السنة الحادية عشرة / العدد الثامن والعشرون / نيسان  2016م / رجب  1437هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال =

أولو الأمر

 

رأي الإماميّة الإثني عشريّة

يَخُصُّ الإمامية (أولي الأمر) باثني عشر إمامًا، عليّ ونسله من فاطمة عليهم السلام، وهم:

1.     علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام).

2.     الحسن بن علي المجتبى (عليه السلام).

3.     الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام).

4.     علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).

5.     محمد بن علي الباقر (عليه السلام).

6.     جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).

7.     موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام).

8.     علي بن موسى الرضا (عليه السلام).

9.     محمد بن علي الجواد (عليه السلام).

10. علي بن محمد الهادي (عليه السلام).

11. الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).

12. محمد بن الحسن المهدي، الحجة المنتظر (عج).

شروط الإمام

يُشترَط في الإمام شرطان:

الأول: العصمة.

الثاني: أن يكون أفضل الرعيّة

الشرط الأول: العصمة

يعتبِرُ الإثنا عشريّة أن الإمامة امتداد لمنصب النبوة، فيجب فيها ما يجب في النبوة، ما خلا الوحي والأحكام المختصة بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فهي منصب إلهي لا يخضع لأي نوع من الشورى أو اختيار المكلفين.

فمنصب الخلافة الذي كان يُجعَل من الله للأنبياء والأئمة يسري بالنمط نفسه على هذه الأمة، والدواعي التي استوجبت بعثة الأنبياء هي نفسها تستوجب الإمامة.

ولا بد لصاحب هذا المنصب من العصمة، لأنه إن لم يكن معصومًا قد يوقع الأمة في الخطأ والضلال، ويُستفاد من آيات الخلافة أن كل من اختاره الله تعالى إمامًا، علّمه وفهّمه وامتحنه، ليتمكن من تأدية مهمّة الاستخلاف، والقيام بشؤون التمثيل والنيابة.

أدلة العصمة

أدلة العصمة كثيرة جدًا، وكل الأدلة التي أقيمت على عصمة الأنبياء هي نفسها تقام على عصمة الأئمة، لأن الإمامة امتداد للنبوة، وسنقتصر على دليلين:

الأول: قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}([23]).

قدَّم الفخر الرازي دليلاً على العصمة من نص الآية الكريمة، وهذا هو:

دليل الفخر الرازي في تفسيره الكبير على العصمة

يشترط الفخر الرازي العصمة في أولي الأمر.

قال في تفسيره الكبير([24]) ما يلي: [اعلم أن قوله تعالى {وأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك: أن الله أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمرَ الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصومًا عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصومًا عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمرًا بفعل الخطأ.

والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يُفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وإنّه محال، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصومًا عن الخطأ، فثبت قطعًا أن "أولي الأمر" المذكور في هذه الآية لا بد أن يكون معصومًا] انتهى.

دليل العلامة السيد الطباطبائي على العصمة

(ونضيف هنا دليل تفسير الميزان بتصرف) وهو أن الله تعالى فرض في الآية طاعةً له {أَطِيعُوا اللَّهَ}، وطاعةً للرسول ولأولي الأمر {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}، ففرض طاعتهم بنفس الأمر الذي فرض فيه طاعة رسوله، وهذا يدل على أنها بنفس مستوى طاعة الرسول.

وهذه الطاعة ليست مشروطة بشرط ولا مقيَّدة بقيد، وهذا يدل على العصمة، لأن غير المعصوم قد يأمر بما يخالف الشرع، وهذا لا تجوز طاعته، فكيف يأمرنا الله بطاعته مطلقًا مع أنها محرَّمة؟

فلا بد أن يكونوا معصومين، لأنّه أمرنا بطاعتهم بلا قيد ولا شرط.

إذ لو كانوا غير معصومين ويُحتمَل في حقهم الخطأ لكان قيَّد طاعتهم بما لا يخالف الشرع، ولما لم يقيّدها بشيء علمنا أنهم معصومون وطاعتهم واجبة مطلقًا في كل ما يأمرون به.

ونرى أن الله تعالى قد قيّد طاعة الوالدين بما لا يوجب الشرك {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}([25])([26]).

مع أنها من الأمور الخاصة، فكيف يترك أمر الأمة بلا قيد لو كان ولي أمرها غير معصوم؟!

الثاني: قوله تعالى { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}([27]).

وجه الاستدلال:

أولاً: لا شك أن المعصية ظلم، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وإن كان الله يعفو عن الصغيرة بعد ارتكابها والتوبة منها، إلا أنها مبغوضة ومنهي عنها، ولو لم تكن مبغوضة لم تكن معصية أصلاً، وقد سمّاها الله تعالى "ظلمًا" بقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}([28])، والصغيرة تَعَدٍّ لحدود الله، فمن فعلها يُعدّ ظالمًا فلا يصح أن يكون إمامًا لأنه غير معصوم([29]).

