السنة الثانية عشرة / العدد التاسع والعشرون / كانون ثاني  2017م / ربيع ثاني  1438هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تاريخ المرجعية وتأسيس الحوزات(*)

سماحة الحجة الشيخ مفيد الفقيه (قده)

 

 بعدما آمن المسلمون بشريعة الإسلام الذي هو دِين الله تعالى في الأرض، وَجَبَ عليهم بحُكْم العقل الذي يدرك ضرورة جَلْب النفع ودَفْع الضرر من الجزاء الأُخْروي أن يطيـعوا أوامـر الله تعالى، بتطبيق هذه الشريعة، والانقياد لما يفرض عليهم في جميـع شؤون حياتهم، لأنّ الله تعالى العالم بكلّ شيء، وبجميع المصالح والمفاسد والمستجدات، قد شرّع الأحكام لكلّ أفعال الإنسان على طبق تلك المِلاكات والمصالح التي يعلمها.

ولا يمكن أن نفترض أو نقبل أي افتراض بخلُوّ حالة من حالات الإنسان أو أفعاله الاختيارية عن الحكم الشرعي، إما بنحو النص والظهور، وإما بالقواعد العامة -المنطبقة على ذلك المورد- الراجعة بالنتيجة إلى النص على هذا المورد، ولكن لا بخصوصه، بل بالقانون العام الذي يشمله ويشمل غيره من الموارد.

وقـد أكمل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بلسانه ولسان أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وسلوكهم، وإقرارهم لما أقرّوه من الأوضـاع القائمة قبلهم، والتي تقوم بعدهم.

أكملوا هذه الشريعة المقدّسة من الناحية التشريعية، وبقي على المسلمين أن يدركوا أبعادها ومضامينها ليطبّقوها.

بداية الاختلاف ودور الأئمة (ع)

وقد بدأ الخلاف والاختلاف في فَهْم الشريعة، كما بـدأ الاختلاف في تطبيقها، بعد رحيـل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى مباشرة، فبدأَتْ الأحكام التي جاء بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) تخفى تدريجيًا.

ومع مرور الزمن تعاظَمَتْ هذه الفتنةُ، فتنةُ خفاء الحكم الحق، بسبب الاختلاف في الفهم من جهة، ومحاولة طَمْس معالم الشريعة التي جاء بها الرسول (صلى الله عليه وآله) من قِبَل المنافقين من جهة أخرى.

ولم يكن هؤلاء الدسّاسون ليستعملوا الأساليب المكشوفة التي من شأنها الطعن وتضييع الحق، بل أخذوا يضعون الأحاديث المكذوبة على الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعلى أصحابه، ثم على أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، بعدما عرفوا قداسة هؤلاء عند المسلمين.

فكانت أصعب مرحلة لصيانة الشريعة في أُولى ممارستها الممتدة إلى جميع بلدان المسلمين وعلى طول الزمان.

ولكنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)تجاوزوا هذه المرحلة أثناء وجودهم، إذ كانت عليهم المسؤولية الأولى بحكم تنصيبهم لذلك من قِبَل الله تعالى، لأنهم خُلقوا لهذا المنصب وليس للدنيا بما فيها من الحُكم والسلطة والترف والملذات.

صانوا التشريع الذي جاء به سيد المرسلين (عليهم السلام) من خلال المؤمنين المخلصين من أصحابهم وتابعيهم الذين امتحن الله تعالى قلوبهم للإيمان.

فصانوا هذا التشريع المقدّس ووضعوا بأيدي هؤلاء المخلصين النصوص والقواعد التي يحتاجها المسلمون في حضورهم (عليهم السلام) مع عدم إمكان الوصول إليهم وبعد غيابهم، والتي توصلهم إلى مضمون الشريعة وجوهرها، لأنهم كلما بعدوا عن عصر النصوص فستكون الأحكام أقل وضوحًا، وسيكون الحق أكثر خفاء.

وضعوا هذه النصوص والقواعد التي ترفع الغموض في مستقبل الأيام عن الأحكام الشرعية والمواقف العملية الواجب اتّباعها إلى يوم القيامة، وضعوها عند أصحابهم من المتكلمين والرواة والفقهاء لينقلوها إلى الأجيال؛ جيلاً بعد جيل.

ولما اكتملت الصيانة من قِبلهم (عليهم السلام)، وتكامَل الفقـه الإسلامي عند أصحابهم، كانت عملية التطبيق في عَهْد الغَـيْبة الصغرى من قِبَل الإمام المنتظر الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره، على يد نوّابه الأربعة رضوان الله عليهم، فكان هؤلاء هم مراجع الشيعة.

