بعد
إيماننا بالله -تعالى- وبشريعته وصلاحها، وجب علينا بحكم
العقل إطاعته -سبحانه- بتطبيق أحكام هذه الشريعة، لأن الله
-تعالى- العالم بكل شيء وبجميع المصالح والمفاسد قد وضع
أحكامًا لكل أفعال الإنسان على طِبْق الملاكات والمصالح
التي يعلمها، ولذلك لا يمكن افتراض خلوّ واقعةٍ أو فعلٍ من
أفعال الإنسان عن حُكْم من قِبَل الشارع، إما بنحو النص
وإما بالقواعد العامّة المنطبقة على مواردها، اقتضاءً أو
تخييرًا.
وحيث إن هذه الأحكام لم تكن كلّها واضحةً بالنسبة إلينا
وضوحًا بديهيًا، للبُعْد عن عصر النصوص من جهة، ولكثرة
الدسّ والاختلاف من جهة أخرى، كان لا بد من اتّباع طريق
لرَفْع الغموض عن الموقف العملي للإنسان، وهو [علم الفقه]
الذي يحدّد الوظيفة العملية للمكلف بالدليل، إما بتعيين
الحكم الشرعي بالدليل المحرز له من الكتاب والسنّة، وإما
بتعيين الوظيفة العملية بعد غيابِ العلم بالحكم الشرعي،
والشكِ فيه مع تعذّر رَفْع هذا الشك بدليل قطعي، والذي
يحدد الوظيفة يسمى بـ[الأصول العملية]، وهي أيضًا مأخوذة
من الأدلة الشرعية.
وهناك قواعد عامّة يحتاجها الفقيه في علم الفقه، تساعد في
عمليات الاستنباط بشكل أساسي، ولا بد من دراستها في علم
الأصول، مثل حجيّة خبر الواحد، والإجماع، وحجية الظواهر،
وحجيّة الدليل العقلي، ومقدار الحجية في كل من هذه الأدلة
وموارد تطبيقها، والتعارض فيما بينها.
وبدون معرفة هذه القواعد لا يمكن التوصّل بواسطة النصوص
إلى نفس الحكم الشرعي، ولا إلى نفس الوظيفة العملية، لأن
علم الأصول بالنسبة لعلم الفقه كعلم المنطق بالنسبة لسائر
العلوم، حيث يستخدم لتنظيم عملية التفكير في استنباط
الأحكام.
ولذا كانت الحاجة إلى علم الأصول ناشئة عن الحاجة إلى علم
الفقه.
مرافقة الشيعة للنص الشرعي إلى زمن الغَيْبة الكبرى
علم الفقه بدوره نشأ في أحضان علم الحديث، فلم يكن علم
الأصول منفصلاً عن علم الفقه منذ البداية، لكن تطور علم
الفقه ونموّه كعِلْمٍ، واتّساع أُفُقِه، وتوسُّع بحوث
التطبيق لكثرة الفروع والابتلاءات، وانفتاح المسلمين على
مختلف الأمم وسائر شؤون الحياة، كلّ ذلك أدّى بشكل طبيعي
إلى توسّع المباحث الأصولية وتوسّع النظريات لأجل حلّ تلك
الإشكالات بالخصوص، والبحث عمّا ينطبق عليها من أصلٍ أو
قاعدةٍ عامّة، فكلما بَعُدَ المسلمون عن عصر النصّ تكبر
الحاجة لدى الفقيه إلى القواعد التي يعالج بها جوانب الخطأ
الناتج عن البُعد الروائي.
ولذلك كان علم الأصول في الفقه السنّي كعلم يبحث عن الحكم
المجهول أسبق منه في الفقه الشيعي، لأن المذاهب السنيّة
افترضت انتهاء عصر النصّ برحيل الرسول الأكرم (صلى الله
عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى، مع ما عُلِم عنهم من النهي
عن تدوين أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) في البداية.
وبعد القرن الثاني الهجري، ابتعدت المذاهب السنية عن النص
النبويّ وعصره بمسافة زمنية كبيرة، خصوصًا مع ما اشتهر من
نقل الحديث بالمعنى الذي يخضع لاجتهاد الناقل من جهة،
ولذاكرته من جهة أخرى، بعد فرض الناقل خلو نفسه من الميول
والأهواء الشخصية.
وأما الشيعة فقد كانوا يعيشون عصر النص الشرعي المباشر إلى
نهاية القرن الثالث الهجري تقريبًا، لأن الإمام (عليه
السلام) بالإضافة إلى أنه يحكي عن الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله) بسلسلة ثابتة، فهو عند الشيعة امتداد
للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فلم تكن عندهم
الفراغات التشريعية إلا ببدء الغَيْبة الكبرى لآخر أئمة
أهل البيت (عليهم السلام) -الحجة بن الحسن المنتظر (عجل
الله تعالى فرجه الشريف)-، مع أن أُسُس الفكر الأصولي
وجذوره كانت - كما أشرنا- من جملة النصوص التي أخذوا منها
قواعد علم الأصول وحفظوها ودوّنوها من زمن الإمام الباقر
(عليه السلام)، وأخذوا يمارسون تطبيقها عندما لا يجدون
الإمام (عليه السلام) أو تبعد بينه وبينهم الشقّة.
