التشيُّع ليس حركة فارسية
ذُكر لبداية التشيُّع احتمالات أخرى، لا نرى لذكرها داعيًا
لأنّها اقتراحات مَحْضة. وأهمُّها أنّ بداية التشيع هو
الحركة الفارسية لأنّ [الفرس لما امتُحِنوا بزوال الدولة
عنهم على أيدي العرب، تعاظَمهم الأمر، وراموا كيد الإسلام
بالمحاربة، فرأوا أن كيْده على الحيلة أنْجَحُ، فأظهر
قوْمٌ منهم الإسلامَ، واستمالوا أهل التشيُّع بإظهار محبة
أهل البيت (عليهم السلام) واستبشاع ظلْم علي (عليه
السلام)، ثم سلكوا بهم مسالك شتّى حتى أخرجوهم عن طريق
الهدى]().
وهذا غير صحيح، لأنّ بلاد فارس كانت منذ الفتح على المذهب
السني وظلّتْ كذلك حتّى انتشر فيها التشيُّع فيما بعد().
مع أن هذه الدعوى تدل على سبق وجود التشيع الذي ادُّعِيَ
أن الفرس قد استمالوه.
وهذه هي النظرة التي أشرنا إليها سابقًا والتي تمثّلَتْ
بطَعْن المتأخرين في سلمان المحمدي الذي قال عنه الرسول
(صلى الله عليه وآله): "سلمانُ منّا أهلَ البيت"([43])،
وهي تتنافى مع مبادئ الإسلام من نَبْذ العنصرية والعرقية
وعدم كَوْن الإسلام وَقْفًا على أُمّة دون أخرى، وقد قال
الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}().
والحاصل: أنّ بعض الحوادث دَعَتْ بعض الكتّاب إلى اعتبارها
مبدأ لمذهب التشيُّع، فبعضهم نظر إلى عقيدة الولاء لعلي
(عليه السلام) فأرّخ المذهب بعد السقيفة، وبعضهم نظر إلى
عقيدة النَّصّ فأرّخ بفترة اشتهار النص بنَظَرِه، وبعضهم
نظر إلى الأسلوب المنهجي فأرّخ به.. وهكذا.
البداية الحقيقية للتشيع
وأما الشيعة فينظرون إلى التشيع من ناحية النص والتعيين،
ولذا فإنّ بدايته الحقيقية كانت من زمن الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله)، وظهَرَتْ هذه العقيدة كمذهب يَحْتَجُّ له
أصحابُه يوم السقيفة وبعدها، ويدلُّ على ذلك أمور دَلَّتْ
على بداية المذهب وعقيدة النص، وقد تضمّن بعضُها إطلاقَ
كلمة التشيع على علي (عليه السلام) وأتْباعه بهذا المعنى،
ونشير هنا إلى بعضها:
منها: ما ورد في تفسير
قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}():
ففي تفسير ابن جرير الطبري
بسنده عن أبي الجارود عن محمد بن علي، {أولئك خير البرية}:
فقال النبي
(ص):
"أنت يا علي وشيعتك"().
بالإضافة إلى ما في تاريخ
ابن
عساكر: عن علي
قال: قال لي رسول الله
(ص):
أنت وشيعتك في الجنة().
وما ورد في النهاية لابن
الأثير
-عن النبي
(ص)
أنه قال لعلي-: ستقدم أنت وشيعتك راضين مرضيين..().
ونحن لا نفهم من هذه
النصوص
وغيرها الطعْنَ بغيرهم، لأنّ التفضيل لا يعني ذلك.
وقال السيوطي في
الدر
المنثور في ذيل الآية، قال: وأخرج ابن عساكر عن جابر بن
عبد الله قال: [كنّا عند النبي
(ص)
فأقبل عليٌ
فقال
النبي
(ص): والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم
القيامة]().
وقال أيضًا: أخرج ابن
عدي
عن
ابن عباس
أنه لما نزلَتْ الآية قال
(صلى الله عليه وآله):
[هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين].
وقال أيضًا: أخرج ابن مردويه عن
علي
(عليه السلام)..
وذكر نحوه.
وقال ابن حجر عند ذكر
الآية:
[أخرج الحافظ جمال الدين
الزرندي
عن ابن عباس: وذكر مثله وأنه
(ص)
قال لعلي (ع) : [تأتي أنت
وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابًا
مقمحين، قال: ومن عدوي؟ قال
(ص)
: من تبرّأ منك ولَعَنَكَ]().
ونحوه: ما روي في
كنوز
الحقائق([51]).
ومنها ما روي
عنه
(صلى الله عليه وآله)
أنه قال: ما تريدون من علي؟
إنّ عليًا مني وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي([52]).
وقد ورَدَتْ
الولاية
في روايات أخرى، مثل ما روي عنه
(صلى الله عليه وآله)
أنّه قال لوهب بن حمزة لمّا
أراد الوقيعة بعلي
(عليه السلام)
في صُحْبته من المدينة إلى
مكة: [لا تقل هذا، فهو أوْلى الناس بعدي]([53]).
وروى الخطيب
البغدادي([54])
مثل ذلك بِسَنَدٍ واصِلٍ
إلى عليٍّ
(عليه السلام)
نَفْسِه.
