السنة الثانية عشرة / العدد التاسع والعشرون / كانون ثاني  2017م / ربيع ثاني  1438هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

همسات في رحاب الشوق

العلاَّمة الأستاذ آية الله

الشيخ مفيد آل الفقيه العاملي (قده) عَلَم وعِلْم

الشيخ ناجي نجيب فرحات

  

إن كان لكل شيء ذكرى تُرافَقُ والنفس، أو يهوى المرءُ استمرارها -لا سيما إن حملت في طيّاتها السرور- فحريٌّ بذكرى صاحب الفضل أن تحملك إلى تجلّيات بقاء وخلود، في كنهها أخلاقٌ وأدبٌ وثقافةٌ وعِلْم وتديُّن، فتحكي علاقة، أو تشفي غليلاً، أو توافق الشغف الذي لا يتبدد على حين غرةٍ أو ينتهي عند لمحةٍ من سكون؛ وعند ذكريات الحبيب المرجع المقدّس المفيد تستقر الرؤى، لأن المفيد عنوان همة من تحصيل علمي، أنتجتها تجلياتُ النبوغ، فكانت اجتهادًا يسنى بفكره المستنير، ويحاكي لطافة أهل العصمة، محمد وآله (صلوات الله عليهم)؛ إذ تجلَّى بدرًا ساطعًا على مدى ردح من الزمن، أنار طريقنا فكان ذاكرةً تمتلئ بالقيَم، وساعة استراحة تتراخى على أريكة العلم كي تنكشف عندنا عوالم المجهول، وإما أنها تبتكر طريقة تحمل عطر الانجذاب، فتقود إلى الهداية من خلال انتشار عبيرها حين اندلق الإناء نهجًا فسال فهمًا، انتقى منها ذلك الزمن ما هو الأروع، أغدقها المفيد (قدس سره) فكان نورُ العلم بعضَ فيضه، وكان الحبُّ كلَّ عطائه.

فسلام عليك أيها المفيد المفيد!!!.

* * *

تعرَّفْته ذات يوم -والذاكرة لا تميل عن الحبيب- فتعالقتني تلك الشخصية الفذّة الرصينة الهادئة، وتسمَّرت نظراتي أرنو إليه، فأخذتني الدهشة، وأوجفني جليل الرّهبة التي تملّكتني بين يديه -وهو حال من يعرف سيرة العلماء أو يسترق سرّهم، حيث كانت سابقة سيرته العلمية قد تواردت إليَّ من طريق أقرانه وزملائه والأتراب، سواء في دراسته أم تدريسه ما بين النجف ولبنان- وفي خلَدي يجول سؤال وسؤال!! وكنت آنذاك يشغفني اسم المرجع الأول للشيعة الشيخ المفيد([1]) (قدس سره)، الذي طالما كان يتطرّق إلى سيرته أهلُ الحوزة العلمية وعلماؤها، مما يصرف النظر والتفكير إلى ذلك الاسم العظيم.

ولا أكتم سرًا إنني أمام عِظَم الوقار، ورغم معرفتي اليقينية به، فقد طارت بي الظنون -للوهلة الأولى- أن يكون وريثَ ذلك الحَبْر أو أحد أبنائه المسمّى باسمه؛ وقد بقيت تلك الصورة راسخة عندي مدة من الوقت، حتى بدَّدها التلمُّذ على يديه، والاغتراف من معين علمه، رغم بلوغي من السن ما لم يُعَذِّرني في ذلك التفكير.

أسعدني اللقاء، وقد أسعفني الحظ لأكون فيما بعدُ أحدَ روَّاد علمه أو بعض جلساء درسه وحواراته العلمية مدة تجاوزت حدود السنين وسوانح الوقت؛ وسابقتُ فيها عند حلبات الفهم ما بين التحصيل والتهذيب والبحث والتقليب في صفحاته المضيئة، أو التوجيه والترشيد حين يعترينا شجون الهم، وتجهيل العشير، وتهكُّم الجاهلين، وتجهُّم الموجفين؛ ما يجعله قبلة عاشقيه -وأنا واحد منهم- وهو الذي يألف ويؤلَف، فيسكن القلب منذ الوهلة الأولى وصورته مشعل وضَّاء؛ حفيٌ بمن يقصده، رفيقٌ بمن يلوذ به؛ سهلُ العريكة عند عارفيه؛ ثاقب البصيرة حين تدهمه المسائل، فيسكبها في قالب التطبيق بلا تكلّف عناء، لأنه خبيرُ صناعتها وصائنُ جودتها، كي يركنها موقع الانبعاث، والمعنى حقيقٌ به أن يصان، بلا مناعة بيان ولا مناقشة ذي لسان، والفهم ركين بين فوديه.