وهكذا نشأ علم الأصول، وأخذ يتوسّع بنسبة الحاجة الناشئة
عن بُعْد العهد عن النصّ المعتبر عندهم، أو عن غياب النص
بسبب المستجدّات التي لا بدّ من إدراجها في إحدى القواعد
الأصولية.
دخالة العقل في الدلالة على الحكم الشرعي:
وكل القواعد والأدلة في علم الأصول والفقه تبتني على الجزم
بالنتيجة، لأن المقصود هو تحصيل [العلم] بالحكم أو
بالوظيفة، إذ بدون حصول العلم تكون عملية الاستنباط ودراسة
العلم لَغْوًا، لأن
{الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}().
فلا بدّ من تحصيل العلم، ومن القول بحجيته بالبرهان
القاطع.
أما حصول القطع: فهو بحث صُغْروي محض، لأن قوة الدليل
والمدلول هي التي تورث القطع، كنصوص القرآن الكريم وظواهره
المسلّمة، بعد الفراغ عن حجية الظواهر بالسيرة القطعية
المتصلة بعصر الرسول (صلى الله عليه وآله) والمعمول بها
من قِبَله (صلى الله عليه وآله) ومن قِبل المعصومين
(عليهم السلام) ومَن بَعْدَهم.
وأما حجية القطع ووجوب العمل على طبقه: فهي أيضًا ثابتة
بحكم العقل، لأنه هو المتّبع والمُحكّم في شؤون الإطاعة
والامتثال، حيث يُدرِك بأنّ الله تعالى له حق الطاعة على
العبد في كل ما علمه وقام عليه الدليل من باب شُكْر
المنعم.
فالعقل يتدخل في جميع الأحكام الشرعية ويواكب أدلّتها بهذا
المعنى الذي ذكرناه كقاعدة عامة.
ولكن هذا لا يعطينا الحقّ في أن نُسمِّي هذه الأحكام
بالأحكام العقلية، لأن دخالة العقل بهذا المقدار عبارة
أخرى عن تكليف العاقل وسقوط التكليف عن فاقد العقل لجنون
أو صِغرٍ أو عجزٍ مُسقطٍ للتكليف.
كما أنها تعني أن يعمل العالم بالحكم بعلمه ويبحث الجاهل
عن حكمه ويتعلّمه.
نعم قد يتدخل العقل في الدلالة على الحكم الشرعي والكشف
عنه:
(إما) بنحو الاستقلال، ويسمى البحث عن ذلك بـ[المستقلات
العقلية] ويبحث فيه عن التحسين والتقبيح العقليين.
(وإما) بمعونة دليل آخر في غير المستقلات العقلية، أي
الدليل العقلي الذي يساعد على استنتاج الحكم الشرعي لا على
نحو الاستقلال.
فالكبرى هي حجية إدراك العقل المفروغ منها، وأما الصغرى
فهي أنه هل يُدرِك العقل ذلك الحكم ويستكشفه أو لا؟
وهذه الصغرى هي المسألة الأصولية التي تقع نتيجتها كبرى في
طريق استنباط الحكم الشرعي في الفقه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: إذا وجب شيء في الشريعة
الإسلامية بدليله الشرعي، وكان امتثاله يتوقف على مقدّمات
لم تُذكر في دليل الوجوب، فهل يُدرِك العقل بأنّه كلما وجب
شيء وجبت مقدّمته وإن لم تكن منصوصًا عليها؟ فإذا أدرك
العقل ذلك نقطع بوجوب المقدّمة شرعًا بمعونة الدليل العقلي
منضمًا إلى صغرى الدليل الدالّ على أصل الحكم، ونسميه
[وجوبًا غيريًا] مقابل [الوجوب الأصلي النفسي] الذي وجبت
لأجله هذه المقدمة.
وعكس المثال المذكور: ما إذا وجب شيء، وكان هناك ما يمنع
من امتثاله شرعًا -ويسمى هذا المانع بالضدّ-، فهل يُدرِك
العقل بأن وجوب هذا الشيء يعني حرمة هذا الضّد المانع من
امتثاله؟ فإذا ثبت ذلك كانت الحرمة غيرية ناشئة من الدليل
العقلي أيضًا.
وتُسمَّى هذه المباحث بـ[الملازمات العقلية].