ومنها حديث الدار والثقلين
والمنزلة والغدير وغيرها، والتي أوْجَبَتْ أنْ تكونَ
المشايعة لعلي
(عليه السلام)
لدى كثير من الصحابة
المميزين في زمن الرسول العظيم
(صلى الله عليه وآله)
وبعده مباشرة، بحيث جعلوه
إمامًا لهم، وإذا لم يصبح كلّ أصحاب الرسول الكريم
(صلى الله عليه وآله)
كذلك فهذا لأنه كان قد ظهر في المرحلة الأولى من حياة
الأُمّة الإسلامية في عصر
النبي
(صلى الله عليه وآله)
اتجاهان رئيسيان مختلفان، أوْجبا انقسامًا عقائديًا بعد
وفاة الرسول الأكرم
(صلى الله عليه وآله):
الاتجاه الأول:
الذي يؤمن بالتعبد بالدين والتسليم المطلق لحكمه في كل
جوانب الحياة حتى السياسية منها.
الاتجاه
الثاني:
الذي يؤمن بالدين في نطاق خاص، ويرى إمكانية التصرُّف على
أساس الدين في سائر شؤون الحياة الأخرى التي منها شؤون
السياسة والحكم، وفقًا للمصالح التي يدركها، وكان يمثل هذا
الاتجاه أشخاصٌ من كبار الصحابة مثل الخليفة عمر بن
الخطاب، الذي ناقش الرسول
(صلى الله عليه وآله)
في حياته في مواضع عديدة
إيمانًا منه بجواز ذلك ما دام يرى أنه لم يخطئ المصلحة
بنظره، ولذا جاهر الرسول
(صلى الله عليه وآله)
في هذه الموارد، كمَوْقفه
في صلح الحديبية ومتعة الحج وغيرهما من الموارد، وقد انعكس
كِلا الاتجاهين بصورة عملية، وظهرت آثارهما في موارد في
حياة الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وبعد رحيله مباشرة، منها:
أنه جهز في مرضه الذي مات فيه جيش أسامة ولعن من تخلف عنه،
واختلفوا فيما بينهم في تنفيذه، بين امتثال أمره أو تأخيره
لأن قلوبهم
لا
تسع مفارقة رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
والحال هذه ليروا ماذا
سيحدث، والغرض من هذا الاختلاف هو إقامة مراسم الشرع([55]).
وتفصيل القصة([56])
أنه لما مرض رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
دعا أسامة بن زيد إلى مؤتة
حيث قتل أبوه زيد بن حارث فيها، وقال له: قد ولَّيتك على
هذا الجيش، فلم يبقَ أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا
كان في ذلك الجيش، منهم أبو بكر وعمر، فتكلم القوم وقالوا:
يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار، فغضب رسول
الله
(صلى الله عليه وآله)
وخرج عاصبًا رأسه فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال: ما مقالة
بلغتني عنكم بطعنكم في تأميري أسامة؟ لئن طعنتم في تأميري
أسامة فقد
طعنتم في تأميري أباه من قبل، وأيمُ الله، إنه كان
لَخليقًا بالإمارة، وابنه من بعده لخليق بها، وإنهما لَمِن
أحب الناس إليّ.
وجاء المسلمون يودّعون رسول
الله
(صلى الله عليه وآله)
وينضمّون إلى عسكر أسامة،
وبقي التثاقل والتردد حتى مات الرسول
(صلى الله
عليه
وآله)
فرجع أسامة ومعه أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
وقد مات، وركّز اللواء عند
باب الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وهو مغلق، وعلي وبعض بني
هاشم مشتغلون بإعداد جهازه وغسله
(صلى الله عليه وآله)،
فقال العباس لعلي
(عليه السلام)
وهما في الدار: امدد يدك
أبايعك، فتقول الناس: عمُّ رسول الله بايع ابن عم رسول
الله فلا يختلف عليك اثنان، فقال له: أَوَيَطمعُ فيها يا
عمّ طامع غيري؟ قال: ستعلم.
فلم يلبثا أن
جاءتهما
الأخبار بما جرى في السقيفة.
وذكر ابن هشام في بعث جيش
أسامة أنه
(صلى الله عليه وآله)
خرج عاصبًا رأسه ثم قال: أيها الناس إني أوشك أن أُدعى
فأُجيب وإني
تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وإن اللطيف الخبير
أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف
تخلفوني فيهما([57]).
وهذه الحادثة كافية للتدليل
على الاتجاهين المذكورين.
وذكر ابن أبي الحديد في شرح
النهج تعليقًا على الحادثة([58])،
بأن الشيعة تزعم أن الرسول
(صلى الله عليه وآله)
كان يعلم موته، وأنه سيّر
عمر
وأبا بكر في بَعْث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما، فيصفو
الأمر لعلي
(عليه السلام)
ويبايعه من تخلّف من
المسلمين بالمدينة على سكون وطمأنينة فلا تكون منهما
منازعة وخلاف، لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة
وتحتاج في نقضها إلى حروب شديدة.
