موقع في القرآن الكريم، بل
ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جملة من الروايات،
مفادها أن يوسف الصديق (عليه السلام) حين حضرته الوفاة
أخبر سائر بني إسرائيل بما سيحلُّ بهم من الذل والاستعباد
وقتلِ الرجال في أرض مصر حتى يأتيَ رجل من نسل لاوي اسمه
موسى بن عمران يخرجهم من البلاء الذي حلَّ فيهم([5]).
وقد اشتهر هذا الأمر بين بني إسرائيل على العموم، وكانوا
يتحدثون في أنه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون
هلاك فرعون على يديه، عند ذلك عمل فرعون على قتل جميع
الأولاد، وبقرِ بطون الحبالى ليتخلَّص من هذه المشكلة([6]).
وبناءً عليه فلا يحتمل أن يكون المراد بصاحب المقام والد
النبي موسى (عليه السلام).
ولازمه أن يكون المتعيِّن هو عمران والد السيدة مريم ÷،
فقد ورد عن أبي بصير أنه
قال: سألت أبا جعفر (الباقر) (عليه السلام) عن
عمران أكان نبيًا؟ فقال: نعم كان نبيًا مرسلاً إلى قومه
وكانت حنَّة امرأة عمران وحنانة امرأة زكريا أختين... إلى
آخر الحديث([7]).
وفي جملة من الروايات أن الله تعالى قد أوحى إلى عمران أني
واهب لك ذكرًا مباركًا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى
بإذن الله، وأني جاعله رسولاً إلى بني إسرائيل... إلى آخر
الحديث([8]).
ولكن هذا الاحتمال ساقط أيضًا:
أما أولاً: فلأن اسم والد السيدة مريم ÷ لم يكن معروفًا
بعمران قبل نزول القرآن الكريم، مع أن أصل الاسم معروف لدى
بني إسرائيل بصيغته العبريّة (عميرام)، وهو اسم والد موسى
وهارون (عليهما السلام).
وقد أهمل التراث المسيحي كل ما يتعلق بعائلة مريم ÷، بل
ومريم نفسها، فإنَّا لا نجد في ذلك التراث أي حديث ذي
أهميّة عنها وعن أبويها، وما ذكرته الأناجيل القانونيّة
عنها مجرد إشارات هامشيّة جدًا، ترتبط بعلاقتها المفترضة
بيوسف النجار!! وبعلاقتها بالسيد المسيح (عليه السلام)
نفسه.
إن رجلاً قد أهمل التاريخ أي ذكر له في المدونات الرسميّة
للكنيسة أكثر من سبعة قرون لا يحتمل أن يكون له قبر معروف،
بحيث تظهر حقيقته بعد هذه المدة الطويلة كما هو ظاهر.
وأما ثانيًا: فلأنه قد ورد في بعض الأناجيل المنحولة أن
اسم والد السيدة مريم ÷ هو (يواكيم)([9])،
فبالإضافة إلى أن الكنيسة الرسميّة لا تعترف بهذه
الأناجيل، بل منعت التداول بها، وأخفتها، وألقت الحُرم
الكنسية على من يعتمدها، لا توجد أية وثيقة رسميّة تؤكِّد
هذه الحقيقة أو تنفيها.
وعلى فرض صحة ذلك، فإنّ من غير الطبيعي أن يُغَيّر اسم
صاحب الضريح بمرور الأيام، وتغيّر الحضارات والثقافات، فإن
الأمر الأكيد أن أسماء الأعلام سواء لأصحاب المقامات من
الرجال، أو أسماء البلدان والقرى قد حافظت على ما كانت
عليه -في جبل عامل بالخصوص- من قديم الأيام إلى يوم النّاس
هذا.
وبناء عليه فيبدو من غير المنطقي أن يُغَيّر اسم هذا الرجل
دون سواه من الأشخاص والأماكن في هذه المنطقة بالذات.
وأما ثالثًا: فلأن الظاهر أن موطن والد السيدة مريم ÷ كان
في بيت المقدس، لا في الجليل، فإنها بعدما ولدت كفلها
زكريا (عليه السلام)، وأسكنها في الهيكل، كما تدل عليه
الآيات القرآنيّة، وجملة من الروايات عن أهل البيت (عليهم
السلام)، قال تعالى: {كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقًا}([10])،
كما دلّت الروايات على أنها أقامت في المسجد([11]).
والمتبادر من المسجد هو بيت المقدس كما لا يخفى.