ثانيًا: إن إبراهيم (عليه السلام) لما مَنَّ الله عليه وجعله إمامًا للناس، وجد أن شأن الإمامة عظيم جدًا، إذ لا تُنال إلا بعد الابتلاء والاختبار، ونجاح المختبَر، فإن قوله سبحانه {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} صريح في ذلك، وتفريع {فأتمهنّ} هو إعطاء نتيجة الامتحان بأنه قام بواجب الكلمات وتنفيذهن على أكمل وأتم وجه، فلذلك استحق الإمامة {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، فتمنى أن تكون الإمامة في ذريته، قال: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}.

فمن هي الذرية التي طلب لها إبراهيم (عليه السلام) الإمامة؟ أو بالأحرى ما هي أوصافها؟ لا يخرج الإنسان عن أحد أربعة أحوال وهي[30]:

أولاً: أن يكون ظالمًا في جميع عمره([31]).

ثانيًا أن يكون ظالمًا في آخر عمره دون أوله([32]).

ثالثًا: أن يكون ظالمًا في أول عمره أو فترة منه([33]).

رابعًا: أن لا يكون ظالمًا في جميع عمره([34]).

أما القسمان الأول والثاني، فمن المستحيل على إبراهيم (عليه السلام) وهو خليل الله ونبي يوحى إليه أن يطلب هذا المنصب -الذي استعظم شأنه- للظالم من ذريته حين تلبّسه بالظلم. لأن الحوار مع الله سبحانه: {إني جاعلك...} وجوابه (عليه السلام): {ومن ذريتي} دليل على أنه كان نبيًا يوحى إليه، ولا يُعقَل في حق نبي أن يطلب هذا الطلب، فكيف بإبراهيم (عليه السلام) وهو أبو الأنبياء([35]).

بقي القسمان الثالث والرابع: وهما الظالم أول عمره أو فترة منه، وغير الظالم مطلقًا في جميع عمره.

فمن الممكن أن يشمل الطلب هذين الفردين، لأن الظالم في أول عمره والتائب العادل في الحال الحاضر -أي وقت التلبّس بالإمامة- لا يُرى غضاضة في إعطائه المنصب، فإذًا شمل الطلب هذين الفردين!

نجد الردّ الإلهي أتى برفض أحدهما وهو من سمّي ظالمًا وقتًا ما، لأن قوله {لا ينال عهدي الظالمين}، يدل على استثناء هذا الفرد. فلم يبقَ إلا الذي لم يظلم كل حياته، وهو المعصوم عن الخطأ.

قال في الكشاف: {لا ينال عهدي الظالمين} أي من كان ظالمًا من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئًا من الظلم.

الشرط الثاني من شروط الإمام: أن يكون أفضل الرعية

بما أن منصب الإمامة منصب إلهي فقد اشترط الإماميّة أن يكون الإمام حائزًا على جميع الفضائل والكمالات الاختياريّة وغير الاختياريّة.

فطهارة المولد وشرف الحسب والنسب ليسا من اختياره ولا بد من إحرازهما، لأن الله سبحانه هو الذي خطّط لهذا المنصب وجعله في فئة مختارة من عباده، فلا بد أن يكون المختار أفضل الرعية طهارة ومولدًا.

أما الكمالات النفسيّة والورع والتقوى والشجاعة والعلم ومعرفة الأحكام وكيفيّة تطبيقها، فيُشترط في الإمام أن يكون جامعًا لها.

فالإمام حجة من قِبَل الله سبحانه على الأمة، وواسطة بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) في إلقاء تفاصيل الأحكام، وتعليم المعارف الربانيّة، وملجأ الناس في أمورهم الأخرويّة والدنيويّة، وحافظ لحقوق الناس من الاعتداء عليها، ومقيم العدل ودافع الظلم، ونصير الضعفاء، والسدّ المانع في وجه الأقوياء، وراعي الأمة وقائدها نحو الكمال، فينبغي أن يكون أفضل أهل زمانه حتى يتمكن من تحقيق استخلافه على الأرض.

شروط تعيين الإمام

يُشترط في تعيين الإمام أحد شرطين:

أحدهما: النصّ.

ثانيهما: ظهور المعجزات على يديه([36]).

الأول: النصّ إنما يكون إما من الله، وأما من النبي (صلى الله عليه وآله)، وإما من إمام ثبتت إمامته بالنصّ عليه.

