السنة الثانية عشرة / العدد التاسع والعشرون / كانون ثاني  2017م / ربيع ثاني  1438هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

لقاء مع سماحة الحجة الشيخ مفيد الفقيه (قده)([*])

الأستاذ أحمد الموسوي

 

 شكّلت الحوزات الدينية منذ فجر ولادتها حصنًا منيعًا بوجه كل الحملات والتحدّيات التي استهدفت الإسلام في وجوده ودوره، ووفّرت في الوقت نفسه حصنًا آمنًا لبروز قيادات إسلامية ومراجع عظام، انساقت إليهم المهمّة المقدّسة في حفظ الدين والعقيدة، والإبقاء على مشعل الرسالة الإسلامية الأصيلة منيرًا دروب الإنسانية من جيل إلى جيل، على مرّ العصور والى يوم الدين. 

ولأن للدور الحوزوي هذا الشأن الخطير في حياة الأمة الإسلامية، تفتح "رسالة النجف" ملف الحوزات العلمية في لبنان، بما له وما عليه، وتنشره على حلقات بدءًا من هذا العدد الذي يتضمن تحقيقًا عن "حوزة النجف الأشرف" في حاريص التي أسّسها سماحة الحجة الشيخ مفيد الفقيه.

التأسيس

تاريخ "حوزة النجف الأشرف" في حاريص، هو في وجه من وجوهه قراءة في سيرة حياة مؤسّسها الحجة الشيخ مفيد الفقيه بدءًا من العام 1989م.

في ذلك العام اضطر سماحته إلى مغادرة النجف الأشرف بعد أن اشتدّت حملات الاضطهاد من النظام العراقي السابق على العلماء والمراجع، فعاد الشيخ إلى لبنان بعد 38 عامًا أمضاها في النجف دارسًا ومدرّسًا.

من مدرسة الإمام الخوئي

حيث وصل الحجة الشيخ مفيد إلى لبنان، وعلى طبيعة العلماء، لم يستطع إلا أن يستمر في دوره كحاملٍ لرسالة مقدّسة تستوجب التبليغ، ففتح منزله في صور لكل راغب بالعلم، وبدأ بالتدريس، وحيث شاع الخبر في المنطقة ونواحيها كثُر الطلاب الساعون إلى التعلّم بين يديه وتكاثر عددهم، وبقدر ما كان يتّسع صدره لطلاب جدد، كانت مساحة المنزل المتواضع تضيق، فقضت الحاجة التوسع ، فتمّ استئجار إحدى الشقق القريبة التي ما لبثت أن ضاقت بدورها أمام تزايد الطلاب، واستمر هذا الضيق إلى أن ساق الله خيرًا حمله رجل الأعمال الحاج سعيد علي أحمد الذي أخذ على عاتقه بناء حوزة للطلاب، والذي سارع إلى بناء الحوزة، وإلى شراء شقة واسعة ينتقل إليها الطلاب ريثما ينجز بناء الحوزة، فتأمّن بعمل الخير هذا الحدّ الأدنى لمواصلة التدريس حتى العام 1998م تاريخ إنجاز بناء الحوزة في حاريص بشكل تام، والتي بدأ التدريس فيها بدءًا من العام 1999، فانضمت إلى سائر الحوزات العلمية الكبرى في لبنان والعالم الإسلامي، لتأخذ موقعًا متقدّمًا في ميدان نشر الرسالة الإسلامية وتبليغ أحكامها وفقًا للمذهب الإسلامي الجعفري الأصيل.

رعاية شؤون الأمة

المرتجى من تأسيس هذه الحوزة، والطموح كما يقول مؤسّسها الحجة الشيخ الفقيه، هو الحفاظ على العقيدة والمساهمة في رعاية شؤون الأمة والإبقاء على باب الاجتهاد مفتوحًا.

وعن مرجعية التقليد التي تستظل بها الحوزة يقول سماحته:

"في النجف لازمنا المرجع السيد محسن الحكيم وكان لنا تفويض منه، ثم انتقلنا بعد رحيله إلى مرجعية السيد الخوئي (قدس سره) الذي تلمّذنا على يديه ما يقرب من 31 عامًا أصولاً وفقهًا، والآن مع آية الله العظمى السيد علي السيستاني، ولنا تواصل مستمر مع بقية المراجع العظام الآخرين سواء في النجف الأشرف أو في مدينة قمّ المقدسة".

وفي الحديث عن الدين والسياسة وفي أي موقع تقف حوزة النجف الأشرف، يشير سماحته إلى أن الحوزة تتميز بأنها تجمع تحت سقفها كل الأطراف في المناسبات الدينية العامّة من كل الجهات والأحزاب، والى أن الانتماء الحزبي أو السياسي لا يُشكل مانعًا من الالتحاق بالحوزة والدراسة فيها بشرط واحد وهو عدم ممارسة أيّ نشاط ذي طابع حزبي داخل الحوزة.

وعن المنهجية الدراسية المتبّعة في الحوزة يقول الشيخ المفيد: "إنها المنهجية المتبّعة في النجف الأشرف".