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو أنّه: إذا كان يعلم أو يظن بدنوِّ
أجله فلماذا أصرّ على تسريح الجيش إلى ما وراء حدود الحجاز
مع وجود المنافقين في المدينة؟ ولماذا ضمّ إليه أبا بكر
وعمر وحرص على اشتراكهما، مع أن التاريخ لا يشهد لهما
بالبطولة في
حرب؟
ولماذا كان أمير الجيش هو أسامة؟
والجواب عن هذا السؤال:
أما بالنسبة لوجود
المنافقين،
فلاطمئنانه ببقية الصحابة وبني هاشم.
وأما تأمير أسامة
فلأنه
كما قال
(صلى الله عليه وآله):
"هو حَريٌّ بها"، بالإضافة إلى رفع شأن الموالي تمشيًا مع
مبادئ الإسلام، وردًّا على البقية الباقية مما كان عالقًا
بأذهان المسلمين.
وأما بالنسبة لإرسال الجيش
فلعله للسبب الذي ذكره ابن أبي الحديد وغيره.
الحادثة الثانية:
في
حياته، ما ذكره المؤرخون وأصحاب الفرق من أنه عندما مرض
رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
واشتدّ به المرض الذي مات
فيه، قال: [ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابًا لا تضلّوا
بعدي]، فقال عمر: إن النبي قد غلبه الوجع، حَسْبُنا كتاب
الله.
وكثر اللغط فاختلف أهل البيت
واختصموا،
فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم النبي كتابًا لن تضلوا
بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر.
فلما أكثروا اللغو
والاختلاف قال لهم النبي
(صلى الله عليه وآله):
قوموا عنّي، لا ينبغي عندي التنازع.
قال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين
كتاب
رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
([59]).
وفي رواية الطبري: "إن
النبي ليهجر"([60]).
ومثله ما رواه المفيد، وذكر أنه
قال:
[ائتوني بدواة
وكتف،
ثم أغمي عليه فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفًا، فقال له
عمر: ارجع فإنه يهجر، فرجع، وأضاف: ندموا وتلاوموا وقالوا:
لقد أشفقنا من خلاف رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
فلما أفاق قال بعضهم: ألا نأتيك بدواة وكتف؟ فقال:
أبَعْد
الذي قلتم لا! ولكنني أوصيكم بأهل بيتي خيرًا، وأعرض بوجهه
عن القوم فنهضوا]([61]).
وهذا أيضًا يدل على الاتجاه
المذكور في زمانه
(صلى الله عليه وآله)،
ولم يعلق عليه أحد فيما نعلم إلا ابن أبي الحديد حيث قال:
[وكان في أخلاق عمر وألفاظه
جفاء
وعنجهية ظاهرة، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن
قد أراد، ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرًا ما لم
يقصده،
فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه
وآله. ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها! ولكنه أرسلها على
مقتضى خشونة غريزته، ولم يتحفظ منها. وكان الأحسن أن يقول:
"مغمور" أو "مغلوب بالمرض"، وحاشاه أن يعنى بها غير ذلك!]([62]).
واستشهد بكلام له مع خالد
بن الوليد بعد مقتل مالك بن نويرة، وبكلامه مع الرسول
(صلى الله عليه وآله)
في صلح الحديبية، وبتحريمه للمتعتين اللتين كانتا على
عهد
رسول الله
(صلى الله عليه وآله).
فالمبرر لهذا الكلام
-بنظرهم- إذًا هو عمق الاتجاه الآخر، لأنه لم يكن المانع
من استجابة طلبه
(صلى الله عليه وآله)
إلا أنهم كانوا يعرفون ماذا يريد أن يكتب،
بعد
أن تكرر منه هذا الكلام مقرونًا بالكتاب والعترة الطاهرة
(عليهم السلام)،
خصوصًا بعد أن كملت الشريعة، ولم يقصد بصيانتهم عن الضلال
إلا في السلوك ومخالفة النص الذي يدعيه الشيعة وتأويله.
ومما يدل على وجود التشيع
في عهد الرسول
(صلى الله عليه وآله)
حادثة السقيفة، كما ذكرها
المؤرخون وكتّاب الفِرَق([63]).
ونشير هنا إلى ما قاله الأشعري مما
يدل
على وجود التشيع في عهد الرسول
(صلى الله عليه وآله)،
قال: [وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم
اختلافهم في الإمامة وكان الاختلاف بعد الرسول
(ص)
في الإمامة، ولم يحدث خلاف
غيره في حياة أبي بكر وعمر، إلى أن وُلّيَ عثمان] ثم ساق
خبر السقيفة.
فإن هذا لا يدل على استحداث
مذهب التشيع في زمن الإمام الصادق
(عليه السلام)
أو على بقية الاحتمالات
الآنفة، لأنه لولا وجود هذه العقيدة في زمن الرسول
(صلى الله عليه وآله)
من النص لما حدث هذا الذي
حدث، عند أصحاب الاتجاه الثاني ومن يقابلهم، ولما تخلف علي
(عليه السلام)
عن البيعة وناقشهم واحتج
عليهم.
