تمهيد
تقدم في عدد سابق من هذه المجلة([1])
الكلام على عدد من الأخطاء المنهجيّة في نقد الشعائر
الحسينيّة، ولمّا كانت هذه الأخطاء كثيرة ومتجددة، فقد
رأينا أن نتناول هنا جملة أخرى مما يقع فيه بعض المتصدِّين
لعمليّة النقد من خلال استمرار هجومهم على بعض المظاهر
المرتبطة بإحياء الشعائر الحسينيّة، منها:
1- عدم مراعاة الضوابط
الخُلُقيَّة للنقد
لا تقتصر أخطاء أدعياء النقد على مخالفتهم للشروط العلميّة
للنقد فحسب، بل قد يتعدى بهم الأمر إلى مخالفة ضوابطه
الخُلُقيَّة أيضًا، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنَّا
سنكتفي بذكر اثنين منها، وسنخصِّص المثال الأول لبيان ما
يقوم به هؤلاء الأدعياء من بَترِ النصوص لكي تجيء موافقة
لأهوائهم ومقاصدهم، فتغدو بذلك صالحة للاستدلال على ما
يرومونه من النتائج.
وأما المثال الثاني فسوف نخصِّصه للكشف عما يرتكبه هؤلاء
الأدعياء من تزوير في النقل، لكي يتمكّنوا بذلك من البرهنة
على مدّعياتهم الباطلة.
المثال الأول:
ونستمدّه مما قام به بعضهم وهو يحاول تكثير أسماء العلماء
القائلين بحرمة التطبير، حيث ذكر لأجل ذلك اسم أحد كبار
مراجع التقليد، مدّعيًا أن هذا المرجع هو من القائلين
بالحرمة.
واستدل على مدّعاه هذا بأن المرجع المذكور قد أجاب على
استفتاء ورده عن التطبير بما يلي: [لم يرد نصّ بشعاريته،
فلا طريق إلى الحكم باستحبابه].
ونحن لا نريد هنا أن نناقش ما إذا كان هذا الجواب يدل على
الحرمة أم لا، وإنما يهمنا أن نكشف عن عملية البتر التي
يمارسها أمثال هؤلاء، ولذلك نأتي بالجواب الكامل على
الاستفتاء المذكور، وهو: [لم يرد نصٌّ بشعاريته، فلا طريق
إلى الحكم باستحبابه، ولا يبعد أن يُثيبه الله تعالى على
نيّة المواساة لأهل البيت الطاهرين إذا خلُصت النيّة].
وبهذا يتبيَّن أن نقل النص الكامل للجواب يدل على أن
المرجع المذكور هو من القائلين بحلّية التطبير، وليس
بحرمته، ولكنّ أدعياء النقد لم يتورعوا عن بتر الجواب،
وذلك لكي يأتي الكلام موافقًا لما يحاولون الترويج له من
أن هذا المرجع يفتي بحرمة التطبير.
المثال الثاني:
وهو مثال نستقيه من حديث تلفزيوني لأحد منتقدي التطبير،
حيث شاهدنا هذا المنتقد وهو يطلق دعوى مفادها أنّ التطبير
أصله عائشي وليس زينبيًا. وقد استدل على دعواه هذه بقوله:
[وجدت في كتب إخواننا أهل السنّة أن أول من قام بفعل
يشبه التطبير وينطبق
عليه التطبير هو عائشة، عندما توفي النبي (صلى الله عليه
وآله) وسَمِعَتْ بالخبر لدمت، اللدم
باللغة
العربيّة: أنه أخذت حجرًا أو ما يشبه الحجر وضربت رأسها،
طبعًا هذه الرواية هي رواية
صحيحة عند
إخواننا أهل السنّة
والجماعة، لذلك أنا قلت أن التطبير ليس زينبيًا، التطبير
إذا أردنا أن نرجع إلى أول من طبّر هي أم المؤمنين عائشة،
بالرغم من
ذلك الآن إخواننا أهل السنة والجماعة يرفضون هذا الأمر،
ولو أنّه
لم يعترض أحد على أم المؤمنين عائشة، فالتطبير ليس زينبيًا
التطبير هو عائشي، ولكن
بالرغم من ذلك، أهل السنة والجماعة رفضوا أو على الأقل لم
يؤيدوا، لا أريد
أن أقول رفضوا هذا العمل، ولكن لم يؤيدوا هذا التصرف].
