العدد الثالث / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات هذا العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = الصور الحسّية والواقع

مناقشة دليل لزوم السفسطة

الأمر الأول الجدير بالانتباه هو أن المطلوب إنما هو معرفة العلاقة القائمة بين خصوص الصور الحسّية والواقع الموضوعي, وليس العلاقة بين الصور العقلية والواقع. ولكنّنا نجد أن فلاسفتنا عند حديثهم عن علاقة الذهن بالواقع, قد خلطوا بين المقامين, وجعلوهما في عرض واحد, فقالوا بالمطابقة الماهوية مطلقًا بين الذهن والواقع, حتى فيما يتعلق بالصور الحسّية.

وهذا مما لا يستقيم، لأن الصور الحسّية صور جزئية تحصل في الذهن عند اتصال الحواس بالعالم الخارجي, وتتكثّر كلما تجدّد هذا الاتصال, ففي كل مرّة يقع الحسّ على شيء, تحدث صورة حسيّة جديدة في الذهن, بل حتى الشيء الواحد إذا اتصلت به الحواس مرة بعد أخرى, فإنه يحدث عند ذلك عدد من الصور الحسّية بعدد مرات الاتصال.

هذا, بينما يختلف الأمر في الصور العقلية, حيث تكون الصورة العقلية واحدة, مهما تكرّرت حالات الاتصال بين الحواس والخارج.

وعليه فإنه من الممكن الحديث عن الاتحاد الماهوي بين الصورة والواقع، في مقام الصور العقلية, ولكن هذا الحديث بعيد في مقام الصور الحسّية([1]). هذا أولاً.

وثانيًا: إن هؤلاء الفلاسفة الذين يتبنّون القول بأن الرابطة بين الذهن والخارج هي الرابطة الماهوية، وأن الذهن إنما يكشف عن الواقعيات عن طريق إدراك ماهياتها، وأن الاتحاد بين الماهيات الذهنية والماهيات الخارجية هو الوسيلة التي يتوسل بها الذهن ليدرك الواقع, إن هؤلاء الفلاسفة أنفسهم يعترفون في الوقت عينه بأن الاطلاع على ماهيات الأشياء هو من الأمور الصعبة بل المتعذرة.

وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد رضا المظفر : [ إلا أن المعروف عند العلماء أن الاطلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذرة، وكل ما يذكر من الفصول فإنما هي خواص لازمة تكشف عن الفصول الحقيقة ، فالتعاريف الموجودة بين أيدينا أكثرها أو كلها رسوم تشبه الحدود ]([2]).

 ويقول العلامة الطباطبائي: [ فالفصل المنطقي هو أخصّ اللوازم التي تعرض النوع وأعرفها، وهو إنما يؤخذ ويوضع في الحدود مكان الفصول الحقيقية، لصعوبة الحصول غالبًا على الفصل الحقيقي الذي يقوّم النوع ]([3]).

وعليه، فإذا كانت الماهيات هي طريقنا إلى معرفة الواقع، وإذا كانت معرفة هذه الماهيات صعبة أو متعذِّرة, لتعذُّر أو لصعوبة الحصول غالبًا على الفصول الحقيقية والتي تتقوّم بها ماهيات الأنواع، أفلا تكون النتيجة المنطقية لذلك هي أن معرفة الواقع متعذِّرة أو صعبة غالبًا، ونكون بناءً على ذلك قد أضعنا الطريق الوحيد المؤدي بنا إلى العلم بالواقع، فننتهي إلى مضيق السفسطة، وهو الأمر الذي حاولنا الفرار منه؟!

ولا ينفع في ردِّ هذا الإشكال القولُ بأن لوازم الماهية، بل أخصّ لوازمها، وهي المأخوذة مكان الماهية الحقيقية يمكن أن تؤدي الوظيفة نفسها التي كان يمكن أن تؤديها الماهية، فنتعرّف على الوقائع من خلال اللوازم بدلاً عن أن نتعرّف عليها من خلال الماهيات.

وذلك لأننا نسأل عن الكيفية التي من خلالها يمكننا إدراك هذه اللوازم، وهل هذه اللوازم من ذوات الماهيات، فندركها من خلال ماهياتها، أم أنها من غير ذوات الماهيات، فندركها من طرق أخرى غير طريق الماهيات ؟ فإذا قيل إنها من ذوات الماهيات عاد الإشكال الأول بعينه وهو صعوبة أو تعذّر الحصول على تلك الماهيات.

