الخلاف
الفكري بين أهل العلم والمعرفة - في شتى العلوم - مسألة
طبيعية ولا غرابة في ذلك ولا استهجان، لأن المستوى العلمي
والفكري مختلف ومتفاوت بين عالم وآخر، وكفانا دليلاً على
ذلك قول الله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}([1])،
وأخصّ بالذكر في هذا الموضوع علماء الدين فقط، فمنهم قادة
الأمة، ومنهم الهداة والدعاة، ومنهم الصالحون والمصلحون،
وورثة الأنبياء (عليهم السلام).
والخلاف العلمي والفكري بين أهل العلم موجود في كل عصر،
وفي كل مصر، وبطون الكتب والمؤلفات القديمة والحديثة خير
شاهد وأصدق دليل، ففي تفسير القرآن الكريم، والأحاديث
الشريفة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، وفي الفقه، وعلم الرجال، وعلم
أصول الفقه، وغيرها، نجد الآراء المختلفة في شتى المسائل،
ولا يوجد إجماع قطعي في أي علم من هذه العلوم في العديد من
بحوثها ومسائلها.
وما يمكن أن نسجّله على علمائنا المحقّقين في هذا المجال
هو التزامهم بالآداب والأخلاق الإسلامية الفاضلة على الرغم
من وجود الخلافات الكثيرة فيما بينهم، سواء كان ذلك في
مقام الحوار المباشر، أو في كتاباتهم ومؤلفاتهم، فنجدهم
يختارون العبارات اللائقة الخالية عن الإهانة والإساءة في
غالب انتقاداتهم، ويبتعدون عن الكلمات الجارحة من السبّ
والإهانة والتحقير، حفاظًا على مقام كل منهم للآخر،
ووقوفًا عند الأحكام الشرعية التي أمر الله تعالى بها كل
مسلم تجاه أخيه، وسعيًا منهم في استمرار الحوار والجدال
الهادف من أجل الوصول إلى تحقيق الحقائق، فيختار بعضهم في
مقام النقد مثل هذه الكلمات: (هذا من زلّة قلمه الشريف) أو
(من سهو القلم)، أو (عدم التنبّه)، أو (قلة التأمل)، ونحو
ذلك من الألفاظ، وقد شاهدنا ذلك في عصرنا من بعض أساتذتنا
جزاهم الله عنا خيرًا، سواء ذلك في مقام البحث والدرس أو
في المجالس الأسبوعية التي كنّا نعيشها أثناء وجودنا في
النجف الأشرف.
وليس ذلك غريبًا من العلماء العارفين بالله تعالى،
والعالمين بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم،
والنبي العظيم (صلى الله عليه وآله)، وقد قال سبحانه
وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا
يُحْيِيكُمْ}([2]).
فالحياة الكريمة العزيزة لا تتم إلا في ظلّ الإسلام، وفي
ظل تعاليمه السامية، فتعاليم القرآن الكريم جاءت لخير
الإنسانية، وتعاليم النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته
وآله (عليهم السلام) جاءت لتحيي القلوب الضالة، وتهدي
لسعادة البشر.
وأهل
العلم - الذين جاء الثناء عليهم، والتنويه بمقامهم عن خاتم
الأنبياء محمد (صلى اله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين
(عليهم السلام) -
أول من يتأثّر
بتلك التعاليم،
فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي عبد الله الإمام جعفر
الصادق (عليه السلام) قوله: (... وفضل العالم
على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن
العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا
ولا درهمًا، ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه، أخذ بحظ
وافر)([3]).
وعنه (صلى الله عليه وآله): (فضل العالم
على العابد سبعين، درجة بين كل درجتين حُضر([4])الفرس
سبعين عامًا، وذلك لأن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها
العالم فيزيلها، والعابد مقبل على عبادته)([5]).
هذا وقد شاهد عصرنا من بعض المتعلّمين المعمّمين خروجًا
واضحًا عن سيرة علمائنا الأتقياء الأعلام، فتراهم في بعض
جلساتهم يقدحون في هذا العالم، ويذمّون آخر ببعض الكلمات
التي لا تليق بأهل العلم أن تخرج من أفواههم، فإن ذلك لا
يسوغ إلا في حالات خاصّة ذكرها علماؤنا في رسائلهم
العملية، مثل كون المجرّح به من ذوي المقالات الفاسدة،
وحتى المراجع الكبار لم يسلم بعضهم من ألفاظهم النابية
وكلماتهم الجارحة، فيرفعون من شأن هذا، ويحطّون من قدر
ذاك، ويشهدون بأعلمية هذا المرجع وأهليته للتقليد، ويذمّون
الآخر بعدم أهليته للفتوى والتقليد، وهم مع ذلك لم يبلغوا
رتبة الاجتهاد والتحقيق، ولم يتوصلوا بعدُ للقدرة على
المقارنة بين المباني والمدارك التي بنى عليها هذا المرجع
أو ذاك، وإذا صار تقييم المراجع والعلماء بيد الجهلاء،
فتلك المصيبة الكبرى، والفاجعة العظمى.
إنني أتصور بأن منشأ ذلك إنما يعود إلى سببين هامّين:
أحدهما: قلة العلم، وقلة التقوى.
فمن لم يذق حلاوة العلم والتحقيق لا يعرف قيمة العلماء
المحققين ولا يقدّر جهودهم، ومن لم يعرف معنى التقوى، ولا
يعيشها في حياته الفكرية والعملية يستهين بالذنب، ويتجرّأ
على معصية الله تعالى بتناول مقام العلماء الأعلام،
والمراجع الكرام دون وازع أو رادع.
والثاني: تولّي بعض المعمّمين لبعض المهام والمسؤوليات
الاجتماعية وغيرها قبل نضجهم الفكري والعلمي والعقائدي
والروحي والأخلاقي.
ولو فكّر أمثال هؤلاء - عصمهم الله وإيانا - في الأجل الذي
قد يفاجئهم، وقدومهم على الله العظيم الحكيم، ووقوفهم بين
يديه للحساب، حيث لا شفيع ولا أنيس، لرجعوا إلى أنفسهم
وحاسبوها أشد الحساب، واشتغلوا بإصلاح ذواتهم عن
كل
من سواهم.
إننا نحذّر أنفسنا وإخواننا من الجرأة على مقامات قادتنا
ومراجعنا العلماء الأتقياء الأعلام، ونذكّر بأن من يحقّ له
أن ينتقد أمثال هؤلاء لا بد أن يكون قد وصل إلى درجة عالية
من العلم والتقوى حتى يكون معذورًا أمام الله تعالى فيما
يتوصل إليه رأيه وعلمه وتقواه.
وعلينا أن لا نفسح المجال لبعض المعمّمين - ممن قلّ علمه
أو ورعه - بتناول هذا العالم المحقق الورع أو ذاك..
بل علينا أن نعمل على إبعاد بعض المدّعين للعلم، وتحذير
الناس من شرّهم وضررهم حتى لا يشوّهوا صورة الدين في نفوس
الجهلاء، ولا ينخدع بهم من لا يعرفهم، وحتى يتميز أهل
العلم والدين والتقوى عن سواهم الذين يتزيّون بزيّهم طلبًا
للدنيا، وطمعًا بمنصب أو مال، أو جاه.
ومن المؤسف جدًا أن يتزيّا في هذه الأيام بزي علماء الدين
بعض الفاسقين ممن لا حظّ له من العلم، ولا صلة له
بالعلماء، مما دفع بعض المخلصين من إخواننا العلماء الغيارى
على الدين وسمعة أهله لوضع ميثاق خاص بالحوزات العلمية في
لبنان، يتضمن الشروط المطلوبة في دخول أي فرد للحوزة
العلمية التي يريد الدخول إليها، وبذلك يقطعون الطريق على
كل من تسوّل له نفسه تشويه صورة الدين، وصورة العلماء
العاملين المخلصين، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير
الجزاء.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن لفظ (العامي) في
المصطلح الفقهي: هو من لم يكن له حظ من العلم والمعرفة
بأمور الفقه، أو الذي درس عدّة سنوات الدروس الحوزوية
المعروفة ولكنه لم يتوصل بعد إلى رتبة الاجتهاد، والقدرة
على استنباط الأحكام الشرعية.
يقول السيد الخوئي (قده) في كتاب المسائل المنتخبة، في باب
التقليد:
المقلد قسمان:
1. العامي المحض: وهو الذي ليست له أية معرفة بمدارك
الأحكام الشرعية.
2. من له حظ من العلم ومع ذلك لا يقدر على الاستنباط.
فإذا كان الصنف الأكبر من المعمّمين في عصرنا - ولا سيما
في لبنان - لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، وإنما بنوا ثقافتهم
من المطالعات المختلفة، وتوصلوا إلى الصعود على المنابر،
وفُتنوا بثناء بعض الجهلاء عليهم، إذا كانوا بهذه الأوصاف،
فليتّقوا الله في علمائنا ومراجعنا الذين هم المرجع الوحيد
في زمان غيبة إمامنا المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه
الشريف)، والذين هم حجته على الخلق على حدّ تعبير الإمام
(عليه السلام) في التوقيع المعتبر، والذي جاء فيه قوله
(عليه السلام): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى
رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)([6])،
فالفقهاء المجتهدون العدول الذين أمضوا عمرهم في البحث
والتحقيق، وعاشوا مع الروايات المأثورة عن النبي (صلى الله
عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام)، ومع القرآن
الكريم وأحكامه حتى أصبحوا ورثة النبي (صلى الله عليه
وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) والحجة على الخلق من قبل
صاحب العصر والزمان الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه
الشريف)
وأقرّ
الله عيوننا بخروجه المبارك، أمثال هؤلاء العظماء يستحقّون
من كل مؤمن الاحترام والتقدير، وخصوصًا من أهل العلم
والمعمّمين، ولا يجوز لهم الاستهزاء بهم والسخرية منهم
بوجه من الوجوه أمام العوام والجهلاء، بل ليس لغير المجتهد
أو من قارب مرتبة الاجتهاد - أي [أهل الخبرة] بحسب
الاصطلاح - ليس لغير هؤلاء من المعممين أو سائر العوام أن
يرجّحوا مرجعًا على آخر في مجال الأهلية للتقليد المبرئ
للذمّة ، أو الحكم بالأعلمية، نعم لهم أن ينقلوا آراء ذوي
الخبرة فحسب، كما أن من يعتمد على هذا النقل يحتاج إلى
تحقّق شروط الشهادة، من العدالة والتعدد أو الشياع.
نسأله سبحانه العصمة والسداد والتوفيق لما يحب ويرضى، كما
نسأله تبارك اسمه حسن العاقبة وأن يحشرنا مع العلماء
العاملين المخلصين الذين يعتبر مداد أقلامهم أفضل من دماء
الشهداء بمحمد وآله الأتقياء النجباء.
ـــــــــــــــــــ
[1]
- سورة يوسف من الآية 76.
[2] -
سورة الأنفال من الآية 24.
[4] - الحُضر بضم الحاء
وسكون الضاد: العدو، وحضر الفرس مقدار عدوه.
[6]
- الوسائل: ج 17 باب11 من أبواب صفات القاضي
ح9.
|