وقد ثبت عند الإماميّة النص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) الذين تقدم ذكرهم. بل نجد أن النصوص على تعيين الإمام قد بلغت حدًا عند الإماميّة يصعب حصره ولا يمكن ذكره في هذا البحث الموجز، ولكننا نشير هنا إلى عدد من النصوص من الكتاب والسنّة وإلى الكتب التي تعرّضت لذلك إجمالاً، ثم نعطي لمحة عن بعض الأدلة:

النصوص من الكتاب والسنّة

بلغت النصوص من الكتاب مائة نصٍّ بدلالات مختلفة، وضوحًا وتلميحًا وتلويحًا وتصريحًا، ومن السنّة النبويّة مائة وعشرين حديثًا فيها من الصراحة ما لا يقبل الشك.

وأما الكتب المتعرِّضة للنصوص على قسميها: القرآنيّة والنبويّة فقد فاقت الحصر، فمن كُتُب فطاحل علماء السنّة ومحدِّثيهم نذكر القليل الذي ذكره أستاذنا آية الله المرعشي النجفي دام ظله في حاشية إحقاق الحق([37])، في نزول {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ..} في حق علي (عليه السلام)، قال أطال الله بقاءه([38]):

[نقتصر على ذكر قليل من كتبهم، فمنها:

1.     أسباب النزول للشيخ أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري.

2.     مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، للشيخ محمد بن طلحة الشافعي.

3.     تفسير الثعلبي.

4.     الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي.

5.     تفسير مفاتيح الغيب.

6.     فوائد السمطين، للحمويني.

7.     تفسير الميرزا محمد البدخشاني الحنفي.

8.     الطرائف، لرضي الدين بن طاووس([39])

9.     الدر المنثور، للسيوطي الشافعي.

10. تفسير المنار].

إلى أن ذكر ثلاثين كتابًا من هذا النحو.

أما كتب الشيعة الإماميّة: فقد ذكر منها كذلك ما يقرب من ثلاثين كتابًا، وأحال على الباقي، ثم ذكر -متَّع الله المسلمين بظلِّه- أسانيد حديث الغدير التي اطلع عليها بلا واسطة، فبلغت أكثر من أربعين كتابًا من أعاظم كتب السنّة، وما ينقله بالواسطة أكثر من خمسة وثلاثين كتابًا.

أما طرق الحديث: فقد ذكر أكثر من مائة طريق، ولقد حدثني أنه استفرغ منه هذا التتبُّعُ جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً ومراجعة كثيرة، فقد طالع أكثر من ألف كتاب ومصدر، حتى استخرج هذه النتيجة، فأطال الله بقاءه وجزاه عن المسلمين خير الجزاء، ومن شاء فليُراجع المصدر الذي ذكرناه.

لمحة عن الأدلة

مما بُرهن عليه في محلِّه: أن سُنّة الله تعالى ونظام الكون استقرّت على هداية كل مخلوق إلى غايته التي هي كمالُه، ولا بد للوصول إليها طبعًا([40])، كما قال الله تعالى:

{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}([41]).

{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}([42])

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}([43])

والهداية على قسمين: تكوينيّة، وتشريعيّة. فالُمسَخَّرات تهتدي بالهداية التكوينيّة، فلا تستطيع الخروج عن مقتضاها، ولا تخطئ طريق الوصول إلى الغاية.

والإنسان يهتدي بكلتيهما، فالهداية التكوينيّة للإنسان إنما هي بإعطائه العقل والفكر، مضافًا إلى شعوره الغريزي.

ومن المعلوم أن العقل يعجز عن درك كثير مما هو دخيل في صلاح نفسه وكمال نوعه، ولا يبلغ غايته المطلوبة إلا بهدايةٍ أخرى تشريعيّة من الله، لكي تتحقق الهداية العامة الإلهيّة بتمامها. وهذا شأن الأنبياء والرسل والأئمة المعصومين (أولي الأمر)، وهم يهدون من اتبع رضوان الله سبل السلام والصلاح والكمال، والآيات الناطقة بما ذكرنا في غاية الكثرة.

والإنسان مريدٌ مختارٌ يستطيع الإطاعة والترفّع عن الأنانيّة الشخصيّة، فيبلغ النظام غايته، والسموّ شأنه، كما يستطيع العصيان فيختل النظام وتضطرب الأحوال.

يقول روسو: [لاكتشاف أفضل قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم، لا بدّ من توفّر عقل ممتاز، يرى جميع أهواء الناس، ولا يعاني من أي هوى، ولا يكون له علاقة مع طبيعتنا، لكنه يدركها حتى أعماقها، ويستطيع هذا العقل العمل في قرنٍ ليحصد ثماره في قرنٍ آخر. وبعبارة أخرى: لا بد من آلهة لتمنح القوانين للبشر] ([44]).