ولما انتهَتْ فترة الغَـيْبة الصغرى بوفاة آخر نوّاب الإمام الأربعة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهو علي بن محمد السمري رضوان الله عليه، سنة 329 هـ، وَقَعَتْ الغَيْـبة الكبرى.

وحيث أنَّ الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو وليُّ الأَمْر والمسؤول الأخير عن هذه الشريعة إلى قيام الساعة في عقيدة الشيعة الإماميـة، لم يكن ليترك هذا الأمر سدًى ويدعه هملاً، فقد كان هؤلاء الأربعة وُكَلاء خاصّين، يعني أنه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) نصّ عليهم بالخصوص.

النص على مقام المرجعية

فلما انتهى عصرهم، ووقعَتْ الغَـيْبة الكبرى، نصب نيابة عنه لتبليغ الشريعة وصيانتها على ضوء القواعد والأحكام الشرعية المعروفة، أشخاصًا آخرين.

لكن لا بأشخاصهم وأسمائهم بل بأوصافٍ وعناوينَ واضحة؛ مَنْ تحقَّـقَتْ فيـه هذه العناوين والشروط فهو الولي والنـائب والوكيل من قِبَـله (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في استخراج تلك الأحكام وتبليغها والقيام على تنفيذها.

فكان هؤلاء العلماء والفقهاء والرواة هم الأمناء على دِين الله تعالى، وعلى حقوق المسلمين، من دمائهم، وأموالهم، وأنسابهم، وأعراضهم، وتوجيههم كما أراد لهم الله تعالى..

هؤلاء هـم المراجـع..

يمكننا أنْ نقول: بأنّ المرجعية بهذا العنوان بَدَأَتْ من هذا الزمان، حيث يمكن أخْذه من الروايات والمكاتبات التي وردَتْ عن الإمام (عليه السلام) إلى هؤلاء بأشخاصهم مَرّةً، وبعناوينهم أخرى، سواء منه (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، أو من الأئمة قبله.

وفي جملة من الروايات: الرواية المشهورة بمقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في جواب السؤال عن رجلَيْن بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث، إلى أن يقول: (فكيف يصنعان؟ فقال (عليه السلام): ينظران مَنْ كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادُّ علينا الرادّ على الله هو على حدِّ الشِّرْك بالله)([1]).

(ومنها): رواية إسحاق بن يعقوب، قال: (سأَلْتُ محمدَ بن عثمان العمريّ -وهو أحد نواب الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)- أن يوصل لي كتابًا قد سألتُ فيه عن مسائل أَشْكَلَتْ عليّ، فورد التوقيعُ بخطِّ مولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف): أمّا ما سأَلْتَ عنه أَرْشَدك الله وثبّتك).. إلى أن قال: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رُواة حديثنا فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله، وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل -أبوه أيضًا أحد النواب الأربعة- فإنه ثقتي، وكتابه كتابي)([2]).

فهذه الرواية عبّرَتْ بالرجوع إلى هؤلاء، فهم المرجع في أمور الدين بعد الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لِنَصِّ الإمام لهم في التوقيع الصحيح للقاسم بن علاء.

صفات المرجع في سلوكه وعلمه

أما من حيث السلوك فبالإضافة إلى الروايات الكثيرة التي تعدد صفاته النفسية والسلوكية، نستفيد من الرواية المتقدمة كيف يتعامل الناس مع المرجع بقوله (عليه السلام): (فإنَّهم حجَّتي عليكم).

فإنه بعد الأمْر بالرجوع إليهم في كل أمْر يحتاجون فيه إلى الرجوع إلى الإمام، فالواجب عليهم أن يأخذوا بكل ما يأمرونهم به، ولا يردّوه، لأنّ الرادّ عليهم رادّ على الإمام (عليه السلام) بعد تنصيبه لهم، والرادّ على الإمام رادّ على الله تعالى.

وحيث إنهم لا يملكون درجة العصمة التي يجب توفُّرها في الإمام، فالإمام حجّة الله عليهم إذا خالفوا أحكام الله تعالى.

ولكنهم لا يخالفونها عن عمد، فإذا لم يصيبوا الواقع فلهم عُذرهم وحجتهم في تطبيق هذه القواعد.

وأما المخالفة في العمل والسلوك لا سمح الله، فهذه مما لم يثبت عند الشيعة لحدّ الآن مَنْ صدرَتْ منه المعاصي في مرجعية من المراجع والأعلام العظام.