ويحسن بنا هنا، وقبل الخوض في أيّ نقاش أن نورِدَ نموذجًا
من الروايات التي اعتمد عليها المتحدث لكي يطلق دعواه
السابقة. ولنقرأ لأجل ذلك الرواية الواردة في مسند أبي
يعلى، وهي التالية([2]):
[حدثنا جعفر بن مهران، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا محمد بن
إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد
الله
بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: سمعت عائشة تقول: مات رسول
الله (ص) بين سحري ونحري، وفي بيت لم أظلم فيه أحدًا، فمن
سفهي وحداثة سني أن رسول
الله (ص) قُبِض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت
ألتدم مع النساء وأضرب وجهي]([3]).
لقد استند المتحدث المذكور إلى مثل هذه الرواية لكي يُقنع
الجمهور بأن التطبير أصله عائشي. وقد توسل للتدليل على
ادعائه هذا بزعمين:
أولهما:
زعمُه بأن معنى اللدم في اللغة هو ضرب الرأس بحجر أو ما
يشبه الحجر.
وثانيهما:
زعمُه بأن الرواية تدل على أن أول من طبّر هي عائشة.
ولكن الحقّ هو أن المتحدث قد تجرّأ على الحقيقة في كِلا
زعميه، وذلك لأنه نسب -من جهة- إلى اللغة غير ما تنصّ عليه
كتبها ومعاجمها. كما أنّه -ومن جهة ثانية- قد تصرّف في
نقله لمضمون الرواية، لكي يجعلها تدلّ على ما أرادها أن
تدلّ عليه.
فلنرجع إذن إلى كتب اللغة، وإلى متن الرواية، لكي نرى ما
الذي تنصان عليه. ولنبدأ باستعراض ما تقوله كتب اللغة عن
معنى اللدم.
يقول ابن منظور في لسان العرب:
[لدم: اللدم ضرب المرأة صدرها. لدمت المرأة وجهها:
ضربته. ولدمت خبز المَلَّة إذا ضربته. وفي حديث
الزبير
يوم
أحد:
فخرجت أسعى إليها، يعني أمّه، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى
القتلى، فلَدَمت في صدري وكانت امرأة جلدة، أي ضربت ودفعت.
ابن سيده:
لدمت المرأة صدرها تلدمه لدمًا ضربته، والتدمت هي. واللدم:
ضرب خبز الملة إذا أخرجته منها، وضرب غيره أيضًا. واللدم:
صوت الشيء يقع في الأرض من الحجر ونحوه، وليس بالشديد; قال
ابن مقبل:
وللفؤاد وجيب تحت أبهره
|
|
لدم الغلام وراء الغيب بالحجر
|
وقيل: اللدم اللطم والضرب بشيء ثقيل يسمع وقعه. والتدم
النساء إذا ضربن وجوههن في المآتم. واللدم: الضرب; والتدام
النساء من هذا; واللدم واللطم واحد. والالتدام: الاضطراب.
والتدام النساء: ضربهن صدورهن ووجوههن في النياحة...].
ويقول ابن فارس في مقاييس اللغة:
[لدم:
اللام والدال والميم أصل يدل على إلصاق شيء بشيء، ضربًا أو
غيره، فاللدم: ضرب الحجر بالحجر (...)،
والتدم النساء: ضربن وجوههن وصدورهن في المناحة. واللدم:
ضربك خبز المَلَّة...].
ويقول الشيخ فخر الدين الطريحي في مجمع البحرين:
[...اللدم بسكون الدال: ضرب الحجر أو غيره على الأرض
ليس بالقوي (...) واللدم: ضرب الوجه والصدر ونحوه].
ولا أجدني بحاجة هنا إلى نقل المزيد من نصوص معاجم اللغة
العربيّة، سيما وأن جميع المعاجم التي تسنّى لنا مطالعتها
تنصّ على مثل ما نصّت عليه المعاجم الثلاثة السابقة.