وإذا لم تكن هذه الجماعة من الشيعة
منظَّمة
كما هي عليه في العصور المتأخرة فذلك لا يعني نشوء المذهب
بعد ذلك العصر، لأن كل المذاهب بهذا الاعتبار قد نشأت في
العصور المتأخرة، بعضها في قِبال الآخر، وكَرَدّ عليه،
وكان أسبق هذه المذاهب من حيث العقيدة بالمضمون
هو
المذهب الشيعي، لأن الكل مجمعون على أن الخلاف في الإمامة
كمنهج سياسي منظم، نشأ بعد مقتل عثمان أو بعد واقعة
التحكيم أو غيرهما من الأسباب ، ولم يحدث مذهب المعتزلة أو
الأشاعرة أو مذهب المحدثين "السّنة"، إلا بعد تلك العصور،
فأين كان الاعتزال والأشعرية وأين كان الرأي والقياس
والاستحسان؟
لقد حدثت كل هذه المذاهب بعدما اتضح لهم مذهب الإمامية،
ووقع هذا الخلاف بين المسلمين فاعتنق كل فريق الاتجاه الذي
اقتنع به، أو فُرض عليه حتى صار مذهبًا للأجيال المتأخرة،
وكل هذه المذاهب ما عدا مذهب الشيعة مبنية على التسليم
بحوادث تاريخية عن وجه صحيح،
ليكون قاعدة للمذهب على النحو الذي صدرت عليه تلك الحادثة،
كل ذلك مع أنهم لا يؤمنون بالعصمة.
أما مذهب التشيع فهو منذ
اليوم الأول مبدأ وعقيدة، يتمثل في تفضيل علي
(عليه السلام)
وأحقيته بالخلافة، للنص عليه بنظر الشيعة، ولكنه مرّ
بأدوار يعتبر
كل
منها نقطة تحول في تطور المذهب وتوسعه حسب تطور المسائل
التي كانت تطرح على الساحة الإسلامية، وكان أحد هذه
الأدوار بعد الرسول
(صلى الله عليه وآله)
حادثة السقيفة، وهي حادثة
تاريخية يعتبرها الشيعة خروجًا على النص، وعلى كل القواعد
الثابتة التي آمن بها المسلمون، لأنهم يرون أن الله ورسوله
(صلى الله عليه وآله)
قد قضوا في هذا الأمر، وإذا
قضى الله ورسوله أمرًا فما كان لهم الخِيَرة، بينما يرى
الآخرون أن لهم الحق في الاستفادة من هذا الدين من الناحية
الدنيوية، فلو فسحوا المجال لعلي
(عليه السلام)
لما خرجت منه، كما صرحوا
بذلك في ما نعرفه، ولمَا عادت إليهم، كما يرون بأن لهم
الحق في أن يتصرفوا كواحد من الاتجاهين اللذَيْن عرفتهما،
ولقد وقعوا في كثير من التناقضات، ولم يكونوا ملزمين
بالإجابة عنها، لأنها كانت ضمن اتجاههم المذكور، والعصمة
غير لازمة بنظرهم، ولكن المتأخرين بعدهم أخذوا يبرمجون
الوقائع وينهجون على أساس القواعد الدينية فلم يتم منها
شيء، لأنها مليئة بالتناقضات.
فإذا لم تكن الخلافة نصًّا
من الله سبحانه وتعالى أو رسوله
(صلى الله عليه وآله)،
فلماذا نصَّ الأول على الثاني والسابق على اللاحق؟ وإذا
ثبت حق الوصية بها عند الموت، فلماذا لم يكن لرسول الله
(صلى الله عليه وآله)
هذا الحق!؟
ولماذا كان رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
يهجر دون أبي بكر وعمر
وسائر الخلافات التي جاءت فيما بعد!؟ ولماذا تُقبَل
وصاياهم ولا تُقبَل وصايا الرسول
(صلى
الله عليه وآله)؟!
وما هو الصحيح في نظام الخلافة: هل هو النص أم الشورى أم
الإجماع، أم الاستعجال في الأمر والارتجال فيه قبل دفن
الرسول
(صلى الله عليه وآله)؟!
أم القوة؟ أم الفَلْتة [التي وقى الله المسلمين شرها، حسب
تعبير الحاكم الثاني عمر]؟
من أجل ذلك كله حاول المتأخرون تصحيح التصرفات المذكورة
فلم يفلحوا لأنها تصطدم بنصوص القرآن وبالقواعد الثابتة
عند المسلمين، فاتخذوا مسارًا
آخر
في توجيه تلك التصرفات، وهو سلخ الصفة الدينية والشرعية عن
الخلافة الإسلامية، وإعطاؤها صفة الشأن الدنيوي الذي يتصرف
فيه كل إنسان مسلم بحسب حاجته ومصالحه الإسلامية، ثم
يغورون في الماضي ليفسروا تصرفات الرسول
(صلى الله عليه وآله)
على هذا الأساس، كمحاولة
أخرى لإعطاء صفة الشرعية مع الوقوع في التناقض مرة أخرى،
فإما شرعية أو دنيوية في ظل الشريعة أو دنيوية محضة.