بل الثابت عنهم أنهم يجسّدون التقوى والروحانية والقداسة، ويتمتعون بصفات الكمال العالية، ويتعبون أنفسهم في نشر الأحكام وتطبيقها، حتى لو كان الثمن هو التضحية بأرواحهم الطاهرة، كما حدث ويحدث في كل العصور.

وقد وَرَدَتْ في صفات المرجع والمفتي روايات كثيرة، تدل على أنهم المأمونون على الدِّين والدنيـا:

ففي بعضها: أنه ورد على القاسم بن العلاء توقيع شريف يقول فيه: (فإنّه لا عُذْر لأَحَدٍ من مَوَالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثِقاتُنا، وقد عرفوا بأنّا نفاوضهم سـرَّنا ونحملهم إياه إليهم)([3]).

وفي بعضها: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يحملُ هذا الدِّين في كلِّ قَرْن عُدُولٌ يَنْفُون عنه تَأْويلَ المُبْطلين، وتَحْريفَ الغَالِين، وانْتحالَ الجاهلين..)([4]).

وفي بعض الروايات: (..فأمّا مَنْ كان مِن الفقهاء صائنـًا لنفسه، حافظًا لدينـه، مُخالفًا لهواه، مُطيعًا لأَمْرِ مَوْلاه، فَلِلْعوام أنْ يُقَلِّدوه..)([5]).

الناحية العلمية في المرجع

أمّا من الناحية العلمية، فلابد للمرجع من الوصول إلى تلك المرتبة العلمية التي أشارَتْ إليها هذه الروايات وغيرها.

فلابد أن يصل إلى أعلى مرتبة من القدرة على الاستنباط الفعلي للأحكام الشرعية ليكون نائبـًا عن الإمام (عليه السلام) في تبليغ الأحكام الشرعية.

من أجل ذلك اهتمّ نَفَرٌ من المؤمنين -امتثالاً للآية الكريمة {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون}([6])- بدراسة علم الفقه، وتدوينه وترتيب أبوابه وفروعه،وإقامة الأدلة على كل حكم لم يكن بديهيًا أو مما هو ضروري عند المسلمين، حيث لم تكن الأحكام كلُّها واضحة أو بديهية، نظرًا للبُـعْد عن عَهْد النَّص من جهة، ولكثرة الدّسّ والاختلاف من جهة أخرى.

فكان لا بدّ لكل واحد منهم، ليكون فقيهًا وعالمًا ومرجعًا في الفتوى، مِنْ أنْ يبذل الجهد ليصل إلى النتيجة بالأدلة القاطعة، على ضوء القواعد المنصوصة من قبلهم (عليهم السلام)، التي رواها الأصحاب وكتبوها امتثالاً لأمْر الأئمة (عليهم السلام) بكتابتها، وعلّلوا أوامرهم هذه على ما ورد في كثير من الروايات بـ (إنكم لا تحفظون حتى تكتبوا)، فكانت هذه الكتابة الحكمة البالغة في حفْظ الشريعة ودفْعها إلى الأجيال.

الحاجة إلى تأسيس الحوزات:

ولما كان التوصل إلى الحكم الشرعي في علم الفقه يحتاج إلى مقدمات كثيرة من العلوم الأخرى، أُسِّسَتْ الحوزات العلمية في مختلف أقطار العالم الإسلامي.

فكانت جامعات على أعلى المستويات المطلوبة، لأنّ الفقيه الذي يريد أن يتصدى للفتوى وللدعوة إلى الله تعالى ولتفسير الآيات والسنة النبوية، مع تخلّقه بالأخلاق الإسلامية المأخوذة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الميامين (عليهم السلام) وأصحابه المنتجَبين (رضوان الله عليهم)، يحتاج إلى علم اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والمنطق، وعلم الرجال، والتفسير، والفلسفة بالمقدار الذي يستفيد به لاستعمال الأدلة العقلية.

ولا بد له لأجل أن يكون علم الفقه عنده متكاملاً من الإلمام بهذه العلوم؛ بعضها بالتفصيل وبعضها على سبيل الإجمال بالمقدار الذي يحتاجه.

فالأحكام الشرعية مأخوذة من الكتاب والسنة، مع دخالة العقل في بعض بعض مقدمات الاستدلال، فلا بد من الاطّلاع على كل ما له دخْل في هذه اللغة من كيفية التفهّم والتفهيم والاستفادة من الكلام على الوجه الدقيق، لأنّ ألفاظ الكتاب والسنة هي الأساس الأخير لتقعيد قواعد اللغة العربية، لصرفها، ونحوها، وحقيقتها ومجازها، فكان الأمر يحتاج إلى علم اللغة والصرف والنحو والبلاغة، بالإضافة إلى العلم بتفسير القرآن الكريم.