ولكن يبقى من المفيد الاطّلاع على ما تقوله بعض كتب فِقه
اللغة والتي أخذت على عاتقها التمييز بين المعاني
المتقاربة للألفاظ، ونقرأ منها ما يذكره أبو منصور
الثعالبي في كتابه "فِقه اللغة" حيث راح يميّز بين الصنوف
المختلفة لضرب الأعضاء. وهذا نص كلامه:
[الضرب بالراحة على مقدم الرأس صَقع، وعلى القفا صفع،
وعلى الوجه صكّ وبه نطق
القرآن، وعلى الخدّ ببسط الكفّ لطم، وبقبض الكفّ لكم،
وبكلتا اليدين لدم...]([4]).
وبهذا يتبيَّن لنا جليًا أن المعنى اللغوي لـ"اللدم"
الوارد في الرواية -أي لدم النساء- هو ضربهن وجوههن
وصدورهن في المناحة، وإذا شئنا أن نميّزه بصورة أدقّ عمّا
يقاربه من المعاني، أمكننا القول بأن معناه هو اللكم
بِكلتا اليدين، كما نصّ عليه الثعالبي.
وأما معانيه الأخرى، من قبيل: ضرب الحجر بالحجر، أو ضربه
بالأرض، أو صوت ما يقع على الأرض وليس بشديد..، فهي كلّها
خارجة عمّا تتحدث عنه الرواية، وهو خصوص لدم النساء.
نعم، لقد ورد في لسان العرب ما ربما يوهم بوجود معنى آخر
للدم النساء، وهو ما أشار إليه بقوله:
[وقيل:
اللدم اللطم والضرب بشيء ثقيل يسمع وقعه].
إلا أن هذه الإشارة منه لم تَرِد كنصٍ على المعنى المذكور،
بل نقلها بصيغة (قيل)، ومن المعلوم أن النقل بهذه الصيغة
إنما يراد به تضعيف القول المنقول. ولذلك فإنّ هذا المعنى
الأخير لا يمكن التمسك به في مقابل المعنى الأول، والذي
نصَّ عليه معجم لسان العرب مرارًا وتكرارًا، كما نصّت عليه
الكتب والمعاجم الأخرى.
ويتبيَّن مما قدمناه أن المتحدث لم يتورع عن أن ينسب إلى
اللغة خلاف ما تنصّ عليه كتبها، ليعلل بذلك ما يخدم رأيه
وينسجم مع هواه.
ولقد كان يمكننا الاكتفاء بما تقدم، لو كان غرضنا من البحث
هو إظهار وهن الاستدلال بالرواية على أن التطبير أصله
عائشي. ولكن لما كان غرضنا هو الكشف عمّا يرتكبه أدعياء
النقد من مخالفة الضوابط الخُلًقيّة للبحث العلمي، فقد
رأينا أن نتعرّض أيضًا لما أقدم عليه المتحدث من التصرف
بمضمون الرواية ليوهم الجمهور بدلالتها على مراده.
ولبيان ذلك نقول: إن الرواية تنقل عن عائشة قولها:
[وقمت
ألتدم مع النساء وأضرب وجهي].
وهنا نلاحظ أن الرواية تنصّ على وجود نساء أُخريات غير
عائشة كنّ يقمن باللدم وضرب الوجوه. فلو سلّمنا مع المتحدث
بأنّ اللدم معناه التطبير لغة، فإنَّ الذي يستفاد من
الرواية -حينئذ- هو نسبة التطبير إلى نساء مدينة الرسول |
ومنهن عائشة، ولا يقتصر الأمر على عائشة وحدها.
ولكن المتحدِّث عند نقله لمضمون الرواية أبى إلا أن يخصّ
اللدم بعائشة وحدها، ويسكت عن ذكر لدم بقية النساء، لكي
يبلغ بذلك النتيجة التي أرادها، وهي أن التطبير أصله
عائشي.
وهنا يجدر بنا أن ننبّه إلى أنه
لا يوجَد في الرواية أيّ إشارة إلى مسألة أصل اللدم، وإنما
هي تنصُّ فقط على التدام عائشة مع النساء الأُخريات، وهذا
لا يدلّ البتة على أن هؤلاء النساء ومعهن عائشة كنّ هنّ
أول من اخترع اللدم. فمن أين جاء المتحدث -إذن- بحكاية أصل
التطبير وإرجاعه إلى حادثة اللدم بعد وفاة النبي
|؟!