تطوير المناهج والأساليب

وحيث تسأله عن الجدل أو النقاش الدائر في أوساط حوزوية وبين علماء وفقهاء عن ضرورة تطوير المناهج في الحوزات وتطوير أساليب التعليم الموروثة، ليستطيع العمل الحوزوي الارتقاء إلى مستوى العصر الحديث ومتطلباته في مواصلة التحدّيات المطروحة أمام الفكر الإسلامي، يقدّم الشيخ المفيد إجابة علمية مكثّفة يقول فيها:

لا يوجد من المناهج ما يخضع للتطوير في المقدمات التي لا بد منها في كل علم تُبنى نتائجه على الاستدلال، وكذلك لا معنى للتحدث عن التطوير في النتائج الفقهية، كما لا معنى للتطوير في كيفية الاستدلال المبني على أسسٍ منطقية ثابتة، ولا في نفس الأدلة من حيث ما تنطوي عليه من العناصر الموصلة للنتيجة المطلوبة، وكذلك علم الأصول، فإنه عبارة عن قواعد عقلية ونقلية ثابتة، تختلف الآراء في توثيقها وتقعيدها إيجابًا أو سلبًا، سعةً أو ضيقًا.

لذلك لا نصف بالجهل المركب من يتساءل  عما هو المقصود بتطوير المناهج غير التوضيح والتبسيط بنحو يصبح المطلب سهل التناول لكل أحد، حيث تكثر الشكوى من صعوبة المطالب وتعقيدها، وهذا غير موجود إلا في علم الأصول.

والرد على ذلك، أن صعوبة المطالب ودقتها، أمرٌ واقع لا بديل عنه، وأما التعقيد في العبارة فهو مسلم، ولكن طبيعة المطالب في كثير من الأحيان هي التي تعطي صفة التعقيد للعبارات المغلقة، وأساليب الطرح غير المألوفة عند من يدخل ابتداءً في علم الأصول، وأما المتدرج، فلا يحتاج إلى أكثر من أستاذ مستوعب للمطالب، وعنده ثروة من ألفاظ اللغة العلمية، وقدرة بيانية.

وأما إضافة علوم أخرى إلى مقدمات العلم التصورية والتصديقية، فهذا يعني علمًا آخر غير علم الأصول والفقه، مع أن ما يحتاج إليه علم الأصول والفقه من العلوم الأخرى مأخوذ بعين الاعتبار.

ولذلك دخلت كثير من مسائل العلوم الأخرى في هذا العلم بمقدار الحاجة، كإحدى المقدمات التي يحتاجها الباحث للتوصل إلى النتيجة القطعية، حيث يأخذ الأصولي الفقيه منها حاجته، ويستعين بها حسب المورد الذي يريد الاستدلال عليه، لأنه سيحتاج إلى نتائج من أكثر العلوم، لأن الشريعة مستوعبة لكل ما في هذا الوجود، فهو محتاج إلى مسائل من علم الهيئة والفلك، والفلسفة والرياضيات والطب والهندسة، لا بمعنى أن يكون طبيبًا وفيلسوفًا، بل بالمعنى الذي أشرنا إليه.

فالعقيدة تحتاج إلى علم الفلسفة، والمصلي والصائم يحتاج إلى علم الفلك والأهلّة في قبلته ومواقيته، ولا تخفى الحاجة إلى الرياضيات في المواريث والوصايا والمعاملات التي تقع بين الناس، كما لا تخفى الحاجة إلى بعض النتائج الطبية في علم الأجنة والتوليد، لتُعطى لها صفة الشرعية أو تُسلب عنها، وأما تغيير الكتاب أو تبديله بأسلوب وبآخر، فهذا ليس من تطوير المنهج، بل هو من التوضيح الذي لا بد منه.

ونضيف إلى ذلك، أن أساطين العلماء توصلوا إلى أعلى المراتب في سبر أغوار هذا العلم بالمنهج الموجود في الحوزات، وكل ما ذكروه هو تطوير وتبسيط كامل للمسألة من جميع جهاتها التي لها أدنى صلة بأي علم من العلوم، فقد تدرجوا في علم الأصول بقسميه (اللفظية والعملية) إلى أن استوعبوا كل مسائله التي لا بد من الاحتياج إليها أو يحتمل الحاجة إليها ولو من ناحية علمية، حتى وصل الأمر إلى كتابَي الكفاية والرسائل.

أما كتاب الكفاية للمحقق الخراساني (قدس سره)، فهي السبب الأساسي في طرح مسألة التطور والتوضيح، نظرًا للتعقيد في صياغة عبائرها، وهذا الذي ذكرنا أنه طرح وجيه.

ولكن المسؤولية تقع على المدّرسين، وليس عيبًا في الكتاب ومطالبه أن تكون عباراته مغلقة لدقة مطالبها، لأنه كتاب وضع للتدريس.