هذا رأيه في منح القوانين، وقد حدث كل ذلك مع أول موجود، لا بل وُجد على أساس هذا التنظيم. ولكن كيف نحافظ على هذا النظام والقوانين؟

يوضّح روسو هذه الناحية، فيقول: [لا يحق لكل إنسان أن يجعل الآلهة تتكلم، ولا أن يكون مصدّقًا عندما ينبئ أنه ترجمانها، فإن روح المشرّع العظيمة هي المعجزة التي يجب أن تثبت رسالته، ذلك أن المجد الباطل يشكل علاقة عابرة، فليس ثمة ما يجعله دائمًا سوى الحكمة]([45]).

فالذي ينطق عن الآلهة هو الإنسان المزوَّد بالعلم والحكمة من قبلها، وهو ترجمانها الصادق المنصوب منها، وكل من يتكلم عنها وهو ليس بهذا المستوى لا يكون صادقًا.

ذكر القرطبي تفسيرًا لقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}([46]):

 [أن الملائكة قد يكونون فهموا -من الخليفة- الذي سيجعله الله في الأرض، أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من الظلم، ويردعهم عن المحارم والمآثم] ([47]).

وذكر ابن جرير:

[فكان تأويل الآية على هذا: إني جاعل في الأرض خليفة مني، يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وأن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه]([48]).

فإذا كانت الخلافة والإمامة هي استخلاف من الله لمن يُقيم الحكم بالعدل بين خلقه -وهذه سنّة فطريّة كما لاحظنا- وقد جعل آدم خليفته في ذلك. فمن جعل بعده ليقوم مقامه؟

فإذا قال قائل: جعل آدم خليفة ثم ترك الأمر للمستخلفين يدبّرون شؤونهم كما يرون.. يكون هذا موضع سخرية لهذا النظام الذي أعدّ خليفة وعيّنه قبل أن يكون، فلما تكاثر الناس ترك الأمر إليهم لتدبّ الفوضى بينهم، ويقوّض النظام من أساس، فهل هذا تدبير حكيم؟

وضّحنا ذلك بما فيه الكفاية، وإنما نريد معرفة الإمام الذي نصبه الله.

1 - جاء في صحيح مسلم([49]): بسنده عن جابر بن سمرة، قال سمعت النبي يقول: (أن هذا الأمر لا ينقضي، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. ثم تكلم بكلام خفي عليّ فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش).

2 - جابر بن سمرة قال: سمعت النبي يقول: (لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلاً، "ثم تكلم النبي بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: كلهم من قريش).

3- جابر بن سمرة قال: سمعت النبي يقول: (لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش).

(ملاحظة: كل هذه الأحاديث سندها في صحيح مسلم، وللاختصار تركت السند، فليراجع هناك).

4 - وفي الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيثمي تحت عنوان: "الفصل الثاني: أحاديث واردة في أهل البيت (ع)" ص189، ح39:

أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة، أن النبي (ص) قال: (يكون بعدي اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش).

وبالتأمل في هذه الأحاديث يمكن استفادة ما يلي:

الحديث الأول يقول: "إن هذا الأمر لا ينقضي"، فما هو معنى الأمر؟ وما معنى لا ينقضي؟

يظهر أن الأمر: أمر الناس ونظامهم إلى قيام الساعة، كما يدل عليه صريحًا "لا ينقضي"، أي لا ينتهي حتى يمضي فيهم، أي يحكمهم اثنا عشر خليفة.

الحديث الثاني يقول: "لا يزال أمر الناس ماضيًا"، فهنا صرّح بأن الأمر أمر الناس، أي إمارتهم. ولكن ما معنى ماضيًا؟

يمكن أن يكون باقيًا أو مستقيمًا، لأن مضى بالأمر أي استمر فيه، فيكون المعنى: يكون مستمرًا وباقيًا لا ينقضي لمدةِ ولاية اثني عشر رجلاً، ثم ينتهي بانتهائهم. ويمكن أن يكون ماضيًا: أي مستقيمًا ونافذًا، من أمضى الشيء وافق عليه، أو مضى "عليه" على الأمر، وفيه نفذ.

الحديث الثالث يقول: "لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم"، فما معنى "أو" في الحديث؟ محققٌ أنَّ "أو" تأتي بمعنى الواو، مثل:

جاء الخلافة أو كانت له قدرًا

 

 

كما جاء ربه موسى على قدر

 

أي: وكانت له قدرًا، وقد تأتي للإضراب.

وهناك [أي في روايات أخرى]: "لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش"، فالساعة تقوم بعد خلافة اثني عشر خليفة قرشيًا.