هذا.. وقد يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فنقول: سواء
أقلنا بأن النساء اللواتي تذكرهنّ الرواية كنّ هنّ أول من
اخترع اللدم، كما يرى المتحدث، حيث نسب أصل اللدم إلى
عائشة التي كانت تلدم معهن، أم قلنا بأنّ اللدم يرجع إلى
زمان أسبق من ذلك، كما يقتضيه منطق الأمور، فإنّ النتيجة
ستكون في كِلا الحالين واحدة، وهي أنّ اللدم كان يمارس في
مجتمع مدينة رسول الله
|.
وهذا إنّما يقوِّي حجة القائلين بحليَّة التطبير -بناء على
ما يراه المتحدث من أن اللدم معناه التطبير-، وعليه فتكون
الرواية حجة على المتحدث لا حجة له.
ومما قدمناه يظهر لنا بجلاءٍ أنّ المتحدث المذكور لم
يتورَع عن أن ينسب إلى اللغة خلاف ما تقوله وترتضيه، كما
أنّه لم يتورَّع أيضًا عن التلاعب بمضمون الرواية. وهو
يرتكب في الحالين كِليهما مخالفة صريحة لقِيَم العلم
وضوابطه الخُلُقيّة.
2- الحكم على الموضوع
استنادًا إلى مصدره
يحاول أدعياء النقد التوسّل بكل ما يتيسر لهم من الوسائل
التي توافق أغراضهم وتمكّنهم من تسجيل الاعتراضات على بعض
الشعائر الحسينيّة، حتى وصل بهم الأمر إلى الحكم على
الظاهرة استنادًا إلى أصلها، أو إلى مصدرها الذي
اسْتُقِيَت منه.
فهم -على سبيل المثال- عندما يريدون محاكمة ظاهرة كظاهرة
التطبير، فإنّهم يتّخذون من أصل هذه الظاهرة، أو من
مصدرها، دليلاً على حرمتها أو بطلانها. وخلاصة دليلهم هذا،
هي أن التطبير لم يكن أمرًا معهودًا عند آل بيت النبوة ^،
وإنما هو عادة اقتبسناها من بعض العادات المسيحيّة أو
القوقازيّة أو الهندوسيّة، أو عن بعض عادات الأمم والملل
الأخرى. وهذا ما يجعلها من العادات الباطلة عند المسلمين،
ويفضي إلى القول بأنها بدعة من البدع([5]).
ونحن لسنا معنيين هنا بمناقشة أصل ظاهرة التطبير أو مصدرها([6])،
إذ إنّ موضوع بحثنا في هذه المقالة يقتصر على النواحي
المنهجيّة دون سواها. ولذلك فإنّنا -ومن الناحية
المنهجيّة- نسأل: هل يصح في المنهج العلمي القويم أن نستند
في حكمنا على أيّ سمة أو عنصر ثقافي مقتبس إلى الأصل أو
المصدر الذي اقتُبِست منه تلك السِّمة أو هذا العنصر؟
يجيبنا المنهج العلمي على سؤالنا المتقدم بالنفي. ولكي
نبيّن تفصيل هذا الجواب بصورة أوضح، دعنا نستنطق بعض
العلوم ذات الصلة بالموضوع، ولننظر لأجل ذلك فيما يراه علم
الاجتماع، وبالأخص ما يراه "علم الإنسان- الأنتروبولوجيا"،
حيث إن هذا العلم هو العمدة في دراسة مسألة اقتباس السّمات
والعناصر الثقافيّة وانتقالها بين المجتمعات. ولنوجّه
اهتمامنا بعد ذلك إلى ما يراه علم الفقه، وهو العلم المختص
باستنباط الأحكام الشرعيّة، وإليه يُرجع في معرفة صحة أمر
ما أو بطلانه، وما إذا كان أمرًا مشروعًا، أو هو بدعة من
البدع.
ولأجل معرفة ما يذهب إليه "علم الإنسان" دعنا نستشهد ببعض
كلمات أصحاب الاختصاص في هذا العلم ونقتبس بعض ما عرضوه من
الأمثلة.