قال بعضهم: [بدأت الجماعة المسلمة
تكوين الدولة العربية الإسلامية منذ أن تمّت بيعة العقبة
بين الرسول
(ص)
وبين ممثلي الأوس والخزرج،
ولكن نظام الخلافة الذي قام عقب وفاة الرسول
(ص)
قد اختلف جوهريًا عن نظام
حكم هذه الدولة على عهد الرسول
(ص)،
فلقد كانت للرسول سلطات الدولة إلى جانب سلطان الدين، ثم
اختتمت بوفاته حصة الوحي الذي يصل السماء بالأرض، وترك
الناس وعقولهم يديرون بها شؤونهم، وخاصة شؤون الدنيا في
ضوء الوصايا والإرشادات والقواعد الكلية للدين، فلم تكن
ملكية وراثية
ولم
تكن قائمة على نظرية الحق الإلهي، بل لقد أخرج قادتها بوعي
(الوعي في كيفية مخالفة رسول الله مع عدم إعلان الحرب
عليه) الخلافة من بيت النبوة في البداية (هذه الكلمة جاءت
لتبرير مواقفهم فيما بعد من خلافة علي) حتى لا تجتمع
النبوة والخلافة لا في شخص واحد، بل ولا في بيت واحد
فتتأبد فيه بفعل عوامل الدين وقداسته]().
ولكننا نسأل: هل كان ذلك
منهم لأنه شأن من شؤون دنياهم فلذلك خافوا أن تتأبد في علي
(عليه السلام)
وبنيه؟ أو أنه أمر ديني غفل عنه رسول الله
(صلى
الله
عليه وآله)
ولم يغفلوا هم عنه؟ أو أنه
لم يغفل عنه ولكن لا تجب إطاعته؟ فلماذا تجب إطاعة غيره
إذًا في عدم جمع النبوة والرسالة في بيت واحد؟ بينما يرى
الشيعة أن الخلافة هي حق إلهي ووصية من الله -تعالى- على
لسان رسوله
(صلى الله عليه وآله)،
وقد حصل ذلك فعلاً في نصوص الكتاب، والسُّنّة اعتقدوا
بذلك، وسار عليه جملة من المسلمين في زمن الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وبعد موته مباشرة، وقد
دلَّت على ذلك الوقائع التاريخية وكثير من النصوص. فلماذا
التمحّل؟ وما هي الفائدة من هذا الخبط حتى في بداية
المذهب؟
وإنني لا أرى لذلك سببًا
وجيهًا إلا محاولة إبعاده عن صفة الشرعية أصالةً، أسوة
بالمذاهب السنية الأخرى "المعتزلة والأشاعرة والمحدثين"،
ولكن في ضوء الوصايا والإرشادات والقواعد الكلية للدين،
كما عرفت من الكلام الآنف، على أحسن التقادير لتصحيح الشيء
الواقع، فلذلك صاغوا النزاع على هذا النحو فقالوا:
[إن المسلمين انقسموا إلى
معسكرين، يقول
أحدهما
بأن السبيل لأداء واجب الإمامة هو أن يختار جماعة من
المسلمين إمامهم ويبايعونه، لأنهم يثقون بمجموع الأمة،
ولذلك حمّلوها الأمانة لعصمة جماعة المؤمنين من أن تجتمع
على ضلالة، والإمامة شأن من شؤون البشر، يقررون فيها ما
يتفق ومصلحتهم في هذه الدنيا، التي على صلاحها يترتب صلاح
الدين، بينما يرى أهل المعسكر الآخر أهل النص أن السبيل هو
التعيين من الله تعالى لشخص الإمام، فهو حق إلهي وبذلك
يكون الشيعة قد جرَّدوا مجموع الأمة من الثقة التي تؤهلها
لحمل أمانة اختيار الإمام]().
ولسنا الآن بصدد الاستدلال
على أحد الرأيين، ولكن لبيان تعليل هذا الانقسام وهذا
الخلاف أشرنا إلى ذلك، ليظهر بوضوح أن المحاولة ترمي إلى
التركيز على استحداث مذهب التشيع، بينما تدل مجموع الكلمات
والاستدلالات التي يذكرونها، كما سيأتي وأشرنا إليها، على
أن هذا النزاع كان منذ اليوم الأول في زمن الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وبعد وفاته، ولا أدري كيف يحاولون
الاستدلال
بالإجماع ويرمون الشيعة برد الإجماع!؟ مع أن الأمة مع هذا
الخلاف لم تجتمع على شيء لحد الآن، لا في اليوم الأول لأن
خلاف السقيفة قد شمل جميع المسلمين، ولا فيما بعده لأن
الخلافة كانت بعد ذلك بالنص الذي يشنعون به على الشيعة.
وإن أردنا أن نتعامل مع هؤلاء على أساس حسن الظن الذي أمرت
به الشريعة الإسلامية، فالذي دعاهم إلى ذلك هو قلة العدد
الذي كان يمثل مذهب الشيعة عمليًا في الصدر الأول، نسبةً
إلى بقية المسلمين الذين تناحروا يوم السقيفة وبعده في ما
جرى من الحروب على هذا المنصب،
فلقد كان هؤلاء المسلمون بسلوكهم يرفضون فكرة النص، فكان
يدّعيها كل لنفسه، أو لصنفه، فاعتبر الكتَّاب هؤلاء كلهم
على اختلاف مذاهبهم اتجاهًا واحدًا في قبال فكرة النص.