الهيبة نعمة إلهية لا تكون لغير ذوي الانبعاث بها، كي تحدث إصلاحًا أو تفصح عن شخصية صاحبها عزةً في مجتمعه، فيرقى احترامًا بين ظهرانيها، أو يشمخ رفعة في مراقي الوقار، يسمو بها إلى البارئ، فهي بعض عبادته، لأن التواضع لله جعل من أهل الإيمان نموذج الرقي، والعلماء أرقى أهل الفهم، وأولى بهم من كل داهم، لا سيما حين يدهم العلم أهل المروءة، فتستدعي الإنسانية طريق نجاح وإنجاح، كي تدفع بأهلها صعودًا وتوطنهم سعودًا.

فحبذا علمٌ يجود به الفضلاء على عتبة الفكر الناهض حين يستقي المعين صافيًا، ليستقر خفايا الذهن رؤية صائبة المرمى، واضحة الأفق، ثاقبة البصيرة، لا تخالف الإمكان، بل إنها من العسر أبعد، وأنت ذيّاك المعين الذي لا يزغل حيث تعوَّد أن يجافي الغش والبهتان، ولم يرضَ موافقة أن يكدَّر لأنك الواثق بطهر المنتقى الذي استقيتَهُ من بيت النبوة  (صلى الله عليه وآله)، فجمعَت بين الهيبتين: هيبة العلم، وهيبة الإيمان بالله!!

وأخلاق حسنة تستهويك، رفدها الذات. وقلبك الممتلىء حبًا لا يموت فيه الاشتياق، والهوى حب الإله؛ وفي مستنير صدرك القرآن، حبّذا نور الرحمن يحمل قيمة الإنسان وحقيقة الوجود، كما أرادها الله!!   

ذاتٌ ترفّعت فانساقت إلى رضى ربِّها حين يشغفُها الركونُ إلى رَوح الله، إلى كُنهِ الأسرار الإلهية السامية في ملكوت السناء الرباني، فتسمو وخيالُها اللانهاية الذي ألِفَتْ معه اللقاءَ روحًا ومعرفة؛ فإذا الأنوارُ على سرادقِ العرش انبهارٌ يشغفُ الوالهَ كي يألفَ بالحبِّ الضياءَ، أو تلهمَ المشتاقَ كي يلاحقَها فيختزلَ المسافات، والروحُ حلولٌ عندهم يوافقُها ائتلافٌ، والهوى ما بينهما صبوةٌ تهدي الرفيقَ إلى الرفيقِ، وتلمسُ الوعيَ بلا إدراكِ بُعدِ الزمن؛ فتحلو المناجاةُ في سكونِ الرهبِ المؤْنِس، يهمسُ بها القلبُ أو ينطقُها المناجي حبًا. فيا لذةَ النجوى والأنينُ انتظار؛ ويا حلاوة المكابدة بالشوق عند العارفين، فهي مفتاحُ الفرج بعد طول اللهف.

أترانا نحمل من خيالنا طيف ذكرى؟؟ أم هي حقيقة عهد ترسَّخ بالماضي دمغةً على جبين الزمن، فغفا يطبق جفنيه على أجمل لحظات عبرت أفق ذراه تحت قبة علم الدين الحنيف، وما استقوت لتربك أهلها، إنما استمرت إلى حاضر نور لا يضيع في متاهات تشعبت، فهي تلاقي النور الغابر في معاني الواثقين؛ ثم إلى رؤية تسمو فوق الوهم لتحكي ما ارتأت أن تحاكيه فتنتشي بغير صناعة الانتشاء، أو ترتقي فوق علياء السماك، والروح معراج النجاح حين يتوافق النظر بالوفاء، وما بينهما سناء الروح النائر السرمدي؟!