وهذا ما يظهر من إنجيل "متّى" المنحول أيضًا، فقد ورد فيه:
(وحدث أن يواكيم قَدِمَ في أيام العيد بين الذين يحملون
قرابين للرب، يقدِّم هباته في حضرة الرب. لكن كاتبًا من
الهيكل اسمه روبين، قال له وقد اقترب منه: "لا يليق منك
التدخل في الذبائح التي تُقدَّم لله، لأن الله لم يباركك،
طالما أنه لم يمنحك ولدًا في إسرائيل"، وانسحب يواكيم من
الهيكل باكيًا، مهانًا في حضور الشعب، ولم يعد إلى بيته،
لكنه مضى نحو قطعانه، وقاده معه الرعاة إلى الجبال، إلى
بلاد بعيدة)([12]).
فهو يشير إلى أن بيته وقطعانه كانا في مكان قريب من
الهيكل، ولا بد أن يكون هيكل بيت المقدس، فإنه هو المتبادر
من الكلمة عند إطلاقها كما لا يخفى.
وأما الجليل فهو اسم قديم لهذه المنطقة، ويرجع تاريخ هذه
التسمية إلى ما قبل موسى (عليه السلام)، حيث ورد في سفر
يشوع -الذي هو وصي موسى (عليه السلام)- ذكر الجليل على أنه
أمر معروف ومتسالم عليه([13]).
وفي أقل الفروض هو معاصر له، مما يكشف الخطأ الفاضح الذي
وقع فيه بعض الكتَّاب المسلمين، حيث عَنْوَنَ المقام
الكائن في بلدة قانا والمعروف بـ "الجليل"، ونسبه إلى عيسى
(عليه السلام)([14]).
ولقد غلب على الجليل اسم جليل الأمم، منذ أيام أشعياء
النبي([15])،
نظرًا إلى أن أكثر سكانه إن لم نقل كلهم كانوا من الأمم،
لا من بني إسرائيل.
وهذا يعني أنه من غير المحتمل أن يكون الهيكل المذكور في
بلاد الجليل، بل ما نطمئن إليه أن المراد به هيكل بيت
المقدس.
بقي أن نشير هنا إلى أنه توجد في قريتنا [دير قانون رأس
العين] -القريبة من بلدة القلَيْلَة موقع الضريح المذكور،
والقريبة من بلدة قانا كذلك- توجد قطعة أرض تشتمل على
أشجار زيتون وخروبة، بعضها سماوي موقوف باسم عمران على
أكفان([16])،
تُصرف على فقراء المسلمين، دون أن يُعرَف من هو عمران هذا،
ومن المحتمل قويًا أن يكون هو عمران القلَيْلَة، إذ لم
نعهد أحدًا أو شهرة أحد بهذا الاسم في الفترة القريبة منا.
فإذا صح هذا الاحتمال كان عمران من رجال المسلمين بلا ريب،
إذ من غير المحتمل أن يراد به والد السيدة مريم ÷، وقد وقف
أشجاره على فقراء المسلمين، كما هو ظاهر.
ولكنّه نبي
لا شك في أن مصطلح النبي المستعمل في مثل هذه المقامات لا
يدل على المعنى المتبادر من الكلمة للوهلة الأولى، وإنما
هو ناشئ من تساهل النّاس في استعمال المصطلح، وذلك أنهم
-بحسب العادة- يطلقون هذا اللقب على من ظهرت له كرامة
بنظرهم، سواء كانت صحيحة أم لا، بل نشأت من حكايا شعبيّة،
وقصص متخيَّلة، نتيجة ارتباطهم بعالم الغيب وعدم قدرتهم
على تفسير ظاهرة من الظواهر المرتبطة بالمقام المعيَّن أو
بصاحبه.
إن استطلاعًا بسيطًا لبعض الأماكن التي يطلق عليها اسم
النبي في جبل عامل، بل في لبنان عمومًا، تثبت هذه الحقيقة:
فمثلاً نجد في قرية عين قانا مقام النبي "محمد الباقر"،
وفي بلدة سجد قرب جزين مقام النبي "سُجُد"، وفي بلدة تول
مشهد النبي "فوار"، وفي بلدة محيبيب -قرب ميس الجبل- مقام
النبي "محيبيب" ، وهو منسوب إلى بنيامين بن يعقوب (عليه
السلام)، وقرب بلدة جُبَع (جباع حاليًا) مقام النبي
"صافي"، وفي بلدة مركبا مقام النبي "منذر"، وفي بلدة شحور
مقام النبي "شحور".