وإذا نظرنا إلى الحكومة الدنيوية التي يدّعون أنها من الحق
الطبيعي للمسلمين، على أنها هي السبب في اعتبار هذا
الاتجاه أكثرية، نقول: بأن هذا النوع من الانقسام خصوصًا
لا يصح جعله الأساس في تمييز مذهب عن آخر، في خصوص
الانقسامات العقائدية
المتكافئة
في الأصالة، والمختلفة في تحديد معالم الرسالة، خصوصًا إذا
ابتدأنا من نقطة الصفر ولم نفترض شيئًا مسلَّمًا ومفروغًا
عنه على أساس أنه وقع فلا بد من تصحيحه، وبالأخص إذا أخذنا
بعين الاعتبار أن كلاً كان يجرّ النار إلى قرصه، فلا يصح
جعله واحدًا من اتجاهٍ مقابلٍ للاتجاه الآخر، بل إن
الاتجاهات على هذا كانت متعددة، فلا أقلية ولا أكثرية.
وبعد إجماع المسلمين على
وجوب نصب الإمام، ونضوج هذه الفكرة في تصورهم في حياة
الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وبعد وفاته مباشرة، فليس من
الممكن عزل الرسول
(صلى الله عليه وآله)
عن التفكير بهذا الواجب كلية -كما أشرنا إلى ذلك-، بل كان
أهم القواعد التي
يجب
أن يفكر بها
(صلى الله عليه وآله)
لصيانة الدعوة كدعوة خالدة
من الناحية التشريعية، لأنه لم يكن يخفى عليه سواء عن طريق
الوحي أو عن طريق التفكير المنطقي كصاحب رسالة وقائد، أنّ
هذا الترك سوف يؤثر على مستقبل الدعوة، مع علمه بالأخطار
التي سوف تواجهها من الداخل بسبب الصدمة بوفاته ومواجهة
الأمة مسؤولية كبرى بدون مفهوم مسبق عن هذه المسؤولية، مما
يجعلهم يتصرفون تصرفًا سريعًا يبعث على الاضطراب كما ظهر
في السقيفة، ولم يكن هناك ما يقنع الرسول
(صلى الله عليه وآله)
بترك هذا الأمر، بل كان
يعلم بالتناقضات الموجودة في خبايا النفوس على أساس
الانقسامات إلى مهاجرين وأنصار، وقرشيين وغيرهم، موالي
وأحرار، مما برز قبل موته وعند مرضه كما حصل في جيش أسامة،
وفي النزاع على موضع دفنه، وفي حوار السقيفة بالذات الذي
مثّل كل هذه التناقضات، بالإضافة إلى المخاطر الخارجية من
الأمم المحيطة بهم ومن المنافقين الذي كانوا يكيدون له
(صلى الله عليه وآله)
ولرسالته في حياته.
فكيف يمكن، والحال هذه، أن
يقتنع الرسول
(صلى الله عليه وآله)
كصاحب رسالة -بِغَضّ النظر عن الرعاية الإلهية للرسالة من
الناحية التشريعية لا من الناحية الدنيوية كما يقولون-
بموضوعية التفرق الذي يحدث بعده، وبسلامته؟ ولماذا نقبل
افتراض أن الصحابة أعرف منه
وأحرص
حتى بادروا إلى ذلك فور وفاته!؟
لذلك كان اللازم أن يحسب
(صلى الله عليه وآله)
لذلك حسابه، وقد حسبه ولكن على ضوء المجتمع الإسلامي الذي
لا تزال تعيش في زوايا نفسه ظلال من المجتمع الجاهلي، لا
تؤثر على واقعه وجوهره كمسلم، ولكنها تؤثر على هذا المجتمع
كقائد وحافظ لهذا الإسلام،
فمعنى
الترك من قِبَله هو جعل قيادة الأمة بيد هذا المجتمع، وهو
خلاف المفروض الذي هو أن يحسب لهذا الأمر حسابه ويمهد له
في هذا النوع من المجتمع، فكان مكلفًا بصقل هذه النفوس،
وعملية الصقل هذه تتنافى مع المفاجأة بتنصيب شخص يخلفه
مباشرة وبدون مقدمات، لأنها من صميم مشاكلها النفسية،
فلذلك لم يبادر إليها إلا بمقدار ما يغرس البذرة لتكون
متدرجة وبعيدة عن المفاجأة، لذلك غرسها على مراحل.
لا نقول ذلك كنظرية وافتراض، بل نفهمه صراحة من مجموعة
الأحاديث في مختلف المناسبات، بالعبارات المختلفة التي
أوصلتهم تلقائيًا إلى
النتيجة
التي كان يقصدها، وقد ظهر جليًا في موقفهم من بعْث أسامة،
ومن طلبه الكتف والدواة حتى لا يضلوا، ومن حديث الغدير
وغيره من الأحاديث التي سبقت ذلك بنفس العبارات، فقد كانوا
من مجموعة هذه الأحاديث يتوقعون صدور مثل هذا الأمر منه،
بشكل من الأشكال، وقد صدر في حجة الوداع، ولذلك فعلوا ما
فعلوه في جيش أسامة، وفي مرضه
(صلى الله عليه وآله)
وعند موته.
ويدل على فهمهم لهذا الأمر
أنّ أبا بكر نفسه لم يشأ أن يترك الأمر بدون التدخل، لذلك
كان يستقيلها في حياته ويعتذر عن تسرّعه بقبولها بأنه شعر
بخطورة الموقف، فيقول بأن [رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
قُبِض والناس حديثو عهد
بالجاهلية، فخشيت أن يفتتنوا، وأن أصحابي حمَّلونيها]([66])،
ثم أوصى بعده إلى عمر لعدم ثقته بالأمة، بموجب الكلام
الآنف.