يقول الدكتور حسن شحاته سعفان، في كتابه "علم الإنسان":
[نجد
أن سِمَة معينة قد تلعب دورًا في البناء الاجتماعي لمجتمع
ما غير الدور الذي تلعبه في بناء آخر، أو قد تقوم في مجتمع
بوظيفة غير تلك التي تقوم بها في مجتمع آخر. فالقطع
الرمزيّة التي يلبسها بعض الأفراد في المجتمعات المتطورة
كالصليب أو الماشا الله تلعب وظيفة الزينة أو التبرك،
ولكنها في بعض المجتمعات البدائيّة تلعب وظيفة هامة، فهي
أولاً تلعب وظيفة بيان انتماء الفرد لقبيلة معيَّنة، ثم هي
تحصّنه ضد بعض الأمراض وأعمال السحر وغيرها..] ([7]).
وهذا معناه أن السّمات أو العناصر الثقافيّة المقتبَسة لا
تحتفظ بالدلالة أو الوظيفة نفسها، والتي كانت لها في
المجتمع الأول، بل هي تتخذ دلالة ووظيفة جديدتين تنسجمان
مع ثقافة المجتمع الثاني الذي قام بعملية الاقتباس، ومثال
ذلك القلادة التي لها دلالة ووظيفة خاصّتين عند الوثنيين،
ولكنها بعد أن انتقلت إلى المسلمين، وصار يُكتب اسم الله
عليها، فقد أصبح لها دلالة ووظيفة مختلفتان، وما عادت
تُعدّ من المظاهر الوثنية.
ويؤكّد على الأمر نفسه رالف لنتون في كتابه "دراسة
الإنسان" حيث نجده يقول:
[وقد
نقلت قبيلة "النفاجو" العديد من خصائص ديانة "البويبلو"
نظرًا لأن هذه الخصائص كانت أشياء سَهُلَ عليها ملاحظتها
وتقليدها. إلا أن القبيلة في الوقت ذاته لم تقبل المعاني
التي حملتها هذه الشعائر والطقوس مع أنها قد اطلعت جزئيًا
على خفايا هذه المعاني. فالطقوس عند قبيلة "البويبلو"
تُعنى، على نحو رئيسي، بالنواحي المختلفة المتعلقة بالخصب
والمطر وجمع الغذاء، أما عند قبيلة "النفاجو" فإن الطقوس
التي اقتُبِست بصورة موضوعيّة وُجِّهت لتُعنى بالدرجة
الأولى بالإبراء من الأمراض، إذ إن هذه المشكلة كانت موضع
اهتمامٍ بالغ عند "النفاجو". وهكذا نرى أنّ المجتمع
المقتبِس لم يكتفِ بتعديل الخاصّيات المقتَبسة، بل أكسبها
معنى جديدًا يختلف تمامًا عن معناها السابق]([8]).
وهذا النص واضح الدلالة على المقصود، فلا يحتاج منّا إلى
زيادة بيان. ولكن يبقى علينا أن نشير إلى أمر آخر قد أوضحه
المؤلف المذكور نفسه، ومفاده هو أنّه حتى في الحالات التي
يتمّ فيها الاقتباس ودون أن يُجري المجتمعُ المقتبِسُ أيّ
تعديل على الشكل الظاهر للسّمات والعناصر المنقولة، فإن
المجتمع المقتبِس يقوم -في مثل هذه الحالات- بإعادة تأويل
تلك السّمات والعناصر ليدمجها من ثَمَّ في نسقه الثقافي
القائم. ولذلك نجد مؤلِفنا يقول:
[..
رأينا كيف تمّ قبول عناصر ثقافيّة جديدة دون تعديل شكلها
السطحي وكيف تمّ دمجها في النسق الثقافي القائم عن طريق
إعادة تأويلها. وقد تحقق التكامل في هذه الحالة لا بتغيير
العناصر التي تمّ قبولها بشكلها الموضوعي، وإنّما بانتقاء
وظائف معينة وإسنادها إليها وإضافة قرينة جديدة تُوضِح
صلتها بعناصر أخرى. أما احتمال إسناد وظائف جديدة فتحدّده
إمكانات الاستعمال الكامنة في العنصر الجديد نفسه، ولكنّه
يتوقف على عمليّة انتقائيّة يتمّ عن طريقها استخدام
إمكانيات معيَّنة وإهمال أخرى]([9]).