أما [بمعنى] "بل" يكون عليهم اثنا عشر خليفة حتى تقوم الساعة. فمعنى ذلك أن الأمر قد جرى على مقتضى القواعد الفطرية التي فطرت عليها الموجودات وقواعد الخلافة التي فرضها الله على عباده من بدء الخليقة إلى أن تقوم الساعة، فهو لم يُخْلِ زمنًا من إمام، إما ظاهرًا مشهورًا، وإما خائفًا مستورًا.

وأمة محمد (صلى الله عليه وآله) هي أفضل الأمم، فمن المستحيل على الله سبحانه أن ينتقل بنظامها من الأفضل إلى الأسوأ، ومن الأحسن إلى الأردأ.

فنظام الكون كلّه يكون بتعيين خليفة من قِبَله ليستتب الأمر ويستقر العدل، وهذا ما تراه كل العقول النيّرة، والأفكار النافذة، فكيف لله أن يخالف سنّته في خلقه وتنظيمه في فطرة موجوداته في أفضل أمة خلقها وميّزها عن غيرها؟

الاستفادة من الأحاديث في تعيين الإمام

أصبحنا متيقنين أن الله عيّن اثني عشر خليفة وأميرًا ورجلاً على هذه الأمة بعد انقضاء زمن النبوة.. فمن هم؟

هل يمكن أن يعيّنهم عددًا ومن قريش بالذات، ويحدّد مدّتهم إلى قيام الساعة، ثم يترك بعد هذا تسميتهم؟ وماذا تكون النتيجة لو فعل ذلك؟

لا يسع بحثي الجواب، وإنما أقول: إن ابن حجر ذكر الحديث الرابع المتقدم في أحاديث واردة في أهل البيت: [يكون بعدي اثنا عشر أميرًا]، وذكر قبل ذلك ص189 ح33: عن عائشة، قال: قال رسول الله (ص): قال جبرائيل (ع): قلّبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد رجلاً أفضل من محمد (ص)، وقلّبت مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم؟

وذكر ص191 ح12: أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن حذيفة: أن النبي (ص) قال له: [أما رأيت العارض الذي عرض لي قبل ذلك، هو ملك من الملائكة، لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه عزّ وجلّ أن يسلّم عليّ ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة].

فابن حجر يقول: يكون بعدي اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش (الحديث الرابع).

ومسلم يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (الحديث الأول).

ويقول مسلم أيضًا: لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (الحديث الثالث).

فتعيّن أن الخلفاء اثنا عشر خليفة، سيبقون بعد رسول الله (ص) أمراء، يحكمون بأمر هذا الدين حتى تقوم الساعة، وكلهم من قريش.

وهؤلاء الأمراء الخلفاء منصوبون من الله تعالى، وقد نصّ عليهم الرسول بالبقاء إلى قيام الساعة لا يزيدون عن ذلك ولا ينقصون، وطاعتهم واجبة، بنصّ آية أولي الأمر.

فمن هم هؤلاء الخلفاء المنصوص عليهم؟

يقول ابن حجر (حديث 33 المتقدم) عن جبرائيل: [وقلّبت مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أبٍ أفضل من بني هاشم].

(يقول في الحديث 12 المتقدم): (يبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).

فإذا كان بنو هاشم أفضل الناس في مشارق الأرض ومغاربها (على لسان جبرائيل)، وإذا كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (على لسان رسول الله (ص) بشارة من رب العالمين)، وإذا كان الأئمة من قريش وهم اثنا عشر إلى يوم القيامة.. فمن هم يا ترى هؤلاء الخلفاء؟ الأئمة؟ الأمراء؟

مع أن ابن حجر يذكر الحديث الرابع تحت عنوان (باب فضل أهل البيت رضي الله عنهم).

أليس معنى هذا أنه معتقد أن الأمارة فيهم؟ ولا نعرف السبب الذي منعه عن التصريح.

ولعل الله ساق ذلك على لسانه بدون قصد منه! لا ندري؟ فالله يقول: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}([50]).

ثم يقول ابن حجر في (الفصل الثالث):

"في الأحاديث الواردة في بعض أهل البيت كفاطمة وولديها: الحديث الثلاثون": يذكر فيه قصة مقتل الحسين (عليه السلام) وينتهي إلى أولاده، فيقول (ص 200):

زين العابدين هذا هو الذي خلف أباه علمًا وزهدًا وعبادة، وكان إذا توضأ للصلاة اصفرّ لونه. فقيل له في ذلك فقال: ألا تدرون بين يدي من أقف؟].

وذكر أولاده ثم قال: [وارثُهُ منهم عبادةً وعلمًا وزهادةً أبو جعفر محمد الباقر، سمي بذلك مِنْ "بَقَر الأرض": أي شقَّها وأثار مخبياتها ومكامنها، فكذلك هو أظهرَ مِنْ مخبّآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحِكم واللطائف ما لا يخفى .. ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه ..