هذا في جبل عامل، وإذا ذهبنا إلى البقاع، وجدنا أسماء
أنبياء آخرين، كمقام النبي "جبرائيل" في الهرمل، ومقام
النبي "حام" في بعلبك، ومقام النبي "سام" في شمسطار، وغير
ذلك من المقامات المسماة بمقامات الأنبياء، مع أن أكثر
هؤلاء المذكورين، إن لم نقل كلهم، ليسوا من الأنبياء
قطعًا.
وفيما يرتبط بمقام النبي عمران محل الكلام، فإن إطلاق لفظ
النبي عليه متأخر جدًا، ويرجع إلى ما بعد الحرب العالميّة
الأولى، وأما قبل ذلك فلم يكن ذا أهمية تذكر، بل كانت
بجواره قرية تدعى "مزرعة عمران"، ولها دفتر نفوس، التحق
أهلها فيما بعد ببلدة القلَيْلَة، ولا يزالون يحتفظون
بسجلاتهم الخاصة -كما يبدو-، وقد ورد ذكرها في هدنة (684هـ
1285م) الموقّعة بين السلطان المملوكي قلاوون وملكة صور
باسم دير عمران([17]).
وربما يقال بأن إطلاق اسم الدير عليها يدل على أنها من
الحواضر المسيحيّة، وهو ما يعيد فرضيّة أن يكون عمران هو
والد السيدة مريم ÷ إلى الواجهة من جديد.
ولكنها مجرد فرضيّة لا تفيد بشيء، لأن كلمة "دير" في الأصل
اللغوي لا تعني المسيحيّة، لأن أصلها الدور أو الدار،
وبالتالي فهي تعني مكان السكن([18])،
وما أكثر القرى العامليّة التي تبدأ بكلمة دير، مثل دير
قانون، دير كيفا، دير دغيا، دير الزهراني، دير سريان،
وغيرها كثير. ومن المعلوم أن هذه القرى ليست مساكن للرهبان
النصارى، لعدم تقارب الأديرة من الناحية الجغرافيّة بهذا
المستوى، مع أن حياة الرهبان الأوائل كانت تعتمد على
العزلة والابتعاد عن حياة النّاس، وكثيرًا ما كانوا
يفضّلون العيش في الكهوف البعيدة.
ولو فرض أنها تدل على كونها حاضرة مسيحيّة، فهو لا يدل على
المدعى، لوضوح أن كلمة الدير في المسيحيّة تدل على مسكن
الرهبان، ومن المعلوم أن مساكن الرهبان كانت ذات بعد فردي
وحياة خاصة منعزلة لدى كل راهب، وهي لم تتخذ بُعدًا
جماعيًا في لبنان قبل القرن الثاني عشر الميلادي مع بدء
الحروب الصليبيّة.
وأما قبلها فكانت مساكن الرهبان هي المغاور والكهوف
والأماكن الوعرة من الجبال والوديان، كما كانت تتسم
بالعزلة والتوحد في الحياة.
هذا كلّه بالإضافة إلى أنه لم يكن من المعهود في حياة
الرهبنة أن تكون مساكنها حول قبور الأولياء والصالحين([19]).
وأما كلمة عمران فلا تدل على ملكيّة الأرض، أو انتماء إلى
الشخص أو نحو ذلك، فإن كثيرًا من القرى والمدن تسمى بأسماء
أشخاص لهم موقع في نفوس النّاس، دون أن يعني ذلك انتسابهم
من الناحية الواقعيّة إليها كذلك، كما يظهر جليًا من
ملاحظة أسماء كثير من القرى والبلدات.
مع الأب يوسف يمّين
من المفارقات الغريبة واللافتة أن نجد كاهنًا مسيحيًا هو
الأب الدكتور يوسف يمّين قد أصدر كتابًا حول ولادة السيد
المسيح (عليه السلام) أسماه "المسيح ولد في لبنان لا في
اليهوديّة"، حاول جهده فيه أن يثبت علاقة السيد المسيح
(عليه السلام) بقانا الجليل، ومزرعة عمران، يغلب عليه
الطابع الخطابي، دون العلمي الاستدلالي إلا قليلاً.
والغريب في الأمر إنكاره نَسَب السيد المسيح المذكور في
إنجيلَي متى ولوقا، بل واتهمهما بالتناقض، وافتعال النَسَب
الذي يرجعه إلى داود (عليه السلام)، بل هو أنكر أن يكون
إسرائيليًا أصلاً، وزعم أنه رجل كنعاني، لا علاقة له
باليهود، وهذا في الحقيقة إنكار للحقيقة القرآنيّة، وما
تسالم عليه الإنجيليّون والكنيسة الرسميّة على العموم.