وكذلك عمر، وقد بلغت الأمة
درجة من التركيز السياسي والاجتماعي، نراه يوصي إلى ستة،
بعدما شعر بخطورة التسرع يوم السقيفة في قوله المعروف:
[كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها!
فمَنْ عاد إلى مثلها
فاقتلوه!]([67]).
فإذا كان الشيخان كذلك،
فالرسول
(صلى الله عليه وآله)
أولى منهما بمعرفة هذه
المخاطر، ولذلك يقول الشيعة ويسندون قولهم بأقوال الرسول
(صلى الله عليه وآله)،
بأنه اتخذ من موضوع الخلافة موقفًا إيجابيًا من خلال ما
تواتر عنه من الأحاديث والوقائع.
ومما يدل على إعداده
وتهيئة
النفوس لهذا الإعداد: النصوصُ التي لا تقلّ عن هذه
المقدمات وعن هذا الإعداد، والتي صرّح فيها بإسناد إمامة
الأمة إلى علي بن أبي طالب
(عليه السلام)،
كما لا تقل الآيات المفسرة به عن ذلك، بِغَضِّ النظر عن
كون بعضها غير دالٍّ على الخلافة، بل على الفضل، وإنْ كان
البعض الآخر صريحًا بنظر الشيعة في خلافته.
ولكن وقع الكلام بين
المسلمين في تفسيرها وتأويلها، مع أنه لم تكن حاجة لهذا
التأويل لولا سياسة الأمر الواقع الذي لا بد من تصحيحه
وتخريجه، حَمْلاً لتصرفات المسلمين على الصحة -بنظرهم-.
وأما سبب رفض الصحابة
لهذه
الوصايا وإهمالها فلما ذكرناه من وجود الاتجاه الآخر الذي
يؤمن بالحق الطبيعي، والذي ظهر في حياة الرسول
(صلى الله عليه وآله)
نفسه، بالرغم مما كان عليه
الصحابة من النبل والطهارة والإخلاص للدعوة، وبقطع النظر
عن الحب للحكم، فإن هذا ينسجم مع ميل الإنسان بطبيعته إلى
التصرف وفقًا لما يدركه من المصالح، على أننا غير ملزمين
بالدفاع ونحن في مقام الاستدلال، ولكن هذا في شؤون الدنيا،
وأما في التشريع وفي تطبيق نصوص الشريعة فلا يمكن أن يعطي
الإسلام هذا الحق للأمة، بل هو من خصوصيات النبي
(صلى الله عليه وآله)
أو مَنْ علّمه، وإلا لم تكن هناك أمة ولم تكن
للرسول
أمة، ولذلك برز اتجاه الحق الطبيعي في السقيفة، كما برز
اتجاه النص بإنكار ما وقع في السقيفة، فكان هذا أول مصداق
لظهور التشيع الذي غُرِست بذرته في زمن الرسول كما يقول
الشيعة، ظهر بموقف أمير المؤمنين علي
(عليه السلام)
وبني هاشم وجملة من
المسلمين أمثال خالد بن سعيد بن العاص، وسلمان المحمدي
وأبي ذر والمقداد وعمار وبريد الأسلمي وغيرهم من الأنصار،
كأبي الهيثم بن التيهان وسهل وعثمان بن حنيف وخزيمة بن
ثابت (ذي الشهادتين) وأبي أيوب الأنصاري، فإنهم لما فاتهم
ما طلبوا قالوا أو قال بعضهم: [لا نبايع إلا عليًا]([68]).
الخلاصة
هذه هي بداية التشيع وهكذا بدأ، فإذًا لم يكن مجرد اتجاه
روحي كما يصوّره بعضهم، أو كما يظهر من التفسير في الحق
الإلهي والنص الشرعي، فإن
ذلك
في قبال الحق الطبيعي والشأن الدنيوي الذي وصفوا به
الخلافة، بل كان التشيع أكمل مصداق من مصاديق الدعوة
الإسلامية باعتبار مواصلة علي
(عليه السلام)
للقيادة الفكرية والسياسية
والتشريعية، حتى قال عمر قولته المشهورة [لولا علي لهلك
عمر]([69])،
و[لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن]([70])،
فكان الحاكمُ أبا بكر وعمر وعثمان، وكان المشرعُ وصيَّ
الرسول عليًا
(عليه السلام)،
لأنهم لم يردوا له حكمًا، ابتدأ به أو صححه، من الأحكام
التي كانت تصدر عنهم ويعترض عليها، إلا بعض الاجتهادات في
بعض الأحكام .
ومن أجل ذلك كان له ولاء واسع
بين المسلمين باعتباره الجدير بمواصلة دور الرسول
(صلى الله عليه وآله)
أو تناوله لهذا الدور من
الخلفاء الذين سبقوه زمانًا، فكان التشيع منذ ولادته
واستمر مصداقًا كاملاً للرسالة الإسلامية، لا مجرد اتجاه
روحي.