* * *

لله در أيامنا الغابرة، مضت تحملنا ذكرياتُها إلى سالف عهد من لقاء وعلم، إلفها منادمة على لذيذ سلوى، نؤمِّل بها أهل الأنس، ولئن تفرَّق الجمعُ فقد بقي أثر التربية مودة هي بعض ثمالة شرب، تحلو بقطرها فتستمر حبًا، ولا يُفَلُّ العقدُ بعد أهلها؛ بل ولا انفرط سبك نضيدها عند حدود الابتعاد الجسدي، إنما تعالقت الأرواح بخيط نور تحيك منه جميل دثار، أحبكته يد الحكمة فالتفَّ على مواثيق قلوب، تزدحم على رحبها المواعيد إلى جديد، وفي كنهها طيف يخلِّد الذكرى، أو كرى عاشق أغفى على همهمات حنين وفي النفس منه لهفٌ اختصر كل تلك العلاقة بين الأمس والنديم، أو بين المودة والرهبة!! .

ومن تجليات العلم بين يديك مناغاة الحبيب إلى الحبيب، أو مرقاة سادر إلى عالم المستحيل، فتنتحي الكلمات جانب المعرفة المرتبطة بوحي رباني، وتستحلي الانحناء مطواعة أو تتجلى نور هداية ورشاد في قنَّة مجد الكلمة. وما أن تستقر قلب المتلقي إلاَّ وفي رشدها المعرفة تهوى الانعتاق من ربقة التحجر، وتسعى إلى الانقياد في رحمة العاطفة التي يسبغها على أبنائه، وهو المدنف المرتقب لقاء أحبة ليحضنهم حبًا، فيهيبهم أن يوسعهم الفشل، ليرغمهم الانحطاط عن الإكمال، أو يُحجِم بهم عن التحصيل العلمي فلا هم براحة بعدها، ولا يقوِّمهم انبعاث من سقوط، وتلك هي حالة من طلب العلم اجتهادًا لا سيما بين يدي العلماء -والمفيد أهلها-.

وقرآن ربك لا تنتهي عندك أسرارُه الموثقات حين تهيم به إلفًا، تجلو غامض السر ومكامن العلم، وأنت الفهيم في رحاب العلم تستجلي غامض الحياة، أو تضع صورة الرؤيا لتجسدها طريقة عبور إلى الآت؛ تغوص في المفاهيم بلا غامض يعتري المعنى أو يغشّي الواضحات حين يُشكِلُ الاستنباط في رؤى الآخرين، فيغدو المدرك الإلهي صندوق الأسرار وموضح الشك بعد الارتياب؛ وليخرج جوهر الكلمة من صميم المنتقى أو من روح الآية مفاهيم لا يجتاحها الجهل والتشكيك.

كنه التفسير رأيك، لا يخيب كي يظهر الحكم صوابًا، ولا يشوبه نزوع أو عصبية أو رياء، ولا يدخل في أتون الاستهجان والاستحلاء؛ بل رابط الفهم وسيلته.

أقلِّبُ الآراء فأجدك باحثًا في الآراء والاجتهادات، مستقرئًا ألوانها وخفايا النوايا التي قد يمتطيها أصحابُها ليقودوا المعنى إلى الانحراف، وأنت المصوِّبُ المتنقل على سفح الرؤى كي تنتقي السر الصويب؛ وسبيل البقاء منتهى البحث الخالد، وعندها تستحلي المكوث في رحب السكون كي يحلو مع جلالك السكون.