وخلاصة القول هي أن "علم الإنسان-الأنتروبولوجيا" يرى أن
الذي يحدِّد الدلالة والوظيفة للسمات والعناصر الثقافيّة
المقتبَسة ليس هو المصدر الذي تمّ الاقتباس عنه، بل هو
الثقافة القائمة للمجتمع الذي قام بعملية الاقتباس.
وبناء عليه يمكننا القول: إنّ ظاهرةً كظاهرة التطبير، حتى
لو افترضنا أنها ظاهرة منقولة عن الآخرين، فإن الذي يحدد
وظيفتها ومعناها، ويَصلُح بالتالي ليكون هو مناط الحكم
عليها، ليس هو النسق الثقافي للمجتمع الذي اقتُبست عنه،
وإنما هو نسقنا الثقافي القائم الذي اندمجت فيه هذه
الظاهرة، فأعطاها وظيفة ومعنى جديدين يختلفان عن الوظيفة
والمعنى اللذَين كانا لها قبل أن تَجري عمليّة الاقتباس.
والآن، وبعد أن بيَّنا أن "علم الإنسان" لا يُقِّر أدعياء
النقد على طريقتهم، ننتقل إلى علم الفقه لكي نتعرف على
منهجه في محاكمة العناصر والسِّمات الثقافيّة المقتبَسة،
فنقول: إنّ الفقهاء يعتمدون في عملية استنباط الأحكام
الشرعيّة على عدد من الأدلة المقررة في علم الأصول، وليس
من منهجهم التنقيب في كتب التاريخ عن أصل الفعل أو مصدره
بغية تعيين حكمه.
ولذلك فإنّنا لا نجدهم يستدلون على حرمة التدخين -مثلاً-
بدليل أن هذه العادة قد نشأت أول الأمر عند الهنود
الأميركيين([10])،
فيتحتم لأجل ذلك الحكم بحرمتها.
وقل مثل ذلك في حكم حلق اللحية، فهم لا يستدلون على حرمة
هذه العادة بأنها عادة قد نشأت بدايةً في سومر، أو في مصر
القديمة([11]).
وكذلك هم لا يحرمون -على سبيل المثال- طباعة القرآن الكريم
على الورق، بحجة أن الطباعة قد تمّ اختراعها أولاً في
الصين، ثم مرت بعد ذلك بعدة مراحل، ومن جملتها اختراع
الآلة الكاتبة على يد الألماني "يوهان غوتنبرغ"، حتى وصلت
أخيرًا إلى الطباعة بواسطة الليزر...
وبناء على ما تقدّم يتبيَّن لنا أن المنهج الفقهي لا يتّخذ
من أصل الفعل أو مصدره دليلاً معتبَرًا على حكمه الشرعي.
ولهذا فإننا نجد أن أدعياء النقد أنفسهم حين يريدون الحكم
على بعض المواضيع الأخرى التي لا تتعلق بالشعائر
الحسينيّة، فإنهم يتخلّون غالبًا عن طريقتهم هذه في الحكم
على الفعل استنادًا إلى مصدره، ولذلك فإننا لا نكاد نسمعهم
يحرّمون ظاهرةً كظاهرة إضاءة الشموع في بعض المناسبات
الدينيّة، كمناسبة ذكرى مولد النبي الأكرم |، أو ذكرى
مواليد أئمة آل البيت ^، كما أننا لا نكاد نسمعهم يصفونها
بأنها بدعة، بل ربما نجد بعضهم يمارسونها، أو يشجعون
عليها، وذلك على الرغم من أنها لم تكن من العادات التي قام
بها النبي الأكرم |، ولا الأئمة الأطهار ^، بل هي قد
جاءتنا من بعض أصحاب المِلل والديانات الأخرى!
وخلاصة القول هي أن الدخلاء على النقد حين يستندون في
حكمهم على بعض الشعائر الحسينيّة إلى ما يظنون أنه أصلها
أو مصدرها، فإنهم يضيفون إلى رصيد أخطائهم خطأً منهجيًا
جديدًا، لا تقرّهم عليه المناهج العلميّة ذات الصلة
بالموضوع، سواء في ذلك مناهج العلوم الإنسانيّة، أو منهج
علم الفقه الذي تناط به عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة.
