الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين..
وبعد.. فقد حَفَل القرآن الكريم بالآيات الكثيرة التي
أظهرت فضيلة العلم، وفضل العلماء، بالإضافة إلى الكثير من
الآيات الآمرة بالتدبر، والتأمل، والتفكر، والاستفادة من
كل ما فيه فكرة وعبرة، مما يساهم في صلاح الفرد والجماعة،
ويحد من طغيان الفساد والفاسدين، وهيمنة الجهل والجاهلين.
والأوامر التي تحث على طلب العلم ومجالسة العلماء لا
يجهلها أحد.. حتى لقد جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم.
وكل ذلك يدل:
أولاً:
على لزوم طلب العلم على الرجل والمرأة، والغني والفقير،
والقوي والضعيف، والكبير والصغير.. وسائر شرائح المجتمع
المسلم..
ويؤيده ويؤكده قولهم «عليهم السلام»:
«اطلب العلم من المهد إلى اللحد»، فإنه يشمل حتى الأطفال
في أول مراحل إدراكهم للأمور.. ويشمل أيضًا المسلم وغير
المسلم، والمرأة والرجل..
ثانيًا:
إنه يدل أيضًا على أن الإسلام ليس فقط لا يخشى نور العلم،
بل هو يريده، ويحث عليه، لثقته بأن العلم يؤيده ويؤكده،
ويزيد من الإقبال عليه، والتعلق به، ويدل على عظمته، ويكشف
عن حقائقه ودقائقه، ويُطِلُّ على آفاقه الرحبة، ويحصِّنه
من الشبهات والأضاليل، وفنون الأباطيل.
وإظهار حقّانية الإسلام هو من أهم أهداف الأنبياء،
والأئمة، والعلماء.. لأنهم يدركون أن الحياة السعيدة في
الدنيا والآخرة لا تُنال إلا بهذا الدين، الذي سلاحه
العلم، وغذاؤه المعرفة، وقوامه العمل والإخلاص فيه، وبهذا
يتنامى، ومن خلاله يتكامل ويتسامى.
ثالثًا:
إن هذا هو السبب في أن الإسلام قد أثار دفائن العقول،
وأفسح المجال أمام الفكر والعلم، ليسبر غور حقائق الدين،
ولم يغلق أي باب أو نافذة، أو كوة -مهما صغرت- بوجه البحث
العلمي الصحيح، في أية قضية دينية.
ويكفي أن نذكر:
أنه جعل أخطر القضايا وأقدسها وعلى رأسها قضايا التوحيد،
وصفاته تعالى، وعدله، ونبوَّة الأنبياء، والبعث والحساب،
والإمامة.. -وهذه هي أركان الاعتقاد- جعل الاعتقاد بها
مرتكزًا على الفكر والعقل، والاستدلال القاطع، والبرهان
الساطع، فلا يقبل من أحد الاعتقاد بهذه الأمور التي هي أهم
الاعتقادات التي تقوم عليها سائر حقائق الدين، -لا يقبلها-
إلا عن دليل وبرهان وحجة، يفرض اليقين بها..
ولم يرضَ من أحد أن يعتقد بهذه الأمور الخطيرة بالاستناد
إلى تقليد الأشخاص أيًا كانوا، علماء أو جهلاء، أجدادًا أو
آباء، أو غير ذلك.
ولكنه رضي بتقليد الفقهاء، والأخذ من العلماء في الشرائع
والأحكام، وسائر حقائق الدين الأخرى باستثناء الضروريات
منها.
وهذا أمر تفرّد به الإسلام، ولم نجد له نظيرًا في أية
دعوة، وأي دين أو مذهب، بل نجد أن ما عدا أهل الإسلام
يسعون لإبعاد اعتقاداتهم، وسائر مفردات أديانهم أو مذاهبهم
عن نور العلم والمعرفة، وإبقائها في منأى عن تعرض العقول
لها بنفي أو إثبات.
بل بعضهم جعلها أسرارًا، لا يحق لأحد من غير مذاهبهم
الاطلاع عليها، بل منعوا حتى أتباع مذهبهم من ذلك أيضًا،
إلا لأشخاص بأعيانهم.
وبعض من رضي على مضض بإعطاء العقل بعض الحق بالتأمل في
حقائق الدين، قد فرض على هذا العقل قيودًا وحدودًا تفرغه
من مضمونه، وتجعل من تعاطي العقل بالشأن الديني أمرًا
شكليًا، وغير ذي جدوى، ومن دون ثمرة صالحة للاعتزاز، أو
التنويه بها.
وما دمنا في أجواء ذكرى رحيل أحد العلماء الأعلام، وهو
العلامة الجليل آية الله الشيخ مفيد الفقيه، فإننا نقول:
لقد كان «رحمه الله» -كما عرفته عن قرب في النجف، وكانت
تربطني به علاقة مودة ومحبة، وقرابة أيضًا- الرجل الوفي،
والعالم الألمعي، والورِع التقي.. والصديق الصادق، والأخ
الرضي، الذي علم فعمل في حياته، وسيبقى بعد وفاته عَلَمًا،
ومنارًا، وأسوة، وقدوة للذين عرفوه، وأحبوه وألفوه.
وبعد أن فُجِع بولديه في العراق على يد أعداء الحق
واضطراره للعودة إلى لبنان، لم يخلّ ذلك بعزيمته على
مواصلة مسيرته في نشر العلم والدين والإيمان.
ولقد جَسَّد فقدُه المصداق الواضح والصريح لقول أمير
المؤمنين «عليه السلام»: «إذا مات العالم ثلم في الإسلام
ثلمة لا يسدها إلا خلف منه»([1]).
وعن الإمام الصادق «عليه السلام»: «إذا مات المؤمن الفقيه
ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء»([2]).
نعم، لقد كان الشيخ مفيد الفقيه منارةَ عِلمٍ، ما أحوج
المؤمنين إلى ما كانت تبثه من ضياء، يهدي السالك في الظلام
الحالك، إلى خير المسالك، وينجيه من المهالك.
وقد عرفته الرجل القريب إلى القلوب، لما يلمسه الناس فيه
من أخلاق فاضلة، ومن رزانة وأمانة، وطهر وصفاء، وأدب
ووفاء، وعلم نافع، وإخلاص رائع..
ثم إنه الرجل الحكيم الذي ينطق بالحق، ويقول الصدق.
فرحم الله هذا العَلَم العلامة، وأسكنه من جناته أفسحها
منزلاً، وأفضلها غرفًا، وحشره مع النبي وأهل بيته الطاهرين
«صلوات الله عليهم أجمعين».
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])
بحار الأنوار ج2 ص43.
([2])
بحار الأنوار ج1 ص220 وج2 ص17 و 45.
|