وخلَّف ستة أولاد أفضلهم وأكملهم جعفر الصادق، ومن ثمَّ كان خليفته ووصيّه، ونقل الناسُ عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صِيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر ..

توفي .. عن ستة ذكور وبنت، منهم موسى الكاظم، وهو وارثه علمًا ومعرفةً وكمالاً وفضلاً، سُميّ الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفًا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم ..

وكانت أولاده حين وفاته سبعة وثلاثين ذكرًا وأنثى، منهم: علي الرضا، وهو أنبههم ذكرًا وأجلّهم قدرًا، ومن ثمّ أحلّه المأمون محل مهجته وأنكحه ابنته وأشركه في مملكته وفوّض إليه أمر خلافته ..

وتوفي عن خمسة ذكور وبنت، أجلّهم محمد الجواد، لكنه لم تطل حياته، ومما اتفق أنه بعد موت أبيه بسنة، واقفٌ والصبيان يلعبون في أزقة بغداد، إذ مرَّ المأمون ففرّوا ووقف محمد وعمره تسع سنين، فألقى الله محبته في قلبه، فقال له: يا غلام: ما منعك من الانصراف؟ فقال له مسرعًا: يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضِيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك .. فمنعه العباسيون (أي منعوا المأمون) خوفًا من أنه يعهد إليه كما عَهِد لأبيه .. فأرسلوا إليه يحيى بن أكثم ووعدوه بشيء كثير إن قطع لهم محمدًا .. فسأله يحيى مسائل أجابه عنها بأحسن جواب ..

وتوفي .. وعمره خمس وعشرون سنة .. عن ذكرين وبنتين، أجلّهم عليّ العسكري([51]) .. وكان وارث أبيه علمًا وسخاء.

توفي .. وعمره أربعون .. عن أربعة ذكور وأنثى، أجلّهم أبو محمد الحسن الخالص، وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري ..

ولما حُبِس قحط الناس بسر من رأى قحطًا شديدًا، فأمر الخليفة المعتمد بن المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام، فلم يُسقوا، فخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدّ يده إلى السماء هطلت، ثم في اليوم الثاني كذلك. فشكَّ بعض الجهلة وارتدّ بعضهم، فشقَّ ذلك على الخليفة فأمر بإحضار الحسن الخالص وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (ص) قبل أن يهلكوا .. فلما خرج الناس للاستسقاء ورفع راهب يده مع النصارى، غيّمت السماء، فأمر الحسن بالقبض على يده فإذا فيها عظم آدمي، فأخذه من يده وقال استسقِ، فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس فعجب الناس من ذلك، فقال الخليفة للحسن: ما هذا يا أبا محمد؟ فقال: هذا عظم نبيّ ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كُشف من عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر، فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال، وزالت الشبهة عن الناس ..

مات بسر من رأى .. وعمره ثمانية وعشرون سنة .. ولم يُخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى (القائم المنتظر)، قيل: لأنه سُتر بالمدينة وغاب فلم يُعرف أين ذهب، ومرَّ في الآية الثانية عشر قول الرافضة فيه أنه المهدي، وأوردتُ ذلك مبسوطًا فراجِعْه فإنّه مهم] انتهى.

من مجموع هذه الأخبار نجد أن ابن حجر عيَّن الخلفاء الاثني عشر بأسمائهم كما هو واضح، وإن أنكر ذلك بلسانه بعبارته الأخيرة [ومرَّ قول الرافضة] فيه أنه المهدي.

وبرجوعنا إلى الآية الثانية عشرة وجدناه يقول([52]):

الآية الثانية عشرة قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}([53]).

قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين: إن هذه الآية نزلت في المهدي، ثم قال بعدَ ذكر عدة روايات فيه:

أخرج مسلم وأبو داوود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وآخرون عن النبي (ص): المهدي من عترتي من ولد فاطمة. والطبراني: المهدي منا، يُختم الدين بنا كما فُتح بنا، وهذا كله يؤيد أن الإثني عشر خليفة المذكورين سيكونون وحدهم حتى تقوم الساعة، وقد قال ابن حجر (ص163) عن المذكورين عن ابن ماجة عن النبي (ص): (لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي).

وقال (ص151) عن النبي (ص): (الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت).

وقال (ص150) في رواية صحيحة: (إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إنْ تبعتموهما، وهما: كتاب الله وأهل بيتي عترتي. زاد الطبراني: إني سألت ذلك لهما، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم).

ثم قال: (ثم أحق من يُتَمَسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته).

فقد جعل بشكل واضح ومتعيّن من جميع ما نقله أن النص صريح في تسمية الخلفاء الاثني عشر بأسمائهم.