لقد آنسني البيان حين قاربتُ اليراع فغزوتُ ثاقب الفكر، ونظرتي تخترق قذال المعرفة المزدان بتجربة السنين ابيضاضًا، كناصع القلب الرؤوف الذي ألفناه رحمة؛ وليس من الغرابة هواية التلميذ أن يوجه تحية ثناء لأستاذه والمرشد الموجِّه -وما دأبُ التلميذ أن يتجرأ بين يدي أستاذه- لكن دافعي كان مزيجًا من شوق وذكرى من ناحية، ولهفة إلى الاستزادة من فيوض علم معلمي من ناحية ثانية؛ رغم توالي الأيام على تحصيلي العلمي بين يديه؛ فطفقت أنظر في تراثه مدقِّقًا، لأجده (قدس سره) قد غلب على كتابته التنوع الفقهي، يكتب مدققًا في جوانب شتى، مستعينًا بمصادر وثيقة ومراجع ثابتة، استوفى حججها فاستوعب مكامنها؛ يميزها لغة، ويقلِّبها في فنون تنوّعت وأفكار استحسنها، فصاغها دون تردد وقد شحذ الهمة، مثبتًا أن النسغ من نوع الأصل (آل البيت  (عليهم السلام))، فأمسك بزمام عقالها كي لا تفلت من تقليب وتمحيص ولكي تكون نبراسًا، زيتُهُ قريحةُ عالم، ومنارتُه فوق عقل العاقلين. فلا قيمة للعنوان ما لم يَصفُ روح الباحث بلا رياء ولا عُجب؛ فكان النتاج من كوم الكتب فقهًا، ومن تراكم العلم تنظيمًا، ومن تنوع العناوين مكتبة سائرة لا تتوقف بالعطاء، تميِّز السمين وتنبذ الغث الرديء؛ ولم يكتفِ عندها إلا ليدرسها مدرِّسًا مدققًا هاديًا مرشدًا؛ فقد نوَّعها ما بين الأصول الفقهية والعقيدة والبحوث العبادية، كما المعاملات، إلى أن سبر بحر القواعد بما فيه من استدلال واستنتاج؛ فجعلَنا نقتطف النتاجَ ثمرًا طيبًا يزكو بنا حين يزكو بالإنفاق.

قرآنك الآل الكرام  (عليهم السلام) نائر بالمعجزات، ناطق بالمكرمات والخلق النبيل، تهواه مرفدًا وتحمله أمانة إلى يوم الورود، فهو رايتك في محضر الحب المدرك قدر الأئمة  (عليهم السلام)، واعيًا علمهم اللَّدُني حيث الحقيقة الراسخة؛ ويكفيك أن يكون هذا القرآن الناطق هو رأيك في عالم هذا الناس، حسبُك فيه الصدق لا يرضيك غير استكانة على متن الخُلُق، تزكيك لتروم منها الخلود في رحاب الفردوس الممدود؛ وما بين الذكرى والذكر ترقد نفسك الهانئة بالركون إلى عقيدة الذاكرين الأصفياء  (عليهم السلام).

ما بين دمعة حرَّى للمصاب الجليل وكلمة حق ترسم طريق العبور أو توسم نهج المستمسك الركين، تلك هي صورة كربلاء في ضميرك الحر، بل هي صورة الإمامة في عقيدتك المثلى، يشجيك من المأساة حرارة في الحنايا كي تظهر في حشرجات الآه، أو تختفي في سر صدرك الملتاع ضيقًا، تتنفس النعي بعضًا من حياة، وتخرج اللوعة تعبيرًا عن رفيق الشعور بالمأساة، فهي درسك المستمر مع توارد الأحداث، يغرس حرقة الاستكانة بعدما استعار ملايين التعابير، فتنطلق الصرخة من صمت اعتبار، لتجاذب أطراف اللهف الحارق من غير جمر الغضا، أو كيَّةٍ من محمَّى الصفيح المجمَّر نارًا، أو تحاكي نور الهداية من فيض ضياء، فحمرته حسرة في عين الأمناء عند الطريقة المثلى لا تغشِّيها الشبهات!!

يا للكلمة، لو تستطيع أن تجري بنا ثباتًا لعله يكفينا بها البيِّنات حين ننطق بها، وهي شجرة طيبة ثابتة الأصل فرعها في السماء، لا تقبل التدليس والتعمية. بل لو تستساغ معها المواقف حيث تصبح سيفًا عندما تصرخ بالحق فيجيبها وتهدر بالعدل فتنازِل الباطل بلا غموض. وليتها تعبِّر عن مراقي الحنين هناءة بأوقاتنا الرافهة، لتصوغ من ذلك العلم منهجًا يستقيم بالكفاءة، إذ أهلها أَكْفاء يرويهم الحق، ويعينهم حافظ العهد حسيني الوفاء، لا يعفيه سغب الحاقدين للدماء؛ ولا يرديه فكر الشانئين، فهو المصفى من رحيق الطهر، وسرُّ الواثق أن يبقى الأمين، وعلى هدي النبوة سائرًا. فلذا أجدك أيها المعلم المفيد (قدس سره) صخرة من ثبات لا ترتجف للعاتيات؛ فكنت العالم الفقيه الغارس نبتَهُ في مهب الريح كي يواجه الانبهار، ومنك ينهج المتعلمون في مدرسة الآل  (عليهم السلام).