وما يزيد الأمر غرابة، أنه استند إلى مقالة الدكتور وجيه
أبو خليل في إثبات أن صاحب الضريح "عمران" هو والد السيدة
مريم العذراء ÷، وأن اسمه في العبريّة "يواكيم" الوارد في
الأناجيل المنحولة كما تقدم، رغم عدم تعرّض الكنيسة
الرسميّة له من قريب أو بعيد، حسب اطلاعنا.
وهذا يعني أنه إذا استند إلى هذه الأناجيل في إثبات اسم
والد السيدة مريم ÷ فلا بد له أن يلتزم بكونه إسرائيليًا،
كما صرّحت به هذه الأناجيل([20])،
وهذا يستلزم خروجه من سلك الكهنوت الرسمي.
أما أن يكون انتقائيا، يأخذ ما يريد من دون حجّة ولا
بيّنة، فليس من العلميّة في شيء.
وإذا لم يكن مستنده هذه الأناجيل المنحولة، فلم يبيِّن لنا
هذا المستند ليمكن الرجوع إليه وملاحظة ما فيه.
وأما حمْلَتُه على الأناجيل القانونيّة، واتهامها بالتناقض
والتلاعب والتحريف، فيستلزم خلو المسيحيّة عن المستند
الشرعي والقانوني لبقائها وصحتها، وهو ما ينسحب على قداسة
المسيح نفسه، وعلى السيدة العذراء ووالدها، فتسقط شرعيّة
هذه الديانة وقانونيتها من الأساس.
وليت شعري ما الذي يبقى للأب الدكتور يوسف يمّين بعد كل
هذا، من بعد بحثه وتجشمه عناء الكتابة والتأليف.
كلمة أخيرة
وهكذا يظهر أن المقام الذي يحمل اسم عمران في بلدة
القلَيْلَة العامليّة لا يمتُّ إلى السيدة العذراء ÷
بِصِلَة، فإن الأدلة والشواهد التاريخيّة تؤكِّد أنه ضريح
رجل مسلم وإن كان مجهول الهوية، وأما ما ذكروه من أدلة على
أنه يرجع إلى ما قبل الإسلام، فلا يدل عليه أي دليل ولا
يرجع إلى أي معنى محصّل. والله تعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
([1])
أبو خليل، وجيه، القلَيْلَة ممر الأنبياء ومقر
الأولياء، دار عون، 1998، ص191، عنه.
([2])
القلَيْلَة،
المصدر السابق، ص 190-192.
([3])
راجع: معجم رجال الحديث، ج13.
([4])
بحار الانوار، ج13، ص7.
([5])
راجع مثلاً: بحار الأنوار، ج13، ص36.
([7])
المصدر نفسه، ج14، ص202.
([8])
راجع مثلاً: المصدر نفسه، ص303.
([9])
كإنجيل يعقوب، وإنجيل الطفولة (أو متى المنحول):
راجع على سبيل المثال: الأناجيل المنحولة، ترجمة
إسكندر شديد، دير سيدة اللويزة، 2004، ص32، وص81.
([10])
آل عمران من الآية 37.
([11])
يلاحظ بحار الأنوار، ج14، باب قصص مريم وعيسى (صلى
لله عليه وآله).
([12])
الأناجيل المنحولة، مصدر سابق، ص82.
([14])
أماكن مقدسة من لبنان، علي خير الدين، دار المحجة
البيضاء، 2012، ص207.
([16])
المراد بالسماوي هو تسبيل أو تمليك الشجر مع بقاء
عين الأرض في ملك المالك، ويمكن أن يُجعل مثالاً
لذلك إرث الزوجة، بناء على أنها ترث في الشجر دون
عين الأرض. والمراد بالوقف على الأكفان هو أن
يُشترى بنماء العين الموقوفة أكفان للموتى.
([17])
الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل، علي داود جابر،
دار الهادي، بيروت، 2005م. ص370.
([18])
يمكن مراجعة معجم البلدان لياقوت الحموي ج2 ص495،
ومعجم أسماء المدن والقرى اللبنانية، أنيس فريحة
ص71.
([19])
للتوسع في هذه النقطة يمكن مراجعة كتاب: "ظاهرة
الحياة الرهبانية - نشأتها. طرقها. تنظيمها"، الأب
جوزيف قزي، والأب إيميل عقيقي، دير سيدة النصر،
1999.
([20])
الأناجيل المنحولة، مصدر سابق، (إنجيل يعقوب)،
ص32، وإنجيل متى المنحول، ص81، من الأناجيل
المنحولة، وإنجيل مولد مريم، ص117 منه.
|