وإذا قيل إنها من غير ذوات الماهيات ، بل هي من لوازم الماهيات ولا ماهيات لها, فعندها يقال: من الممكن إذن تحصيل المعرفة بالواقعيات من خلال مفاهيم ذهنية ليست هي بالماهيات، وإذا كان ثمّة اتحاد, فهو اتحاد بين هذه اللوازم التي لا ماهيات لها وبين الواقع, ولا ضرورة عندها لحديث الاتحاد الماهوي وحصر الرابطة بين الذهن والواقع بالرابطة الماهوية .

وتبقى بعد ذلك مناقشة لا يتسع المجال لتفصيلها, ولكننا نشير إلى خلاصتها, وهي: لو فرض أن الواقع الموضوعي يقوم بدور العلة التي تدفع الذهن إلى ابتكار صور تشير إلى الواقع ولكنها لا تمثله - بنحو المطابقة - , ولو فرض أيضا أن الذهن إنما يبتكر هذه الصور بعد اتصال الحواس بالواقع ضمن نظام مطَّرد معين, وليس عن طريق الصدفة وبصورة عشوائية. فهل يمكن إنكار أن هذه المعرفة هي معرفةٌ ما بالواقع؟

وليس المدعى في هذا الفرض أن هذه المعرفة معرفة كاملة, وإنما هي نحو من أنحاء المعرفة, بحيث يكون لنا علمٌ ما بالواقعيات, يحول دون انسداد باب العلم ولزوم السفسطة. خصوصًا وأن الاتجاه القائل بالمطابقة الماهوية قد أقرّ بعدم معرفتنا الماهيات بحقائقها, واكتفى بأن تكون المعرفة باللوازم - دون معرفة الحقائق - هي من الطرق الصحيحة للمعرفة, والتي تبعد عنا غائلة السفسطة.

والنتيجة التي تؤدي بنا إليها كل هذه المناقشات هي أن دليل لزوم السفسطة لا يفي بالبرهنة على ضرورة أن تكون الرابطة بين الذهن والواقع - وبالأخص بين الصور الحسّية والواقع - هي رابطة المطابقة الماهوية.

2- دليل الاستقراء:

ذكرنا سابقًا أن الشهيد الصدر يستدل في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) على المطابقة والتشابه بين الصور الحسّية والواقع الموضوعي بدليل الاستقراء.

ولنأخذ ببيان هذا الدليل بما يسمح به المقام, فنقول: إننا وبعد الفراغ عن الاعتقاد بوجود عالم موضوعي وراء الإحساس، وبعد الفراغ عن الاعتقاد بوجود علاقة السببية بين الواقع الموضوعي والقضايا المحسوسة، بمعنى أن بعض القضايا المحسوسة لها واقع موضوعي مستقل عن إدراكنا وتصوّرنا، وهذا الواقع الموضوعي وضمن شروط خاصة يقوم بدور السببية لحصولنا على الصورة المحسوسة, إننا وبعد الفراغ عن الاعتقاد بكل ذلك([4])، نسأل:

عندما تظهر في مداركنا صورة معيّنة نتيجة اتصال أدوات الحسّ بالواقع الموضوعي ضمن شروط خاصة، فهل يكون هنالك تشابه بين تلك الصورة والواقع، أو أن الصورة المحسوسة تكون معلولة للواقع الموضوعي دون أن تشابهه؟

يجيب الشهيد الصدر: [ إنّنا نعتقد عادة بوجود تشابه بدرجة ما بين الصورة المحسوسة التي ندركها، والواقع الموضوعي لها ]([5]).

ونسأل ما هو مقدار التشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي لها؟

الجواب: إنها درجةٌ ما من التشابه، كما مرّ في النص الآنف، أو قل إنها درجة لا يمكن الاستغناء عن الاعتقاد بها كما في النص التالي: [ ولا شك في أن الإنسان الاعتيادي يذهب إلى الاعتقاد بدرجة كبيرة من التطابق والتشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي، بينما تتناقص هذه الدرجة كلما أخذنا بعين الاعتبار ما يكشفه العلم من الجوانب الذاتية لعملية الإدراك الحسي، ولكن يبدو أن هناك درجة من التشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي لا يمكن التنازل عن الاعتقاد بها ]([6]).

ويمثّل (قده) لهذه الدرجة من التشابه بالصور المُبْصَرة المتعلقة بالشكل الهندسي للأجسام، فإن ما نراه من أجسام بشكل دائري - مثلاً - لا نحتمل  عادةً أن يكون مربعًا في الواقع.

لكن وعلى الرّغم من ذلك، فإن احتمال كونه مربعًا في الواقع، وعلى خلاف ما نراه، لا يحتوي على أي خلل منطقي، بل إننا لا نملك أي مبرر قبلي - أي قبل الحسّ والتجربة - للتأكيد على أن ما نراه بشكل دائري هو دائري في الواقع وليس مربعًا.

