السنة الحادية عشرة / العدد السابع والعشرون / حزيران  2015م / ربيع أول  1436هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الاتجاهات الإنسانية في حياة الإمام علي (عليه السلام)

د. حسن جعفر نور الدين

 

 

الطابع الإنساني لعلي (ع) في مرحلة الرسول (ص)

منذ ولد الإمام علي (عليه السلام) وخلال طفولته وفتوته رافق النبي (صلى الله عليه وآله) وعاش معه، ونهل من معين الدين الحنيف وقيم الإسلام السمحاء، وكان أبرزها النزعة الإنسانية التي طبعت سلوكه ورافقته مدى حياته، تلك القِيَم التي خلبت لبَّه، وأيقظت مشاعره، وهو يجد النبي (صلى الله عليه وآله) يمارسها ويعيشها بكل جوارحه، حرصًا على توحيد الأمة الإسلامية وضخّها بمبادئ تظلل الجميع وتعدل بينهم، وأعظم ما أثلج قلب علي (عليه السلام) يوم دعا الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة المسلمين إلى المؤاخاة تحقيقًا لإنسانية العلاقة بين الأحزاب، وصولاً إلى إنسانية العلاقة المجتمعية، وكانت غاية الرسول (صلى الله عليه وآله) خلق مجتمع متآخ متآزر تحكمه روح الأخوة الحقَّة، وإعلان زوال عهد الطبقية والعائلية والعنصرية، فيؤاخي كل مؤمن أخًا له، وقد آخى آنذاك الرسول عليًا، معلنًا زوال الجاهلية البغيضة، وولادة عصر الإنسانية التي توحِّد ولا تفرق، تجمع ولا تبدد، تبني ولا تهدم.

وتمتلئ أُذُنا علي (عليه السلام) وقلبه وعقله بأحاديث الرسول وهو ينادي: [أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى] ([1])، [الخلق كلهم  عيال الله فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله]([2])، [الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربيهم على عجميهم، ولا لأبيضهم على أسودهم إلاّ بالتقوى] ([3]).

أليس هذا غيض من فيض مما كان يغدقه الرسول (صلى الله عليه وآله) على المسلمين من الأحاديث التي ترمي إلى رصِّ الصفوف، وتآزر الطاقات وتوحيد القوى، والإيمان المطلق بإنسانية الإنسان، وتساويه مع أخيه، علاوة على آيات القرآن الكريم التي تحضُّ على التماسك والتعاون واحترام إنسانية الفرد وحقوقه، ليدرك الجميع أهمية الإنسانية في صلاح المجتمعات ورقيها الأخلاقي والاجتماعي والحياتي، مصداقًا لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([4]).

إنه خطاب السماء إلى الأمم جمعاء لتدرك معنى الإنسانية الحقَّة، وتعمل بموجب هذه التعاليم السمحاء، تكامل إنساني رائع، اختمر في قلب الرسول وعقله، وعلي (عليه السلام) معه يشاهد ويعي ويتصرف على هذا المنهج المثالي، ومن أمثلة ذلك أن العباس عم النبي كان من جملة الأسرى في معركة بدر. وقد سهر النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبي الله؟ قال: أنين العباس. فقام رجل من القوم، فأرخى من وثاقه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما بالي ما أسمع أنين العباس؟ فقال رجل من القوم: إني أرخيت من وثاقه شيئًا. فقال: "فافعل ذلك بالأسارى كلهم". وهذا يدل على عدل النبي (صلى الله عليه وآله) ودقته في مراعاة الأحكام الإلهية ، وصلابته في الدين . وهي المناسبة لمقامه الأسمى، وما عرف عنه من كونه لا تأخذه في الله لومة لائم([5]).

أليس الإيثار خصيصة إنسانية نشأ عليها علي (عليه السلام) وهو مع الرسول ثم طبَّقها خطًا ونهجًا في سياسته خلال خلافته!؟.

وفي ذلك يقول علي (عليه السلام) في خطبته القاصعة عن معاني إنسانيته التي نهلها وهو رفيق محمد وأخوه: [وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويُمسني جسده ويُشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيمًا أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت أتَّبِعه اتِّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علمًا ويأمرني بالاقتداء به] ([6]).

وفي بعض الأحاديث النبوية ما يؤكد الطابع الإنساني عند علي (عليه السلام) منذ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في محفل من أصحابه: [من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في سلمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في فطانته، وإلى داود في زهده، فلينظر إلى هذا. قال: فنظرنا فإذا علي بن أبي طالب قد أقبل كأنما ينحدر من صبب]([7]).

وفي حديث آخر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): [ألا أدلكم على ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا، إن وليكم وإمامكم علي بن أبي طالب عليه السلام، فناصحوه وصدقوه، فإن جبرئيل عليه السلام أخبرني بذلك] ([8]).

وقد افتدى علي (عليه السلام) الإنسانية بنفسه، عندما أسرَّ إليه الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن يتسجّى ببرده الأخضر، وأن ينام في فرشه ليلة هجرته إلى المدينة، لأنه كان يعلم أن عصابة من القرشيين تسعى إلى قتله، ثم أمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي الودائع التي كانت عنده للناس.

أحاديث ووقائع كثيرة تشير إلى عظمة علي (عليه السلام) وروحه الإنسانية منذ أن كان فتى، ينهل من الرسول روح الدعوة الإسلامية.

الاتجاهات الإنسانية خلال الحروب

لم يخض الإمام (عليه السلام) حربًا إلا وكان كارهًا لها، وما أقدم عليها إلا بعد أن استنفد كل محاولات إطفاء الحرائق بين المسلمين، سواء كان ذلك في صفين أو الجمل أو النهروان، إلى غير ذلك من الحروب الأخرى، من خلال الدعوة إلى التعقل والاحتكام إلى العقل والحق والمنطق، صونًا لأرواح ودماء المسلمين، إلا أن معظم مواعظه كانت تجد آذانًا صماء، وهو في كل معركة خاضها كان يتحلّى بدور إنساني يتماشى مع قيمه الدينية والعقلية، والأمثلة أكثر من أن تحصى، وهي تدل جميعها على عظمة هذه الشخصية الخالدة.

وهل أروع وأنصع دليلاً من قوله وهو في صميم الحرب: [اللهم (...) إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة] ([9])، إنها الرؤية الإنسانية النافذة إلى أعماق الوجود، والتي يصعب على أي كان أن يتشح بها، إلا إذا كان من ذوي البصيرة والحكمة.

وتتوالى مواقف الإمام الإنسانية العالية تباعًا، إنها بنت الشخصية العظيمة التي عصمها الله من الفحش والخطل، ففي معركة الجمل، وعندما انتهى القتال وحسم الأمر لصالح علي (عليه السلام)، أمر أن تُحمَل السيدة عائشة بهودجها بعد أن عُقر جملها إلى مكان آمن، و[بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وأرسل معها أربعين امرأة وسيَّر معها أخاها محمدًا] ([10]).

[وعرف مرة أن رجلين من أنصاره نالا من عائشة في موقعة الجمل فأمر بجلدهما]([11])، هكذا تتجلى القيم الإنسانية في هذا العمل الخلاق، إنه علي (عليه السلام)، سيف الله الغالب وسيف رسوله.

وعندما ضربه عبد الرحمن بن ملجم بالسيف على رأسه أثناء صلاة الفجر في مسجد الكوفة، أوصى ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) بقاتله على النحو الذي يعرفه الجميع، إنها دروس إنسانية للحاضر وللمستقبل، وللعالم أجمع.

ولم يترك (عليه السلام) فرصة سانحة إلا واغتنمها ليعلن مقته للحرب، حرصًا على الإنسان وصونًا للدماء وللأرواح [فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم. كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها] ([12]).

ثم يقول: [عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر] ([13]).

وفي معركة صفين حال معاوية وجيشُه بين علي (عليه السلام) وجيشه وبين الماء، عندما استولوا على شط الفرات لحظة وصولهم من الشام وقالوا لعلي (عليه السلام) : [لا تذوق قطرة حتى تموت عطشًا] ([14])، ولما حمل عليهم علي (عليه السلام) وأجلاهم عن الماء أتاح لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وهو لو فعلها ومنع الماء منهم لانتصر عليهم وأنهى المعركة من بدايتها، لكنه الخُلُق الكريم والإنسانية المثلى، إن هذا الماء أسراه الله في أرضه للناس جميعًا.

كانوا يريدون أن يحطموا الإنسانية بالكراهية والأحقاد والباطل، وكان علي وصحبه يريدون أن يبنوا للإنسانية صرحًا يظلل الجميع دون استثناء.

الاتجاهات الإنسانية للإمام علي (ع) خلال خلافته وممارسته الشخصية

لا نغالي إن قلنا إِنْ كل خطوة يخطوها الإمام علي (عليه السلام) وكل نفس يتنفسه وكل عمل يقوم به إلاّ وفيه قبس من الإنسانية الغامرة، وهذا لا يختلف عليه اثنان، نجده في ممارسته مع نفسه ومع أهل بيته وولاته ومواطنيه.

لقد عمرت الإنسانية خلال فترة خلافته (عليه السلام) التي نعُم بها المسلمون بالعدل والمساواة والحرية والكرامة، رغم ما حفلت به من حروب أُشعلت في وجهه خلال تلك الفترة القصيرة التي كان فيها علي (عليه السلام) مثال الحاكم العادل النزيه الحريص المتتبع الساهر على راحة المواطنين وقضاياهم المختلفة.

وانظر إلى هذه السلسلة من المشاهد الإنسانية التي عُرفت في خلافته، والتي تعتبر دستورًا خلاقًا ودليلاً مثاليًا لكل حاكم عادل، لقد ساوى علي (عليه السلام) نفسه بخادمه قنبر، بل آثره على نفسه عندما اشترى قميصين ثم دعا غلامه لاختيار أحدهما، فاختار الغلام ما لاقى ذوقه، وأخذ الإمام القميص الآخر، ذلك مخافة من الإمام أن يظن الخادم أنه اختار لنفسه أفضلهما.

إلى هذا الحد كانت مشاعر الإمام مرهفة بإنسانيتها الفذة، ويخاطب التجار خائفًا على مصالح الناس منهم:

[يا معشر التجار قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، و تناهوا عن الكذب واليمين، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الرباء {وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين}] ([15]).

مدرسة إنسانية تخط للعالم أجمع طريق الكرامة والحياة.

كانت خدمة الإنسان إحدى أهم دعائم سياسته، لقد مارسها كما قلنا في لحظات حياته الحافلة بالعظائم،ولقد رأى فيه (صلى الله عليه وآله) هذا الإشراق الإنساني حيث قال: [يا علي، إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها، زينك بالزهد في الدنيا، وجعلك لا ترزأ منها شيئًا، ولا ترزأ منك شيئًا، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعًا، ويرضون بك إمامًا]([16]).

وفي توجيهاته ونصائحه وتوصياته الإنسانية الخُلقية لولاته عند تعيينهم في الأمصار والولايات عمارة إنسانية لا تجد لها مثيلاً.

أقول لو تسنى لهذا العملاق الشامخ أن يمارس دوره بعيدًا عن كل أولئك الذين ساءهم أن ينجح علي (عليه السلام) وأن يبني دولة الإسلام الخلاقة، كالتي بناها وأرسى دعائهما خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله)، لو تسنى له ذلك لخلت البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل من كل منافق ومرتد ومنحرف، ولسادت دولة القانون في كل صقع، أو بالأحرى لأصبح الكون كله دولة واحدة تحكمها شرائع السماء وقوانين العدالة الإلهية ونظم الحرية والمساواة والفضيلة.

ساءهم أن ينجح علي (عليه السلام)، لأنهم يريدون الدنيا، وعلي يريد الآخرة، يريدون أنفسهم ويريد الإنسانية المطلقة، يريدون الشيطان ويريد رب السماء حيًا واحدًا أحدًا.

فتأمل ما يقوله لعامله على مصر الأشتر النخعي: [ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة] ([17]).

وكثيرًا ما كان يوصي ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) بقوله : [كونا للظالم خصمًا وللمظلوم عونًا] ([18])، وهذه الوصية الإنسانية قاعدة ترسي أسس الحق والعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع.

وليست رسالته إلى عامله على مصر محمد بن أبي بكر أيضًا إلا نموذجًا فذًا لسياسة الحاكم العادل الأمين، يشيع بين مواطنيه روح التسامح والإنسانية في جو من الألفة والمحبة، يقول علي (عليه السلام) في هذه الرسالة:

[هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أمره بتقوى الله والطاعة له في السر والعلانية، وخوف الله في الغيب والمشهد، وباللين للمسلم، وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبإنصاف المظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين.

وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة، فإن لهم في ذلك من العافية وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه. وأمره أن يلين لهم جناحه، وأن يساوي بينهم في مجلسه ووجهه، ويكون القريب والبعيد عنده في الحق سواء. وأمره أن يحكم بين الناس بالعدل. وأن يقيم بالقسط ولا يتبع الهوى ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن الله مع من اتقاه وآثر طاعته وأمره على من سواه] ([19]).

لله درك يا أبا الحسن، أيّة إنسانية فذة أردت أن تشيعها في أرجاء دولتك، إنسانية تذيب الفوارق وتمحو الطبقية والمذهبية، وتقدم مجتمعًا حضاريًا إنسانيًا، تسود فيه روح الحق والرفاهية والتسامح والحرية والأمانة والمساواة.