3- التمسك بالعنوان
الثانوي حتى لو ضخّم المشكلة
قد يكون الحكم الأولي لفعل من الأفعال هو الحِلّ أو الوجوب
-مثلاً-، ولكن قد يطرأ على هذا الفعل عنوان ثانوي، فيبدّل
حكمه من الحِلّ أو الوجوب إلى الحرمة، أو ربما يحدث العكس،
فيتبدّل الحكم من الحرمة إلى الإباحة أو الوجوب.
فالصدق -مثلاً- واجب بالعنوان الأولي، ولكن إذا كان الصدق
سيؤدّّي إلى قتل المؤمن البريء، فإنْ لم تُمْكِن التورية،
فإنّ حكم الصدق سيتبدّل -بالعنوان الثانوي- إلى الحرمة.
وقد استند البعض إلى العناوين الثانوية ليحرّم بعض الشعائر
الحسينية، فذهب إلى أنّ التطبير -مثلاً- وإن كان محلَّلاً
بعنوانه الأولي، إلا أنه محكوم بالحرمة بالعنوان الثانوي،
وذلك لأنّه قد غدا موردًا لاستهزاء الآخرين بالشيعة، وهو
أمر يؤدّي إلى إضعاف المذهب وتوهينه.
ولما كان بحثنا يقتصر على معالجة "الأخطاء المنهجيّة"
فقط، دون غيرها من "الأخطاء المضمونيّة"، فلذلك سوف
لن نناقش هنا أصحاب هذا الرأي فيما شخّصوه من أن الاستهزاء
يؤدّي إلى توهين المذهب، وأنّ ذلك لا بدّ وأن يُفضي إلى
تبدّل العناوين وتغيّر الأحكام([12]).
بل يكفينا في المقام -ومن الناحية المنهجيّة- أن نسأل:
ماذا لو أدّى التمسّك بالعنوان الثانوي إلى مشكلة أهمّ
وأخطر من المشكلة التي يُراد التخلص منها؟ فهل يبقى الحكم
على طِبق هذا العنوان -حينئذ- مُسَوَّغًا؟
وبعبارة أخرى نقول: لو سلّمنا بأن سخرية الآخرين
واستهزاءهم بالتطبير يؤدّيان فعلاً إلى توهين المذهب
وإضعافه، وأنه لا بدّ لأجل ذلك من الإفتاء بحرمة التطبير
بالعنوان الثانوي، أفلا يغدو من حقّنا حينئذ أن نسأل: ماذا
لو أدّت فتوى تحريم التطبير إلى ما هو أشدّ وأعظم خطرًا من
التوهين، وذلك كأن تؤدّي إلى هتك المذهب، وتمزيق وحدة
أبنائه؟
ولسنا نقول هذا على سبيل الفرض والاحتمال، وإنما هو أمر قد
أصبح واقعًا مشهودًا، حيث باتت الساحة الشيعيّة تشهد حدوث
معركة إعلاميّة ضارية بين فئات من الناس، ممن يؤيدون فتوى
التحريم، ويسعون إلى ترويجها بكلّ ما يتيسر لهم من طاقات
وجهود، وبين فئات أخرى، ممن يعارضون هذه الفتوى، ويناصرون
القول بحليّة التطبير.
وقد غدت أحداث هذه المعركة تتكرر في كل عام، وبات يُستخدَم
فيها جميعُ أنواع الوسائل والأسلحة الإعلاميّة، بما في ذلك
المراكز الدينيّة، وقنوات التلفزة، ومواقع الإنترنت،
والصحف، والإذاعات...، كما أُلقيَت فيها الخطب، وأُلّفت
الكتب، ونُشرت المقالات، وأُنشِدت الأناشيد، وظهرت الرسوم
الكاريكاتوريّة، وجرى تبادل التّهم والإهانات...