ولكن بعد أن مُنيَ الشيعة
بالواقع والحكم المفروض بمقتل الإمام الحسين سيد الشهداء
(عليه السلام)
وما جرى بعده من الأحداث،
بدا وكأن الأئمة
(عليهم السلام)
اعتزلوا السياسة الدينية، وتنازلوا عن القيادة، وليس الأمر
كذلك، لأن القيادة بمعنى -العمل المسلح- مفهوم ضيق
للقيادة، وأما بمعناه الواسع الشامل الكامل فهي لا تعني
ذلك، بل تعني [عملية التغيير الإسلامي] وتأسيس القاعدة
الصالحة لممارسة
جميع الصلاحيات الدينية بتحريك ضمير الأمة الإسلامية
وإرادتها الشرعية ضد التنازل للحكام الدنيويين المنحرفين،
كما فعل الإمام الحسين
(عليه السلام)
الذي هزّ مشاعر العالم
الإسلامي، ولذلك حاول الثائرون العلويون تحريك مثل هذه
المشاعر للمحافظة على الضمير الإسلامي حيًا في ظل حكم بني
أمية، في نفس الوقت الذي مارس فيه الأئمة
(عليهم السلام)
عملية التغيير النفسية.
ولو كان الأئمة
(عليهم السلام)
بغاة سلطة فلماذا لم يقبلوا عروض القيِّمين على الدولة عند
انهيار الدولة الأموية، حتى يجيب الإمام الصادق
(عليه السلام):
[إنَّ
أبا مسلم ليس مِن رجالي ولا الزمان زماني]([71])!؟
وبسبب هذه الحركات تعددت الفرق
المنسوبة
إلى الشيعة، باختلاف الطروحات التي كان يطرحها صاحب كل
حركة، ولقد أنهى كتّابُ الفِرَق فرق الشيعة إلى ذكر عشرين
فرقة أو أكثر([72]).
وعلى ذلك فَفِرَق الشيعة
الرئيسية
-بنظر كتّاب الفِرَق- أربعة: الكيسانية، والزيدية،
والإسماعيلية، والإمامية.
وأما الغلاة فهم خارجون عن
الإسلام
أصلاً بإجماع المسلمين، فلا يمكن عدّهم من الشيعة، وليس كل
من أحب عليًا
(عليه السلام)
مهما كانت عقيدته يعتبر شيعيًا، لأن أهل السنة عمومًَا
يحبون عليًا
(عليه السلام)
أو يجب أن يحبوه مع أنهم
ليسوا من الشيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
([41])
الخطط للمقريزي 1/362، والفصل 2/91.
([42])
معجم البلدان، مادة (قم) 4/397 دار الكتاب العربي؛
الحضارة الإسلامية: آدم متز.
([43])
بحار الأنوار ج18 ص19.
([44])
الحجرات: من الآية 13.
([46])
تفسير الطبري 3/171؛ راجع أيضًا: فضائل الخمسة من
الصحاح الستة:1/277.
([47])
ابن عساكر لابن منظور: 17/384، وفي ج 18/ص14 منه
رواية أخرى عن جابر.
([48])
النهاية لابن الأثير/مادة قمح: 4/106.
([49])
الدر المنثور: 6/379 دار المعرفة؛ راجع أيضًا
فضائل الخمسة: 1/277 وما بعدها.
([50])
الصواعق المحرقة ص96؛ راجع أيضًا فضائل الخمسة
1/278.
([51])
ص43 للمناوي؛ راجع فضائل الخمسة 2/96.
([52])
الفضائل2/3 ومابعدها؛ سنن الترمذي 2/297؛ أحمد بن
حنبل في مسنده 4/437 و5/356؛ وابن داوود الطياليسي
في مسنده 3/111، و11/360؛ أبو نعيم في حليته
6/294؛ والنسائي في خصائصه ص 19و23؛ وذكره المحب
الطبري في الرياض النضرة 2/171؛ المتقي في كنز
العمال 6/154 بطريقين وقال: أخرجه مجموعة، وذكرهم.
([53])
ابن الأثير: أسد الغابة 5/457 ط دار الشعب، وغيره.
([54])
تاريخ الخطيب البغدادي 4/339، ط دار الكتاب
العربي.
([55])
مضمون ما ذكره الشهرستاني الملل والنحل 1/14.
([56])
شرح النهج 1/159؛ تاريخ الطبري 3/184، ط4.
([57])
نقلاً عن كتاب سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله)
ص707 عن ابن هشام في 4/300.
([59])
مضمون ما في الملل والنحل1/14.
([60])
تاريخ الطبري 3/193.
([63])
مقالات الإسلاميين ص39؛ الفرق بين الفرق ص15؛
السيرة لابن هشام 4/306؛ الملل والنحل1/26؛ تاريخ
ابن خلدون 1/162، وغيرها.
([66])
شرح النهج 1/169، وغيره من كتب التاريخ.
([67])
شرح النهج 1/23 وتاريخ الطبري وغيرها من كتب
التاريخ.
([68])
شرح النهج نقلاً عن الطبري 3/203 والكامل 2/220.
([70])
مناقب ابن شهراشوب ج1 ص311.
([71])
الملل والنحل، الشهرستاني، ج1 ص154؛
ينابيع
المودة لذوي القربى، القندوزي، ج3 ص161؛ مناقب آل
أبي
طالب،
ابن شهر آشوب، ج3 ص 356.
([72])
الفرق بين الفرق ص 21؛ مقالات الإسلاميين ص88،
وغيرها.
|