ولأنّ المنطق هو الذي يُنظّم عملية الاستدلال والاستنتاج في كلّ عِلْم، لذا يحتاج الفقيه إلى علم المنطق الذي يَصُون الفكر عن الخطأ في كيفية ترتيب الأمور المعلومة للتوصل إلى النتيجة المطلوبة.

ولا تخفى أهمية علمَي الحديث والرجال في الفقه، لأنّ الفقيه ينبغي له يكون عالمًا بأقسام الحديث ولغته، وعالمًا بنَقْد الحديث من خلال علم الرجال الذي هو الوسيلة لمعرفة مدى صحة الأحاديث، لأنّ مجموعة من الأحاديث في بعض كتب الحديث لا يمكن أن تُقبل، ولابدّ من نقدها.

والعلم الأساسي والأخير في عملية الاستنباط هو علم الأصول، الذي يبتني في أكثر مباحثه على القضايا العقلية النظرية والعملية، يُعتبر من المبادئ التصديقية لعلم الفقه.

وكلٌّ من علم الأصول وعلم الفقه يوصل إلى الحكم الشرعي، مباشرة أو بتعيين الوظيفة العملية عند غياب الحكم الواقعي بسب عدم الوصول إليه من النصوص.

ويرتكز الاستدلال في هذين العِلمَين على الكتاب والسنة والإجماع وعلى الدليل العقلي عند طائفة من المسلمين -الشيعة- والقياس عند آخرين.

والسبب في الاحتياج إلى العلوم العقلية، بالإضافة إلى أن العقل هو الأصل في العقائد الأساسية، أنه وقع الخلاف بين الصحابة في الفتوى بسب اختلافهم في فهم نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، فأضافوا الإجماع لأنه كاشف قطعي عن الحكم، وأضافوا دليل العقل لأنه الأصل في وجوب الإطاعة وكيفيّتها، ولأنه لا يُستغنى عنه في كثير من الأحكام التي نسميها غير المستقلات العقلية، فعند عدم النص مع بذل الجهد وعدم انطباق قاعدة من القواعد العامة يكون الدليل العقلي هو الدليل عند طائفة الشيعة، بينما يكون القياس ونحوه هو المتَّبعَ عند طائفة أخرى.

وقد وضع نواة "القياس" بنظر هذه الطائفة الحاكم الثاني عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري (اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها عند الله تعالى وأشبهها بالحق)([7])، وممن أخذ بالقياس بعد ذلك وأرسى قواعده أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150هـ.

تاريخ بداية المرجعية المصطلحة:

وبقي علماء الحديث، بين حِفْظه وروايته، والمنع من تدوينه وروايته، حتى أيام الحكم الأموي الذي لم يكن من جميع الجهات حُكْمًا إسلاميًا، حيث حصَلَتْ في هذه الفترة فَجْوة مهمّة بعد خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الفقه والحديث، وبقي أهل المدينة هم المرجع في الفتيا، إلى أن جاء العصر العباسي الأول سنة 132هـ، حيث شجع الحكام العباسيون الحركة العلمية لسبب ولآخر، فانتعشت العلوم الدينية ونهضت نهوضًا سريعًا ببركة وجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وفي العصر العباسي الثاني سنة 332 هـ، وبعد غياب آخر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كثر المجتهدون من فقهاء الإسلام وكوّنوا لهم مذاهب كثيرة، ولكنها انحصرت بعد فترة من الزمن في عهد القادر العباسي في أربعة مذاهب([8]).

وذكر الملّا عبد الله تلميذ المجلسي في رياض العلماء: أنه في زمن علم الهدى الشريف المرتضى (رحمه الله)، اتفق رؤساء الأمة على تقليل الآراء في الأحكام، حتى لا توجِب كثرةُ الخلاف قلّةَ الوثوق بالشريعة كما حدث للأناجيل المبتدعة.

واتفقوا على أنْ تدفع كل طائفة مبلغًا من المال ليُقرّ مذهبها رسميًا.

فاستطاع أهل المذاهب الأربعة أن يدفعوا، ولم تدفع المذاهب الأخرى، ومن جملتها الإمامية من الشيعة، بالإضافة إلى عدم موافقتهم على هذا الأمر من أصله، لأنه لا ينسجم مع عقيدتهم في الفقه وفي غيره من الأحكام الإسلامية العامة.