فشروط الحكمةِ التي جعلها الله في الخلفاء توفرت فيهم، للنصوص السابقة عنه (صلى الله عليه وآله)، كالعلمِ، وملازمةِ القرآن، واقترانهم به، واقترانه بهم، وعدمِ الافتراق حتى يردا الحوض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة.

فقد روى (ص126) من صواعقه عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (إني مخلّف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض، فأسألهما ما خلفت فيهما).

وقال (ص162) بحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي).

وفي أخرى([54]) لأحمد: (فإذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء، وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض).

كل هذا يؤكد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يخالف فطرة الله وسنته في عباده بترك أهم منصب مجهولاً تنقاد له الأهواء ويضلّ فيه العباد، بل جرى حسب الفطرة والسنة الإلهية، وعيّن الخلفاء بأعدادهم وأسمائهم وصفاتهم ووجوب طاعتهم إلى يوم القيامة. كل ذلك من المُجمع عليه من الأحاديث الثابتة، ولا يمكن في مثل هذا المنصب أصرح وأوضح من هذا، لأنّا نجد أن الناس هم الناس من أول ما خلقهم الله إلى أن تقوم الساعة...

فعندما أخبر سبحانه ملائكته بنفسه عن الخليفة تمنّوا جعل الخلافة لهم([55])، وعندما أرسل الأنبياء للبشر كذّبوهم وقتلوهم ومعهم المعجزات، فقد أنكروها وجحدوا بها، وعندما أرسل نبينا (صلى الله عليه وآله) حاربوه وخذلوه وكذبوه واتهموه بالسحر والجنون وظلُّوا يكيدونه إلى يوم وفاته، مع أنهم كانوا يدعونه "الصادق الأمين" قبل نبوته.

وهذه الأمة تسير على سنن الأمم السابقة، حذو النعل بالنعل، فماذا يراد أصرح من هذا في تعيين الخلفاء بأسمائهم، ومع كل الإنكار والجحود، ترى كيف يظهر الحق من خلال السطور، فالنبي الذي كان يتلقى أوامره من الله في كل صغيرة، لا يمكن في حقه إهمال أعظم منصب يحفظ الأمة، ويتركه نهبًا للأهواء، والله الذي يتدخل بسد بابٍ، كيف يترك الأمة مشرّعة الأبواب؟

قال ابن حجر في الحديث الرابع والعشرين من الباب التاسع في فضائل علي (عليه السلام) (ص124): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي (عليه السلام)، فقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئًا ولا فتحته، ولكني أُمرت بشيء فاتبعته).

وفي الحديث الثالث والثلاثين عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (علي إمام البررة، وقاتل الفجرة، منصورٌ من نصره، ومخذول من خذله).

وقال ابن حجر (ص149) الآية الرابعة {وَقِفُوهُم إِنَّهُم مَسؤولون}، عن أبي سعيد الخدري: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (وقفوهم إنهم مسؤولون عن ولاية علي)، فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) لا يسد خوخة باب إلا بأمر الله، ومع ذلك يتهمه القائل بالتمييز، فكيف يمكن أن يطيعه أمثاله في النص على علي بالخلافة؟! ولكنه أنفذ أمر الله ونصّ كما ترى، ناهيك بما عند الإمامية من النصوص التي تسميه وخلفاءَه بالاسم، ولكن يكفينا هذا لأنه غير مستنكر من أحد من المسلمين.

نعم ذيّل ابن حجر النصوص في الآية الثانية عشرة (ص162)، بما يلي:

[والحاصل أنهم تنازعوا في المنتظر بعد وفاة العسكري على عشرين فرقة، وإن الجمهور غير الإمامية على أن المهدي غير الحجة هذا، إذ تغيُّبُ شخص هذه المدة المديدة من خوارق العادات .. ثم المقرّر في الشريعة المطهرة أن الصغير لا تصح ولايته، فكيف ساغ لهؤلاء الحمقى المغفَّلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين وأنه أوتي الحكم صبيًا، مع أنه (ص) لم يخبر به؟ ما ذلك إلا مجازفة على الشريعة الغرّاء].

 هذا ما يقوله ابن حجر، ولا حاجة للجواب، إنه يجيب نفسه بما ذكره من أن الجواد عندما التقى المأمون كان ابن تسع سنين، وجمعه مع يحيى بن أكثم. فراجع تُكفَ المهمة، وكأنه يردُّ على القرآن بقوله: وأنه أوتي الحكم صبيًا، لأن القرآن يقول {وآتيناه الحكم صبيًا}([56]) بالنسبة ليحيى (عليه السلام).

خاتمة المطاف

 [تبيَّن مما تقدم أن] كل المذاهب الإسلامية تشترط وجوب الخلافة، وأنها أصل من أصول الحكم في الإسلام أو أصول المذهب.