وكانت نتيجة ذلك كلّه، هي أن التمسك بالعنوان الثانوي
للفرار من سخرية الآخرين، قد انتهى إلى مشكلة أهمّ وأعظم،
حيث صرنا نمثِّلُ أضحوكة لهم، ولم نعدْ مجرد مورد لسخريتهم
واستهزائهم. كما أنّ التمسك بهذا العنوان نفسه، بحجَّة درء
خطر توهين المذهب، قد أفضى إلى هتك المذهب وتمزيق وحدة
أبنائه. ولله در الشاعر حيث يقول:
المستجير بعمرو عند كربته
|
|
كالمستجير من الرمضاء بالنار
|
وهنا نعود لكي نسأل: إذا كان المنهج يقتضي تحريم التطبير
بالعنوان الثانوي، وذلك لأنّه يستوجب السخرية وتوهين
المذهب، فما هو حكم إصدار الفتوى بتحريم هذا الفعل، والتي
تؤدّي إلى جعلنا أضحوكة عند الآخرين، وتُفضي إلى تمزيق
المذهب وتفريق أبنائه؟
أفلا يقتضي المنهج نفسه -ومن باب أَولى- أن يقال بحرمة
إصدار فتوى تُحرّم التطبير؟ سيما وأن التطبير هو فِعلٌ
محلّل بالعنوان الأولي! وفي حال كانت هذه الفتوى قد صدرت
قبلاً، ولم يكن من المتوقع أن تؤدّي إلى ما أدّت إليه من
النتائج، أفلا يجب القول -حينئذ- بحرمة الإبقاء عليها -ولو
بالعنوان الثانوي-؟
وخلاصة الأمر هي أنه إذا كان لا بدّ من مراعاة العنوان
الثانوي فرارًا من توهين المذهب، فإن القواعد المنهجيّة
تفرض علينا أن نراعي هذا العنوان نفسه، وبصورة أشدّ وآكد،
عندما تصل النوبة إلى هتك المذهب وتمزيق وحدته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])
راجع مجلة رسالة النجف، العدد الرابع من السنة
الثانية، 2006.
([2])
هنالك أكثر من رواية تنقل خبر التدام عائشة، ولكن
مضمونها جميعها واحد، كما أن ألفاظها متقاربة،
ولذلك اكتفينا بنقل رواية واحدة فقط.
([3])
مسند أبي يعلى الموصلي، ج8 ص63 ح 4586 الهامش2،
(كما رواه أحمد في مسنده ج6 ص274).
([4])
أبو منصور الثعالبي: فقه اللغة وسرّ العربية، دار
إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، تحقيق ومراجعة
عبد الرزاق المهدي، ط1، 1422هـ -2002م، ص142.
([5])
يبدو أن طريقة محاكمة الظاهرة استنادًا إلى أصلها
هي طريقة وهّابية، وقد تسربت عن طريقهم إلى أدعياء
النقد.
([6])
يذهب البعض إلى أن التطبير لم يأتِ من مصدر خارجي،
بل له بعض المناشئ في أحداث تاريخنا الإسلامي،
والتي يمكن أن نذكر من أمثلتها ما تعرّض له أمير
المؤمنين (عليه السلام) حين ضربه ابن ملجم بالسيف
على رأسه، وكذلك ما يحكى عن السيدة زينب سلام الله
عليها من أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل، ومثل ذلك
ما ينقل من أن صعصعة بن صوحان عليه الرحمة قد جرّد
هو وصحبه سيوفهم وضربوا بها رؤوسهم عندما علموا
بمقتل الحسين (عليه السلام).
([7])
د. حسن شحاته سعفان: علم الإنسان، منشورات مكتبة
العرفان-بيروت، د.ت، د.ط، ص116.
([8])
رالف لنتون: دراسة الإنسان، ترجمة عبد الملك
الناشف، منشورات المكتبة العصرية-صيدا-بيروت،
بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة
والنشر-بيروت-نيويورك، 1964، ص458.
([10])
انظر المصدر نفسه ص431.
([11])
أنظر المصدر نفسه ص430.
([12])
تُعلِّمنا بعض آيات القرآن الكريم، وكذلك بعض
الأحاديث الشريفة، بأن لا نهتمّ ولا نبالي
باستهزاء المبطلين، ومن الأمثلة على ذلك قوله
تعالى: {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}. وقول رسول
الله | للإمام علي (عليه السلام): [يا علي، من
عَمَّر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن
داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك
له ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه
حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشر وبشّر
أولياءك ومحبيك من النعيم وقرّة العين بما لا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكنّ
حثالةً من الناس يُعيّرون زوار قبوركم بزيارتكم
كما تعيّر الزانية بزناها، أولئك شرار أُمّتي لا
أنالهم الله شفاعتي ولا يََرِدون حوضي].
(وسائل الشيعة، ج10 باب 26 ص298 ح1).
|