وكان ينقل لنا عن تلامذته (قدس الله أسرارهم جميعًا)، ومن جملتهم  المرجع الراحل الحكيم، وجدّنا الشيخ يوسف الفقيه (قدس سره)، أن درس الآخوند صاحب الكفاية ربما كان يستمر الساعة والساعات لتحقيق المطلب وتوضيحه، بالأخذ والرد والتحقيق، ثم وضع هذا الكتاب للتدريس، مع أن درسه كان درس الخارج، أي من الدروس العالية النهائية التي يمكن لطلابه أن يكون لهم الرأي في هذه المطالب.

وهو على كل حال من الناحية المنهجية يتضمن التسلسل الدقيق لعملية التدرج في إعطاء رأيه في المطالب الأصولية التي يحتاجها المجتهد في مقام الاستنباط، خصوصًا الجزء الأول بما تضمنه من المقدّمات التي ليست لها صلة مباشرة بقواعد الأصول، ولكنه لا يُستغنى عنها في علم الأصول لتكون قواعده متكاملة من جميع الجهات، كمسألة القطع والاشتراك والمشتق ونحوها.

وأما الجزء الثاني من كتاب الكفاية، فهو على نفس الطريقة، ولكنه لا يخرج عن مطالب الرسائل لأستاذه الشيخ الأعظم الأنصاري الذي كان عبارة عن نفس درسه الذي يلقيه في بحث الخارج العالي الموصل إلى النتيجة، فكانت مدرسة صاحب الكفاية على عكس مدرسة الشيخ الأنصاري، فقد طبع في كتاب الرسائل نفس الدروس التي كان يلقيها الشيخ الأنصاري، وقد كان تلامذته يدرّسون هذا الكتاب لمن كان وقتهم ملكًا لهم، ويعطونهم بعد إكمالها ونجاحهم في فهمها إجازة الاجتهاد في هذه القواعد.

ثم حصل تطور في طلاب العلوم وليس في المناهج، فكانت الكفاية للاطّلاع على أصل المطلب وفهمه ليمارس في دروس الخارج مناقشته على ضوء آراء الآخرين من الأساتذة.

كما صارت الرسائل لفهم جميع ما فيها فهمًا تصوريًا حتى يصل إلى أستاذ بحث الخارج ليضع النقاط على الحروف بعد استعراض مطلب الرسائل ومناقشته، علمًا بأن المطلب الذي يتبناه الشيخ الأنصاري في الرسائل قليل، بل هو دائمًا يناقش ويؤيد المطلب ويخدشه، فكان هذا الكتاب بالمنهج التربوي العلمي الذي لم يوجد مثله في علم الأصول، وحتى المطالب الأصولية التي جعلها الآخوند وغيره من تلامذته، وتلامذة تلامذته، محور البحث لا تزال هي المطالب المركزية في علم الأصول العملية، بحيث لم نجد ولا نعلم من وجد أو ادعى أنه وجد مطلبًا في الأصول العملية له دخل فيها، إلا وهو مذكور في الرسائل تصريحًا أو عرَضًا، إشكالاً أو جوابًا، سواء ممن تقدمه من الأصوليين أو تأخر عنه، بل لم توجد، مع أن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه عند الشيعة.

وبالعبارة المختصرة: قد طوّر هذا الشيخ الأعظم وتلميذه الخراساني علم الأصول بنحو لم يُسبق، ولن يُلحق، وكانت بعدهما، لعشرات العظماء المحققين مدراس أصولية مختلفة في أساليبها، ولكن الكل كانوا عيالاً على هذين العلمين، حيث كانت مطالبهما وآراؤهما هي المحور والمسألة المركزية.

وخلاصة القول: هي أن علم الأصول في الحوزات الدينية غير الأكاديمية في أعلى مراتب التطوير، خصوصًا وأن هذا المنهج هو الذي دفع بمدرسة الفقه الشيعي إلى هذا التطور الهائل الذي ربما يسبق عصره من كثير من الجهات، كما يظهر لمن سبر المسائل الفقهية التي كانت مطروحة قبل هذا العصر.

نعم ربما يؤخذ على الحوزات المعاصرة عدم الالتزام بالعلوم الأخرى إلا من خلال جهد الطالب الشخصي، هذا صحيح، ولكن على مرّ العصور كان هناك أشخاص عظماء ينصرفون إلى العلوم الأخرى كعلم الفلسفة والكلام وعلوم الهيئة وغيرها من العلوم التي تعطي لصاحبها صفة الموسوعية، وهذا أمر في غاية الأهمية، ولا نعرف مرجعًا لم تكن عنده هذه الصفة، ولذلك وصلوا إلى هذه المرتبة، ويرجع الناس إليهم في كل هذه العلوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([*]) نشر هذا التحقيق في (العدد صفر) من هذه المجلة، أول تأسيسها، سنة 2005م/1425هـ، وتضمن لقاءً صحفيًا أجراه الإعلامي السيد أحمد الموسوي مع سماحة الحجة الشيخ مفيد الفقيه (قدس سره)، لذلك نعيد نشره.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع والعشرون