فانسدَّ باب الاجتهاد عند المذاهب الإسلامية المذكورة، وبقي عند الشيعة مفتوحًا بما احتفظوا به من النصوص التي حملوها عن الأئمـة (عليهم السلام)، حيث لم يكن عندهم بُعْد عن عصر النص.

ولما وقعَتْ الغَـيْبة الكبرى بوفاة علي بن محمد السّمري آخر نوّاب الحجة المنتظر سنة 329، ودوّنت فروع الفقه الجعفري، بدأت المرجعية الشيعية في مراحلها الأولى.

وأَوّل مَنْ فتح باب استنباط الفروع من أدلتها وهذّبها ونظّمها، كعلمٍ له اسم، هو الشيخ الجليل محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي المتوفى سنة 381 هـ، وكان من مشايخ الشيخ المفيد (رحمه الله)، ومعاصرًا للعماني، والمُعِزّ البويهي، والكليني، والصدوق، أرباب الأصول الأساسية للفقه الشيعي.

ونبّه هذا الشيخ الجليل على أصول المسائل، مع الإشارة إلى تعليل المسألة المشكلة، وبيان دليلها، ونبّه على اختلاف الأقوال فيها.

وتبعه على ذلك العماني بن أبي عقيل، وكان من الفقهاء العظام.

وتابعهم على ذلك: ابن قولويه، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وابن ادريس، والمحقق الحّلي، والعلامة الحلّي، والشهيدان، وغيرهم رحمهم الله، واستمر ذلك على هذا النحو إلى عصرنا الحاضر.

وكان العشرات والمئات من هؤلاء العظماء في كل العصور بشكل متواصل مستمر، لم تنقطع ولن ينقطع إن شاء الله إلى قيام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وفي زمن الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، وقعت المحنة المعروفة في بغداد سنة 448 هـ([9])، فهاجر إلى النجف الأشرف.

وقد ذكر المؤرِّخون: أنه كان يوجد قبل هجرته إلى النجف العشرات من العلماء الكبار، المقيمين فيها منذ قـرن من الزمـن، وأنه لذلك ولسبب جوار أمير المؤمنين (عليه السلام)، اختار النجف دارًا لهجرته، واستقراراً للحوزة المركزية للطائفـة الشيعيـة، وبقيَتْ مستمرَّة إلى وقتـنا الحاضر، فأصبحت هي مركز المرجعية الرئيسي للعالم الشيعي منذ ذلك الوقت.

ملخص ما سبق:

وقد تبيَّن لنا من جميع ما سبق: أنّ الأئمة (عليهم السلام) قد نشروا مبادئ الشريعة وأحكامها في حياتهم، بمواقفهم، وأفعالهم، وبالروايات التي نقلها الثِّقاة من أصحابهم.

وقد ركّزوا على هؤلاء الرواة، ودَعوا شيعتهم وسائر المسلمين إلى الأَخْذ منهم والاستفادة من فتاواهم، نصبوهم في حياتهم في سائر الأقطار، وحيث لا يتيسر للأئمة (عليهم السلام) مباشَرة الدعوة إلى تلك المبادئ.

وكان خاتم الأئمة هو الحجة بن الحسن المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وقد استناب عنه النوّاب الأربعة المعروفين، تَرِد عليهم الأسئلة ويرجعون إليه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فيما يرد عليهم.

ثم أخبر آخرَهم بأنه يتوفّى بعد أيام، وبوفاته تقع الغيبة الكبرى، وأَمَر الشيعة بالرجوع إلى الفقهاء الذين كانوا يطلق عليهم "رواة الأحاديث"، لأنهم الأصل في الفقاهة ونشر الفقه الإسلامي من خلال هذه الأحاديث، واستمرار تدارس العلوم الدينية في الحوزات العلمية على امتداد الزمان إلى عصرنا الحاضر.


 


(*) نشر هذا المقال في (العدد صفر) من هذه المجلة، أول تأسيسها، سنة 2005م/1425هـ.

([1]) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح1.

([2]) الوسائل باب11 من أبواب صفات القاضي ح9.

([3]) الوسائل باب 11 من أبواب الصفات القاضي ح 40.

([4]) الوسائل باب 11 من أبواب الصفات القاضي ح 43.

([5]) الوسائل باب 10 أبواب صفات القاضي ح29.

([6]) التوبة آية 122.

([7]) عن صبح الأعشى: ج10 ص194: راجع كتاب الاجتهاد والتقليد، السيد الخوئي قده، المقدمة ص7.

([8]) تاريخ الإسلام السياسي: ج3 ص338.

([9]) كامل ابن الأثير: ج9 ص61، وص71 و222 و238.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع والعشرون