لماذا سمّيت بليلة القدر
وردت هذه التسمية في القرآن في سورة القدر وقد ذُكر في
وجهها عدّة أمور:
منها: أنها سمّيت بذلك لما يُقدّر فيها من أمور العباد
كالآجال والأرزاق والبلايا والسعادة والشقاء إلى العام
القابل، ولذا يعبّر عن ليلة القدر برأس السنة الروحية أو
رأس سنة التقدير، وهي بهذا المعنى مأخوذة من قدَر بفتح
العين بمعنى قضى وحكم، وهو الذي استظهره صاحب الحدائق([1]).
ومنها: أنها سمّيت بذلك لأن الأرض تضيق تلك الليلة بسبب ما
ينزل فيها من ملائكة وهي مأخوذة حينئذٍ من قدِر بكسر العين
بمعنى التضييق، ومنه قوله تعالى حكاية عن النبي يونس عليه
السلام {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى}([2])،
ونقل هذا القول عن الخليل بن أحمد الفراهيدي([3]).
ومنها: أنها سمّيت بذلك لما لها من الشأن والعظمة
والمنزلة, لأنها ذات شأن وشرف على سائر الليالي، أو لأنه
نزل فيها كتاب عظيم القدر، أو لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو
قدر وعظمة، أو لأن الطاعات فيها ذات قدر، أو لأن المحيي
لها يصير ذا قدر.
وهي بحسب هذه الأوجه الخمسة مأخوذة من قدْر بسكون العين،
بمعنى المنزلة والعظمة والشرف, ومنه قوله تعالى: {وَمَا
قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}([4]).
والمعنى الأول هو الأنسب والأشهر من هذه المعاني، إلا أن
لليلة القدر مفهومًا واسعًا يتّسع لكل هذه المعاني فلا
يبعد أنها سمّيت بذلك لكل هذه الأمور مجتمعة.
فضل ليلة القدر
ليلة القدر ليلة عظيمة جليلة، إنها ليلة يتّصل فيها العبد
بربه، بل هي ليلة الضيافة الإلهية لمن أراد أن يلبّي نداء
الله، ويحل ضيفًا عليه بإحياء تلك الليلة العظيمة
بالعبادة، وهي ليلة عظمت في السماوات والأرض, ففي ليلة
القدر يدخل المؤمن في رحمة الله الواسعة من الباب الذي
فتحه الله سبحانه لعباده, بل إن فضل هذه الليلة المباركة
لا ينكره أحد ولا يجحده جاحد، تلك الليلة الشريفة التي
حلّت على الشهر المبارك شهر الله، شهر رمضان، وباختصار هي
ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة
والسعادة من جميع الجهات، ومن آيات في
فضلها وشرفها:
1- نزول الكتاب المبين فيها {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}([5])،
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }([6])،
ذلك الكتاب الذي جعله الله هدى للمتقين ورَيًّا لعطش
العلماء، وربيعًا لقلوب الفقهاء، ومَحاجَّ لطُرقِ الصلحاء،
ودواءً ليس بعده داء، ونورًا ليس معه ظُلْمة، فإنّه حبلُ
اللهِ المتين، وسببُه
الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء
غيره به، تشرح الصدور وتستنير السرائر.
2- أنها خير من ألف شهر، أي ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة،
وهو ما يوازي عمر إنسان كامل، فالعمل الصالح فيها من
الصلاة والزكاة وأنواع الخير... خيرٌ من العمل في ألف شهرٍ
ليس فيها ليلة القدر، فهذه الليلة منحها الله للنبي وأمّته
ليزيدوا من عمرهم العبادي، بعد أن كانت أعمار أفراد هذه
الأمة المرحومة أقصر من أعمار الأمم السابقة، ولذا حثّ
النَّبي والأئمّة الناس على إحياء ليلة القدر بكل لحظاتها،
وقد حرصت الزهراء عليها السلام على ألا ينام أحد من أهل
بيتها في تلك اللّيلة العظيمة،
وكانت تداويهم بقلة الطعام وتقول:
(محروم من حرم خيرها)([7]).
3- فيها تنزّل
الملائكة والروح([8])بأمر
ربّهم، فينتشرون في الأرض، ويمرّون على مجالس المؤمنين،
ويسلّمون عليهم، ويؤَمّنون على دعائهم، ويستغفرون لهم حتى
مطلع الفجر.
4- أنها سلام حتى مطلع الفجر، فهي ليلة السلام وليلة
الرحمة، فالمؤمن فيها سالم من كل آفة وشرّ، وذلك لكثرة
خيرها أو لأن الملائكة تسلّم عليه وتدعو له بالسلام.
5- فيها يقدّر مصير العباد وأمورهم، فإن الله عزّ وجلّ
يقدّر فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل: من
حياةٍ وموت ورزق وسعادة وشقاء... وغير ذلك {
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِّنْ
عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِّن
رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}([9]).
ولا يمكن معرفة كل أسرار ليلة القدر وخفاياها ومواهبها
العظيمة، وقد اكتفينا ببعض فضائلها التي أشار إليها
القرآن.
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مبلّغ ديني ومدرّس في الحوزة العلمية.
[1]
- الحدائق - منشورات جامعة المدرسين/قم: 13/447.
[2]
- سورة الأنبياء من الآية 87.
[3]
- مجمع البيان: 10/518.
[4]
- سورة الأنعام من الآية 91.
[5]
- سورة الدخان الآية 3.
[6]
- سورة القدر الآية 1.
[7]
- مستدرك الوسائل ج7/470 مؤسسة آل البيت لإحياء التراث: ط2 ح 8680/15
[8]
- تعددت الأقوال في الروح حتى أنهاها في تفسير البصائر إلى
خمسة عشر قولاً، أقربها أنه مخلوق أعظم من
الملائكة، وهو ما رواه الصفار بسنده عن أبى بصير
قال: (كنت مع أبي عبد الله عليه السلام فذكر شيئًا
من أمر الإمام إذا ولد. قال واستوجب زيادة الروح
في ليلة القدر، فقلت: جعلت فداك أليس الروح جبرئيل؟
قال: جبرئيل من الملائكة والروح خلق أعظم من
الملائكة أليس الله يقول تنزل الملائكة والروح)
بصائر الدرجات ص 484
(نشر مؤسسة الأعلمي طهران - تحقيق الميرزا محسن كوجة باغي).
[9]
- سورة الدخان: 4/5/6.
|