وفي كلام له يبيّن فيه بعض أحكام أهل الذمة: [وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا] ([20]).

لقد ذمَّ التعصب الديني من خلال نظرته الإنسانية الشاملة في كثير من أقواله وممارساته حتى غدا قوله: [فإنّهم صِنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نَظيرٌ لك في الخَلْق»([21]) شعارًا إنسانيًا شاملاً تتناقله الأمم.

على مثل هذه القيم والأسس تقوم الأمم وتتآلف الدول، وتسود العدالة الإنسانية وتترسخ الحضارات ويعم السلام الإنساني العالم.

تلك مشيئة الله في عباده، أنه أوجدهم لعمارة الأرض التي أورثهم إياها بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والعمل الفاعل المنتج، وهو في ذلك يخاطب الناس قائلاً: [إن الله لم يخلقكم عبثًا] ([22]).

يدخل على علي (عليه السلام) أخوه عقيل طالبًا قصعة من بِر المسلمين، وهو في ضنك وجوع، فأحمى حديدة وقربها من جسده محذرًا إياه من مغبّة طلب ما ليس له من حق من بيت مال المسلمين.

ولله دره حيث يقول وهو خليفة على المسلمين مكرسًا أروع المثالية التي لم يسبقه إليها ولن يسبقه أحد في ماضي الدنيا وحاضرها ومستقبلها: [ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيتُ مبطانًا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

 

 

وحولك أكباد تحن إلى القد

 

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش] ([23]).

وفي قول آخر يبقى كما يقول الأستاذ جورج جرداق في كتابه: "علي وحقوق الإنسان": [يبقى علي في أصول الدساتير الاجتماعية والإنسانية ما بقي المجتمع والإنسان] ([24]).

يقول علي (عليه السلام): [ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرًا، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيمًا]([25]).

والحقيقة أنه لم يكتب أحد في حقوق الإنسان وعمارة الحياة كما كتب علي (عليه السلام)، وليس بكثير ما قيل حول بلاغته بأنه: [دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين] ([26]).

لقد سبق علي (عليه السلام) دساتير العالم التي لحظت ضرورة الاهتمام بالعجزة والأيتام والشيوخ، سبقها وطبق نظرياته تطبيقًا شاملاً، في حين ظلت نظريات أولئك حِبرًا على ورق في كثير من الدول.

يقول علي (عليه السلام) في هذا الصدد: [فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له] ([27]).

مولاي، هذا غيض من فيض، من فصول عظمتك وإنسانيتك، وستبقى تعاليمك منارة تضيء دروب الحياة للبشرية جمعاء، في كل عصر وكل مصر.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) بحار الأنوار: المجلسي، ج73، ص350.

([2]) وسائل الشيعة: الحر العاملي، ج16، ص345.

([3]) مستدرك وسائل الشيعة: الشيخ النوري،  ج2 ص340 الباب 75 ح6.

([4]) الحجرات 13.

([5]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى، ج5، ص120.

([6]) شرح النهج، ابن أبي الحديد، الخطبة القاصعة، ج3 ص250، ط الأولى بمصر.

([7]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق: ص 25-26.

([8]) مناقب أهل البيت (عليهم السلام)، المولى حيدر الشيرواني، ص 113.

([9]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 32، ص 607.

([10]) العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ) المحقق: محب الدين الخطيب ومحمود مهدي الاستانبولي، الناشر : دار الجيل بيروت - لبنان، ط2، 1407هـ - 1987م؛ الطبري ج4 ص 223.

([11]) المصدر نفسه. والصفحة نفسها.

([12]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج2، ص153-154.

([13]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج2، ص154.

([14]) أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، السيد محمد مهدي الصدر ص 39.

([15]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج41 ص 104.

([16]) الأمالي، الشيخ الطوسي، ص181.

([17]) نهج البلاغة، الكتب والرسائل 53.

([18]) شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج17 ص 6.

([19]) بحار الأنوار، ج28، ص88.

([20]) الجزية وأحكامها، علي أكبر الكلانتري، ص 14.

([21]) نهج البلاغة: الكتاب رقم 45، من كتاب له إلى عثمان بن حُنَيف الأنصاريّ عامله في البصرة.

([22]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج1، ص149.

([23]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج 3 ص 71-72.

([24]) جورج جرداق: علي وحقوق الإنسان، ج1 ص 197.

([25]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج3، ص93.

([26]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، ص 24.

([27]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)  ج 3 ص 101.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والعشرون