حبذا طريقتك المثلى وصفاء سريرتك العليا؛ ترقى وسرُك الميمون راقٍ بروح من صفاء؛ تحاكي النوايا وطرفك الساكن لا يغفو عن رؤية من سناء، لتعبر خلف سحاب الوجد أو وراء منتقى الهمس، فتجعل من همس الوشوشات مقيسًا على مستوى الجد، وتُلبِسُهُ ثوب الأدب أو تسوقه خُلُقًا، وفي كل ذلك يصبح حكمًا أو عملاً من طريقة الإنسان.

صابرٌ والبلاء حُسنُ اختيار إلهيٍ للأمثل فالأمثل؛ يحملك إلى السكون مرتقبًا -والانتظار نهج المؤمن حين يلوذ بسيد الخلق بعد آبائه وإمام زمانه الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)-، بل هي سيرة وميثاق لا يبعدك عن ذاتك، ولا ينفصم عن عقيدتك؛ فيجعل من شوقك للقاء حرارةً لا يبرد أوارها، وشاغلاً يتحول ميثاقًا إلى جنة لا يعرفها إلاَّ أمثالك، ولا يستحقها إلا المؤمنون بربهم ثقة؛ وأنت الهادف من ثقتك ما تبلغ بها رضى الرحمن، أو تقارب منهجك الصويب، لتعلِّمنا أن صبرك رضىً بقضاء الله لا ينفصم عن شخصك المستكين طاعة، فيغدو الاستسلام لقضاء الله كبرًا بعين الجليل سبحانه، حين يمس الأذى صاحبه المحتسب أمره في جنب الله، وكله أمل في مستقبل آت على مسرح الآهات، ومرارة الأنات، وزفراتٍ تلهب المشتاق للمشتاق، وتقرب الروح بالروح، وأنت قريب من كل روح؛ وهذه صورة أحبابك الغابرين لن تفارق عينيك الحالمتين، وتأبى المنية إلاَّ الصفوة التي أحببت حتى اجتباك للبلاء، وحاشا لربك أن يستند في اختياره لغلطة تسرُّع، أو يستبد برأي اندفاع أو عاطفة هوى.

فكنتَ أهلاً للبلاء، وكان المحك نجاحَك عند مناظرة المحال!!.

* * *

تسامرني الذكريات وعندي منك أجمل أحاديث الأنس، يجذبني الحنين فأغفو على مطارحاتٍ من علوم شتى، وقائدي دافع من ذُكاءِ طيِّب النشر؛ يحفزني عقلك العظيم؛ ترأف بي يداك أن أزل عند أول نزال؛ أو تلقَّاني بتربيت على كتفي عاطفة تنساب كالطلِّ عذوبةً، فآنس من نسم رَوْحك العليل نسمة واعدة، تطمئن عندها الروح، ترفع من مقام العلم، تتناغم مع تلك الأحلام الوردية، ويبقى لذيذُ الحلم طيفَ السمر اللامتناه.

تسامرني الذكريات فأسري على نغم الآه، يجهدني الحنين، أغفو فيؤنس مقلتيَّ حُلُمُ الآه، ويقلقني طيفُك المتشبث بمخيلتي كي لا يفارقني فيوحشني الطريق؛ آه من وحشة هذا العمر يقلبني الأسى إلى كل اتجاه، والأيام تُجرِّعُني كؤوسَ الفرقة ما بين نفسي ونفسي، أو بين ذاتي والذات، وأنت الذات يا ذاتي؛ يحرقني من بعادك الجفاء، وهذا الروح المكلوم لا يلتئم، وسناك من وميض الشعور آياتٌ ماثلاتٌ على رحب الخلود.

فطوباك يشغلك الذكر ولا يثنيك البلاء؛ وطوبى لمأواك النعيم.

ــــــــــــــــــــ

([1]) المقصود به شيخ الطائفة محمد بن محمد بن النعمان (338 هـ -413 ه‍).

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع والعشرون