فالحاجة إلى معرفة أحكام مثل هذه الأمور من مقدمة الواجب
والضّد ونحوهما هي التي تدعو لذلك، وإنما يُستعان لمعرفتها
بالمباحث العقلية لأن العقل كما يُدرِك العلاقات بين
الأمور التكوينية إيجابًا وسلبًا كوجوب اجتماع المتلازمين
واستحالة اجتماع النقيضين، كذلك يُدرِك العلاقات التكوينية
القائمة بين الأحكام بلحاظ متعلقاتها التي يجب الإتيان
بها، لأنها بعد تشريعها من قِبَل الحكيم
تصبح أمورًا
واقعية، فيستفيد العقل من هذا الإدراك وجود الأحكام في بعض
الموارد وانتفاءها في البعض الآخر بنفس الملاك الذي تُدرَك
به في الأمور الواقعية، مع خضوعه في هذا الإدراك للحكم
الشرعي الثابت كمًّا وكيفًا.
وهذه العلاقات المُدرَكة للعقل في عالم التشريع على أقسام:
فمنها: ما هو قائم بين نفس الأحكام الشرعية، كمسألة اجتماع
الأمر والنهي، واقتضاء النهي للفساد في العبادة أو
المعاملة -بمعنى عدم إجزاء العمل المنهي عنه أو عدم ترتب
الأثر على المعاملة وعدمه-، واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن
ضده وعدمه.
ومنها: ما هو قائم بين الواجب ومقدّماته، سواء الداخلية
منها كأجزاء الواجب الارتباطي، أو الخارجية، سواء كانت هذه
الأخيرة مقدّمات للواجب، أو مقدّمات
للعلم بالواجب كموارد العلم الإجمالي.
ومنها: ما يقوم بين الحكم الشرعي وغيره مما هو خارج عن
نطاق التشريع، كالتَّلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي
على أساس قاعدة [أن كل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل].
كموارد الشك في أصل التكليف، فإنّ البحث عن حكم العقل فيها
بالبراءة أو الاحتياط إنما هو لأجل أن يُستكشف منه حكم
الشرع.
وكموارد الاستكشاف الظنيّ الذي يحتاج إلى البحث عن حجية
هذا الإدراك بعد حصوله، مثل البحث عن حجية القياس
والاستقراء، وهذا ليس من مباحث علم الأصول، لأنه لا يشارك
في عملية الاستنباط كبرىً أو صغرىً، بل هو قضية عقلية
ظنيّة ترتبط بحكم شرعي معيّن استقراءً أو قياسًا، ولا
تتجاوزه إلى حكم آخر، ولا بد من الاستدلال على حجية هذا
النحو من الاستكشاف الظني العقلي لإثبات ذلك الحكم.
فالحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الحكم الواقعي الثابت بدليله الشرعي المتعلق
بالواقعة من حيث هي، وبقطع النظر عن أية حالة تُفرض على
تلك الواقعة.
القسم الثاني: حكم ظاهريّ، وهو عبارة عن الوظيفة التي
شرّعها الله تعالى لمن شكّ في الحكم الواقعي للواقعة
المعيّنة، وهذا الحكم الظاهري قسمان:
الأول: منحصر بالأمارات، كخبر الواحد.
الثاني: الأصول، والأصول قسمان:
- أصول شرعية، كالاستصحاب والبراءة الشرعية.
- أصول عقلية.
و[الأصول العقلية] هي القواعد والإدراكات العقلية التي
يُستكشف منها حكم شرعي قطعيّ أو ظنيّ، فهي وظائف عمليّة
عقليّة مُنبثقة عن حكم العقل بالإطاعة إثباتًا ونفيًا،
ومرجعها إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحقّ الطاعة،
فالقطعيّة منها حجّة بلا إشكال، والظنيّة تحتاج إلى دليل.
وهذه المُدرَكات موجودة في كل مورد في نفسه بقطع النظر عن
وجود الدليل الشرعي والأصل العملي، إذ مع وجود واحد من هذه
الأمور لا يبقى موضوع لهذه المُدرَكات، ومع عدمه فالمورد
موردها، ولذلك لا يُتصور معارضتها للأدلة أو الأصول
الشرعية، كما لا يُتصور معارضتها في ما بينها، لأن العقل
لا يُدرِك أمرَيْن متنافيين.
وبناءً على ما ذكرنا، وقع البحث في الملازمات العقلية عن
أمور:
منها: مسألة اجتماع الأمر والنهي وما يتبعهما من صحة
العبادة وفسادها، وكذا في المعاملة.
ومنها: مسألة الضِّد.
ومنها: مقدّمة الواجب.
ومنها: الواجبات الضمنية للواجب المركَّب.
ومنها: مبحث الإجزاء، حيث
إن البحث فيه عقلي على بعض الوجوه.
ومنها: المداليل الالتزامية للأدلة الدالّة على الحكم
الواقعي الظاهري.
ومنها: الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
ومنها: حجية الإدراكات العقلية غير القطعية، كالقياس
والاستقراء.
ومنها: مباحث العلم الإجمالي.
ومنها: التخيير العقلي.
(*)
نشر هذا المقال في (العدد الثاني - 2005م
/
1426هـ)
من هذه المجلة.
([1])
يونس: من الآية36.
|