والشروط التي لا يوجبها أكثر المسلمين يرون أفضليتها لو توفّرت في الخليفة، فالشروط التي لا نزاع فيها لو توفّرت هي شروط الإمامية، فإن كل المسلمين لا يرون مانعًا من خلافة من اجتمعت فيه تلك الشرائط، وهي: الأفضلية، والعدالة، والعصمة، والنص، والهاشميّة (وإن كان الإمامية يقولون أن الشرط الأخير جاء اتفاقًا)([57]). وإذا لم تجتمع كل هذه الشروط فيأتي الخلاف الذي سقناه سابقًا في تعيين الخليفة، وكيف كان فلا يجوز أن تخلو الأرض من إمام.

( (انتهى المقال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش

([23]) النساء: 59.

([24]) التفسير الكبير المسمى بـ"مفاتيح الغيب"، الرازي، ج 10 ص144.

([25]) العنكبوت: 8.

([26]) انظر تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، ج4 ص389.

([27]) البقرة: 124.

([28]) البقرة: 229.

([29]) إحقاق الحق (بتصرف)، ج2 ص293.

([30]) راجع تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، ج1 ص274.

([31]) أي قبل الإمامة وبعدها (التحرير).

([32]) أي دون الزمان السابق على الإمامة (التحرير).

([33]) أي في الزمان السابق على الإمامة أو فترة منه (التحرير).

([34]) أي قبل الإمامة وبعدها (التحرير).

([35]) ومراده (قده): أن هذا الطلب من إبراهيم حصل حال نبوته، لأنه كان في حال الكبر وبعد أن رُزق بالذريّة وبعد أن مرَّ بجميع الابتلاءات التي أهَّلته لاستحقاق درجة الإمامة، ويدل على ذلك بداية الآية {وإذ ابتلى إبراهيم ...}، ولا يعقل صدور هذا الطلب من إبراهيم بعد أن كان نبيًا. (التحرير).

([36]) لقد اقتصر المؤلف (ره) في كلامه على ذكر النص دون المعجزة، ولعل السبب في ذلك هو أن المعجزة إنما تختص بشكل مباشر بالمعاصرين، وإثباتها لغير المعاصرين إنما ينحصر بالنقل المتواتر. (التحرير).

([37]) حاشية إحقاق الحق، السيد المرعشي النجفي، ج2 ص415.

([38]) المرجع الديني آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قده)، ولد في النجف الأشرف عام 1315هـ وتوفي سنة 1411هـ في مدينة قم المقدسة، وقد كتب المؤلف (ره) هذا البحث في حياته (التحرير).

([39]) ذكر آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قده)، في تعليقاته على كتاب "إحقاق الحق" هذا الكتاب ضمن مصادر أهل السنة، مع أن هذا الكتاب للسيد رضي الدين بن طاووس وهو من علماء الشيعة، واسم الكتاب "الطرايف في معرفة مذاهب الطوائف" (التحرير).

([40]) أي بما يقتضيه طبع المخلوقات، أي الفطرة التي فطر الله المخلوقات عليها، وهذا ما سيعبِّر عنه المؤلف بعد قليل بالهداية التكوينية (التحرير).

([41]) طه: 50.

([42]) الغاشية: 2-3.

([43]) البقرة: من الآية 148.

([44]) يراجع كتاب "في العقد الإجتماعي"، جان جاك روسو، ترجمة ذوقان قرقوط. طبع دار القلم، ص82 و 85-86.

([45]) يراجع كتاب "في العقد الإجتماعي" ص58.

([46]) سورة البقرة: من الآية 30.

([47]) نقله ابن كثير في تفسيره ج1 ص73 عن القرطبي.

([48]) نقله ابن كثير في تفسيره ج1 ص74 عن ابن جرير.

([49]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، ج6 ص3.

([50]) الأنبياء: 73.

([51]) هو المشهور عند الشيعة بـ(الإمام علي الهادي (عليه السلام).

([52]) ص: 162.

([53]) الدخان: 61.

([54]) أي في رواية أخرى لأحمد.

([55]) قال السيد الطباطبائي (ره) في تفسير الميزان عند تعرّضه لتفسير قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}: وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرُّف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شيء، والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} حيث صدَّر الجملة بـ "إنَّ" التعليلية المشعِرَة بتسلّم مدخولها فافهم. فملخّص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلَفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والأرضيّة لا تدعه يفعل ذلك بل تجرُّه إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل -وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مرَّ من الحكاية- حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك (التحرير).

([56]) مريم: 12.

([57]) قال الشيخ التستري (ره) في كتابه الصوارم المهرقة، ص49: (إنما اشترطوا العصمة دون الهاشمية -وإن اتفق كون الأئمة المعصومين من بني هاشم-).

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن والعشرون