لذلك فإن القضية القائلة بأن ما نراه من الأجسام بشكل دائري هو دائري في الواقع أيضًا، هي قضية بحاجة إلى دليل، فما هو الدليل على هذه القضية ؟

هذا ما نبيّنه الآن وبالمقدار الذي تستوجبه مقتضيات البحث، مع مراعاة دواعي الاختصار، والتفصيل موكول إلى محله([7]).

إذا نظرتُ إلى ورقة فرأيتها بشكل مستدير، فهل لي أن أحكم بأن هذه الورقة هي مستديرة الشكل في الواقع أيضًا، وكما تظهر لي، أم يحتمل أن يكون لها في الواقع الخارجي شكل آخر غير الاستدارة، كأن يكون شكلها هو المربع - مثلاً - وعلى خلاف صورتها المحسوسة لي؟

إننا ولكي نثبت التشابه بين شكل الورقة المحسوس وبين شكلها الواقعي, علينا أولاً وقبل كل شيء أن نكون قد فرغنا عن إحراز خاصيّة الشكل للورقة في الواقع الموضوعي، أي علينا أن نعلم أولاً بوجود شكل ما للورقة في الخارج، ثم نبحث بعد ذلك عن حقيقة هذا الشكل، وهل هو المستدير أو المربع؟ وإلا لو لم نعلم بامتلاك الورقة لخاصية الشكل، بل كان وجود الشكل للورقة من مخترعات الذهن - مثلاً - فلا معنى عندها للبحث عن حقيقة هذا الشكل في الخارج، وهل هو المستدير أو المربع؟

فكيف نحرز وجود خاصيّة الشكل للورقة في العالم الموضوعي؟

يرى الشهيد الصدر (رحمه الله) أن ذلك إنما يتمّ عن طريق علم إجمالي قبلي، فنحن نعلم علمًا إجماليًا قبليًا بوجود شكل هندسي للورقة، أي نعلم بكليّ غير محدّد للشكل الهندسي للورقة.

وبعد علمنا بوجود شكل هندسي للورقة في الواقع، يمكننا الانتقال إلى إثبات مصداقه، وتحديد ما إذا كان هذا المصداق مشابهًا للشكل المحسوس أو لا؟

وهذا يتوقّف بدوره على تحديد طبيعة رؤيتنا، وهل أن رؤيتنا هي رؤية موضوعية بطبيعتها، أم أنها ليست رؤية موضوعية بطبيعتها؟

والمقصود من كون رؤيتنا موضوعية هو أن عيني ترى - ضمن الشروط العامّة للرؤية - كل ما تواجهه، ولا ترى شيئًا لا تواجهه.

ونحن يمكننا أن نثبت أن رؤيتنا موضوعية من خلال تراكم قيم احتمالية نحصل عليها عن طريق الاستقراء.

وخلاصة ذلك : هي أننا نلاحظ أن الرؤية تقترن وفي عدد كبير من الحالات بمواجهة شيء، ونلاحظ أن زوال الرؤية يقترن بزوال المواجهة. فنثبت بقيمة احتمالية كبيرة أن رؤيتنا موضوعية بطبيعتها.

فإذا ثبت أن رؤيتنا موضوعية, أمكننا أن ننتقل إلى إثبات التشابه بين الصورة المحسوسة وبين الواقع الموضوعي لها، فيكون الشكل المستدير الذي نراه هو الشكل الواقعي للورقة.

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - للإطلاع على هذا الأمر بالتفصيل وبصورة أوضح، يراجع بحثنا [ تساؤلات حول الإدراك الحسّي ]، المنشور في مجلة (رسالة النجف) العدد صفر، ص143 إلى ص 145.

[2] - الشيخ محمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية 1405 هـ، 1985م، ص 101.

[3] - السيد محمد حسين الطباطبائي: بداية الحكمة، دار المصطفى للطباعة والنشر، بيروت 1402 هـ، 1985م، ص65؛ وانظر أيضا شرح المنظومة تعريب عبد الجبار الرفاعي (مرجع سابق) ج1,  هامش صفحة 213.

[4] - يستدل الشهيد الصدر على كل هذه القضايا بالدليل الاستقرائي.

[5] - السيد محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1397هـ، 1977م، ص 465.

[6] - المصدر نفسه ص 465-466.

[7] - انظر في بيان هذا الدليل : [الأسس المنطقية للاستقراء]، ص466 إلى ص 468، ويلاحظ أيضًا القضايا التي بني عليها هذا الدليل في مواردها من الكتاب.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية