العدد الثالث / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات هذا العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = العيد

 ولكن المؤمن لا يُعيرُ أيّة أهمية للنجاحات المادية والإنجازات الدنيوية، لأنّّها لا تشكّل مطمحًا له ولا غاية يرجو الإخلاد إليها، إذ المفروض أنّه قد تأدَّب بآداب الله تعالى، وتخلَّق بأخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ، فنظر إلى الحياة الدنيا على أنّها متاع الغرور، وأنّها لهو ولعب وزينة وتفاخر بين الناس، بالأموال والأولاد، ولا تساوي بنظره شيئًا, إلاّ بمقدار ما يزرعه فيها من عمل صالح يحصد ثماره في الآخرة، وآمن أنّ الدار الآخرة هي الحيوان، وغير ذلك من المفاهيم والقوانين التي صقلت شخصيته، وهذّبت وجدانه وروحه، فحَكَّم عقله في أهواء نفسه، ومَلَك شهواته، وسيَّرها بالاتّجاه الإلهيّ الصحيح.

فالإنسان المؤمن ينطلق في فرحه وحزنه، وبهجته وغمّه، من خلال رضا الله تعالى، وما يدفعه إليه إيمانه من انسجام وتوافق بين باطنه وظاهره، فما يكون مفرحًا في طول ولاية الله تعالى ورضاه، يُفرِحه على المستوى النفسي، وتظهر آثاره على مظهره الخارجي، وما لا يكون كذلك سيكون أثره على مظهره متماشيًا ومنسجمًا مع ما انعقد عليه قلبه من إيمان.

إلاّ أنّ ذلك لا يعني عُزوفه بالمطلق عن الحياة الدنيا، بل هو يسعى إلى التوفيق بين مقتضيات الحياة الدنيا، ومقتضيات الآخرة، ما دام منسجمًا مع ذاته، فكان مصداقًا لقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}([1]) غاية ما في الأمر أنّه يسخّر نِعَم الدنيا لتكون في خدمة الهدف الأسمى والغاية الأشرف والفوز بالجنة.

أعياد المسلمين:

انسجامًا مع رؤيته للكون والإنسان والحياة، أقرَّ الإسلام أعيادًا اعتبرها تُحقّق الهدف من بعثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو تحصيل السعادة والخلاص في الآخرة والفوز العظيم في جنّة الخلد، إضافة إلى تحقيق الرّفاه والعيش الرغيد في هذه الدنيا، لا للفرد نفسه وحسب، ولكنّ للجماعة المسلمة، بل للإنسانيّة كلها، إذا سارت في طريق الإسلام وهداه.

إنّ الأعياد الإسلامية يمكن تصنيفها ضمن طائفتين، تنطلقان من الهدف والغاية التي يجعل العيد المعين لأجلها، إحداهما فرديّة وذاتيّة وإن كانت لا تخلو من بُعد جماعي، والطائفة الأخرى جماعية لها بُعد فردي كذلك.

الطائفة الأولى:

أما الطائفة الأولى فتتمثّل في عيدي الفطر والأضحى:

أ- عيد الفطر السعيد:

أمّا عيد الفطر السعيد فقد جعله الإسلام ثمرة رحلة ملكوتية، يسير فيها المؤمن شهرًا كاملاً في طاعة الله تعالى، على أجنحة الملائكة النازلة والصاعدة، والفارشة أجنحتها لتظلّله بالكرامة والبركة، حيث السماوات مفتوحة، والشياطين مغلولة، وأبواب الرحمة والمغفرة مشرعة، ويمكنه أن يتغلب على أهواء نفسه وشهواتها.

ولا يخفى أنّ الصّيام من أهمّ العبادات البدنيّة، والرياضات الروحيّة، لما فيه من كفّ لِيَد الشهوات، وتقييد وكبح لجماحها، الأمر الذي ينعكس إطلاقًا لملكات الروح، وتساميًا ورقيًّا في درجاتها نحو عالم الملكوت والرحمة الإلهية، إذا استوفى شرائطه المعتبرة، والتزم بحدوده وقوانينه، ولهذا ورد في الحديث القدسي أنّ الله تعالى يقول: (كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به)، لما فيه من مجاهدة للنفس ومحاربة للشيطان، وتسامٍ للملكات الروحيّة وتعرّض للألطاف الإلهيّة.

فإذا استكمل المرء هذه المسيرة الروحية والجهادية, على مدى شهر كامل  من السنة، فاز بالغاية المرجوة، وحصل الملكات الفاضلة, التي تؤهله ليكون جديرًا باتباع سبيل الحق المستقيم، فاستحق الاحتفال وإعلان الفرحة والشكر لله تعالى، ولهذا فإنّ من أجلى مظاهر العيد عند المسلمين هو التكبير والتهليل والتحميد.

فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب من سأل: لم جُعل يوم الفطر العيد؟ قال (صلى الله عليه وآله): (لأن يكون للمسلمين مجمعًا يجتمعون فيه، ويبرزون إلى الله عز وجل، فيحمدونه على ما مَنَّ عليهم، فيكون يوم عيد ويوم اجتماع ويوم فطر ويوم زكاة ويوم رغبة ويوم تضرع، ولأنّه أول يوم من السنة يحلّ فيه الأكل والشرب، لأنّ أول شهور السنة عند أهل الحق شهر رمضان، فأحبّ الله عز وجل أن يكون لهم في ذلك اليوم مجمع يحمدونه فيه ويقدسونه)([2]).

ولهذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف العيد وأنّ من يستحق الفرح والاحتفال هو المؤمن، الذي طوى مسيرة التكامل الروحي، من خلال الصيام وطاعة الله تعالى، وأمّا من لم يتّصف بهذه الصفة فلا عيد له، إنه قال (عليه السلام) في بعض الأعياد: (إنّما هو عيد لمن قَبِل الله صيامه، وشكر قيامه، وكلّ يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد)([3]).

وعن الإمام الحسن (عليه السلام) إنه مرَّ في يوم فطر بقوم يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم، فقال (عليه السلام): (إنّ الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وقصَّر آخرون فخابوا، فالعجب كلّ العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يُثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، وأيم الله لو كُشِف الغطاء لعلموا أن المحسن مشغول بإحسانه، والمُسيء مشغول بإساءته)([4]) ثم مضى.

ب-عيد الأضحى المبارك:

وأمّا عيد الأضحى المبارك فهو الآخر يأتي ثمرة رحلة عبادية في طاعة الله تعالى، تتمثَّل بالهجرة إليه، والتخلّي عن كل ما يربطه بعالم الدنيا، حيث ينزع عن نفسه كلّ مظاهرها وزينتها، ويلبس ثوب الإحرام، الذي لا يفترق كثيرًا عن كفنه حين موته، بل هو إشارة إليه وكناية عنه، وتشبيه به، كأنّه يستعدّ للّقاء الأكبر طائعًا مختارًا، متنقلاً بين المشاعر المقدّسة والأماكن المطهرة، فإذا أنهى رحلته برمي الجمرات و رجم الشياطين، تأسيًّا بأبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) عندما تمثّل له الشيطان في هذه الاماكن، ثم أتمَّها بالذبح أو النحر، خرج إلى العيد معلنًا فرحه، ومحتفلاً بنجاحه لأنّه قد فاز بغفران الله تعالى.

فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (للحاج والمعتمر إحدى ثلاثة خصال: إمّا أن يقال له قد غفر لك الله ما مضى وما بقي، وإمّا أن يقال له قد غُفر ما مضى فاستأنف العمل، وإمّا أن يقال له قد حُفظتَ في أهلك وولدك وهي أخسَّهن)([5]).

وعليه فيصح أن يقال أيضًا: إنّ يوم النحر هو عيد لمن غفر الله له، ولا يمكن أن يكون عيدًا لغير المؤمن، أو لمن لا يتوقع مغفرة من الله تعالى، أو من لم يعمل لها الأعمال التي تضعه في معرض الغفران والرحمة.

الطائفة الثانية:

عيد الغدير:

إذا كان عيدا الفطر والأضحى يمثّلان الطائفة الأولى بما تتضمنه من غاية فردية، وهدف ذاتي، يسعى إليه الإنسان المؤمن في مسيرته التكاملية نحو الله تعالى، فإنّ عيد الغدير يمثّل الطائفة الثانية، وهي تحقيق الهدف الأسمى من خلق الإنسان، إذ أنّه مع ما يتضمنه من انتظام لحياة الناس على كافة المستويات السياسيّة والإجتماعيّة والتنظيميّة وغيرها، فإنه يحتضن هدف وغاية الطائفة الأولى أيضًا، لأنّ صحة الأعمال وقبولها في الآخرة مرهون بقبول ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (بُنِيَ الإسلام على خمس: الولاية والصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يُنادَ بشيء ما نودي بالولاية يوم الغدير)([6]).

وفي صحيح زرارة عنه (عليه السلام) أنه قال: (بُنِيَ الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل، قال (عليه السلام): الولاية أفضل لأنّها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن)([7]).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة والزكاة والولاية، لا تصح واحدة منهن إلا بصاحبتَيها)([8])، والروايات في هذا الباب كثيرة جدًا.

إنّ هذه الروايات الشريفة تبيِّن أهميّة الولاية وخطورتها، وما التشديد على الولاية بهذا المقدار -حتى صارت أهم وأفضل من عامة الأربعة الأخرى- إلا لأنّها أساس انتظام الحياة الفردية والجماعية، على المستوى الدنيوي والأخروي على حدّ سواء.

إنّ الاعتقاد بالولاية يُشكّل المحور الأساسي في الصراع الفكري والحضاري بين الإسلام وسائر الأنظمة الأخرى، لأنّه بدون الولاية، يصبح الدين مجرد علاقة بين الإنسان وربّه، غير مشتمل على نظام اجتماعي يكفل تصحيح المسار العام في حياة الإنسان الدنيا، ويصير الإسلام بذلك نوعًا من المسيحيّة بثوب جديد، بل قد وضعت أحاديث لتبرير هذه النظرة من قبيل ما ذكروه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (أنتم أعلم بدنياكم) وأشباهه، مع أن المتتبّع للآيات القرآنية الشريفة والسنّة النبوية المطهّرة، والمتأمّل فيها، يعلم بدون أدنى شبهة أنّها مخالفة لروح الإسلام وحقيقته، فجاء التأكيد على الولاية، وبيان أهميتها، لتزييف هذه النظرة، وإعادة الحقّ إلى نصابه.

وما دام الوالي هو مفتاح أركان الإسلام والدليل عليها، إذ لا بد لكل قانون من حامٍ يحمي تشريعاته، ويقيم حدوده، ويعيد المخطئ إلى جادّة الصواب والحق، وهذا يستلزم أن يكون الحامي أو الولي عالمًا بتفاصيل الشريعة قادرًا على بيان الحق من الباطل، وهذه الخصوصية لا يمكن للنّاس أن يدركوها بدون إعانة الوحي وتنصيصه، لكونها كالنبوة من هذه الجهة، إذ من غير المحتمل أن يترك الله تعالى دينه وشريعته تحت رحمة أهواء الناس ومصالحهم، خصوصًا إذا كان الناس حديثي عهد بالدين، لم يختمر في نفوسهم، ولم يصقل وجدانهم، فإن ذلك نقص لغرض الدين، وتضييع لغايته التي بعث الأنبياء لأجلها.

فالولي إذن أساس الدين الحنيف، وعليه معقد الآمال، وتحقيق حلم الأنبياء من إقامة العدل بين النّاس، وتنظيم كافة شؤونهم، ووضعهم على صراط الله المستقيم. بالإضافة إلى توقف صحة الأعمال على المستوى الفردي وقبولها على الاعتقاد بالولي، مما يؤهل الفرد للدخول في نعيم الجنة يوم القيامة.

وهذا ما يفسّر الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله -تعالى ذكره- فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب لأمتي, يهتدون به من بعدي, وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمَّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الاسلام دينا)([9])، لأنّه في هذا اليوم يتمّ للإنسانية كلّ ما تحلم به من خير الدنيا, حيث يُقام العدل بين الناس, ويُنتصف المظلومون, فيتنعم النّاس بالأمان والراحة والرفاه, وبه تُقبل أعمال المؤمنين, التي تُؤهِّلهم للفوز بالجنة في يوم القيامة, وهو الجانب الأخروي والفردي لعيد الغدير.

وهذه الخاصيّة المشتركة، -وهي اشتماله على البعدين الفردي والاجتماعي- يفتقدها كلّ من عيدَي الفطر والأضحى, على الرغم مما لهما من أهمية على مستوى حياته الخاصّة والفردية.

انتهى المقال 

ــــــــــــــــــــــــــ

[1] - سورة القصص: من الآية:77.

[2] - البحار: ج90،ص362.

[3] - ميزان الحكمة: ج7،ص130.

[4] - المصدر نفسه: ج7، ص131.

[5] - سفينة البحار: ج2, ص52.

[6] - بحار الأنوار ج65 ص332..

[7] - المصدر نفسه.

[8] - المصدر نفسه ص320.

[9] - المصدر نفسه ج37 ص109, وتفسير نور الثقلين ج2 ص192.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية