العدد الثالث / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

قاعدة الميسور([1])

المرجع الديني الشيخ محمد تقي الفقيه(قدس سره)

 

والكلام فيها في جهات:

الجهة الأولى: المقصود من قاعدة الميسور أمران:

أحدهما: بقاء وجوب المركب بعد تعذر بعض أجزائه، وبقاء وجوب المشروط بعد تعذر شرطه.

وهذا كله إنما يتأتّى بالنسبة للواجبات الموقّتة، وأما الموسّعة فلا مجال له فيها، نعم إذا تضيّق الموسّع باعتقاد قرب الموت أو ظنّه جرى عليه حكم الموقّت.

ثانيهما: لو بادر بالإتيان بالميسور في أول الوقت، ثم تمكن منه تامًّا، ففي الاجتزاء به وعدمه احتمالان.

الجهة الثانية: مقتضى الأصل الأوّلي هو سقوط التكليف بالمركّب بعد تعذر بعض أجزائه، وبالمشروط بعد تعذّر شرطه، لانتفاء الكل بانتفاء جزئه، ولأن المشروط عدمٌ عند عدم شرطه، فالميسور حينئذ لا يكون مصداقًا لطبيعة المأمور به بالضرورة.

ودعوى إمكان استصحاب وجوب الميسور فاسد، لتعدّد الموضوع عقلاً وشرعًا فيكون إثبات الحكم للميسور إحداثًا له لا إبقاءً، نعم لو فرض وحدة الموضوع عرفًا جرى الاستصحاب بلا ريب.

الجهة الثالثة: في مدرك هذه القاعدة:

وهو قوله (صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، وقول علي (عليه السلام): (الميسور لا يترك بالمعسور)، وقوله (عليه السلام) أيضًا: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)([2]).

وأوضحها دلالةً أوسطها، والظاهر أن هذه المراسيل مجبورة بالعمل ومتلقاة بالقبول.

ويمكن الاستيناس لهذه القاعدة بالنصوص الواردة في بيان حكم من تعذّر عليه القيام في الصلاة، والانحناء في الركوع والسجود([3]).

ولا ريب في دلالة هذه الأخبار على المطلوب، حتى النبويّ، فإنّ "الشيء" في قوله (صلى الله عليه وآله): (إذا أمرتكم بشيء) وإن كان نكرة في الإثبات لا يفيد العموم، إلا أنه مطلق.

ويمكن أن يقال: بأن مقتضى إطلاقه تبعيض جميع الواجبات حتى الصوم والحج، بل والخمس والزكاة، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، فلو تمكن المكلف من صوم بعض اليوم وتعذّر عليه صوم يوم كامل لم يجب عليه ذلك، ولو فعله لم يُجتزءْ به، والمطلوب من قاعدة الميسور هو إثبات إجزائه، ومثله غيره من معظم الواجبات.

ويمكن أن يقال: بأنه ناظر لجميع ما أمرهم به بنحو العموم الشمولي، ويكون المراد منه أنه إذا عجز أحدهم عن الصوم فلا ينبغي أن يتهاون في الصلاة، وهكذا سائر الواجبات بل والمستحبّات، فإذا لم يتمكن من نافلة الليل مثلاً وكان متمكنًا من نافلة النهار كُلاً أو بعضًا فعليه الإتيان بما تمكن.

وكأنه غير بعيد، ولكن الظاهر خلافه.

ويمكن أن يناقش فيه بمناقشات علمية:

منها: أن الأمر يشمل الواجب والمستحب، وأن قوله (صلى الله عليه وآله): (فأتوا منه ما استطعتم) ظاهر في الوجوب، ولا ريب أن المستحب لا يجب الإتيان به وإن كان مستطاعًا، وإرادة خصوص الواجب منه يستلزم إرجاع الضمير إلى بعض ما أمرهم به، وهو نوع من الاستخدام، والاستخدام خلاف الظاهر.

والجواب: أنه لا مانع من الاستخدام إذا دلّت عليه القرينة، مضافًا إلى أنه لا مانع من استعماله في الجامع ويكون المقصود: وجوب المستطاع في الواجب واستحبابه في المستحب، وتكون الغاية منه: إما الحثّ على المحافظة على الواجبات والمستحبات كلٌ بحسبه، وإما الاكتفاء بالمبعّض منها، فيكون حينئذ دالاً على قاعدة الميسور.

ونوقش في العَلويين: بأن قوله (عليه السلام): (لا يُترك كله)، و(لا يترك بالمعسور)، بأنه جملة خبرية لا تدل على حرمة ترك الميسور وترك ما يدرك.

والجواب: أن الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب أظهر في الوجوب والتحريم من غيرها كما اخترناه في الأصول.

الجهة الرابعة: التكليف الذي له بدل اضطراري كالطهارات المائية بالنسبة للترابية، وكالكفارات المرتبة بالنسبة للمتأخر منها مرتبة عن غيره، هل ينتقل منه إلى بدله الاضطراري بمجرد تعذّر جزئه أو شرطه؟ أو لا بل يقتصر على ميسوره، فإن تعذّر ميسوره انتقل إلى البدل ؟ وجهان..

والمرجع هو ما يظهر من أدلة التكاليف، ومقتضى أدلة وضوء الجبيرة هو عدم الانتقال من الطهارة المائية إلى الترابية إلا بعد تعذّرها بجميع مراتبها.

إذا عرفت هذا فاعلم: أن الحكم في باب الوضوء بالنسبة للتيمّم كما قدمناه، لظهور روايات الجبائر في ذلك كما هو واضح.

وتظهر الثمرة في باب غسل الجنابة وفي باب أغسال الدماء الثلاثة، فإن ألحقناها في الوضوء لم يجز الانتقال من الغسل المائي إلى التيمّم إلا بعد تعذّر غسل معظم الأعضاء على وجه لا يصدق على الباقي كونه ميسورَ الواجبِ الأصلي، وإلا تعين الانتقال للتيمم بدلاً عن الغسل بمجرد تعذّر غسل أي جزء من أجزاء البدن، ونظر الفقيه هو المحكّم، والاحتياط بالجمع هو الأجود.

الجهة الخامسة: الظاهر أن قاعدة الميسور قاعدة مهملة لا يمكن الأخذ بإطلاقها، لأنه خلاف ما عليه الفقهاء، مضافًا إلى أنه يلزم من العمل بإطلاقها تأسيس فقه جديد.

مثلا إذا تعذر غسل الوجه بتمامه في باب الوضوء، أو غسل عضو آخر كاليد أو عضوين، كان مقتضى إطلاقها وجوب الإتيان بالباقي والاجتزاء به، مع أنهم يقولون بالانتقال إلى التيمم أو بالجمع بين غسل الميسور والتيمم.

ومثله الأغسال، بل لم يقل أحد فيما نعلم بتبعّضها، مع أن مقتضى إطلاقها وجوب غسل الميسور والاجتزاء به.

ومثله الحج والصوم، فلو استطاع صوم بعض اليوم، أو الإتيان ببعض أشواط الطواف والسعي، كان مقتضى إطلاقها الاجتزاء بالإتيان بالميسور، مع أنه لم يتوهمه أحد في باب الصوم، ولم يقل به أحد في باب الحج، وهكذا سائر أبواب الفقه.

مضافًا إلى أن تشخيص الميسور في الموارد التي يُعمل فيها بقاعدة الميسور ليس واضحًا، لتردّده بين الميسور العقلي أو الشرعي أو العرفي.

ولا ريب أن منصرفه العرفي، لأنه بعد إهمال الشارع له وتعليق الحكم عليه يكون قد أحالنا فيه عليهم، ولكن العرف ومنهم الفقهاء يتردّدون في أكثر المصاديق.

ويمكن أن يقال: أن التكاليف نوعان، مقرّرات ومخترعات، وأن المرجع في تشخيص ميسور المخترعات هو الأدلة الشرعية، ومنها عمل العلماء.

وفيه: أنه إذا وُجد الدليل الشرعي فلا حاجة لقاعدة الميسور إلا إذا طبقت على المورد في لسان الدليل، وأما كلمات العلماء فإن بلغت حدّ الإجماع كان هو العمدة.

نعم إذا طبّقها معظمهم على مورد من مواردها أمكن أن يكون ذلك موجبًا لوثوق الفقيه في كونه موردًا لها، وحينئذ يكون له خصوصية، فتطبيق المشهور لها في مورد من الموارد يدل على عملهم بها فيه، فيكون جابرًا لها، بخلاف ما عداه، وهذا معنىً يحسن (يمكن) اعتماد الفقيه عليه، ولعله هو المقصود من قولهم أنها مهملة وأنها في حاجة إلى عمل المشهور بها بالنسبة لكل مورد من مواردها.

ثم إنه يمكن أن يقال: بأن المدار على بقاء معظم الأجزاء والشرائط ميسورًا، فإنه هو الذي يسمى ميسورًا بنظر العرف، بخلاف ما لو تعذّر المعظم وبقي القليل ميسورًا.

وفيه: أنه مجمل غاية الإجمال، وأنه يرد عليه جميع ما أورده صاحب الكفاية في باب الصحيح والأعم.

وأجيب عنه: بأن الجامع للمعظم هو الأركان في الصلاة ونظيره في غيرها.

وأما المقرّرات، فقد يقال: بأن المرجع في تشخيص ميسورها هو العرف، فالقيام في الصلاة مثلاً مفهوم عرفي، وليس للشارع فيه اصطلاح خاص، ومثله الركوع والسجود، فإذا تعذّر الكامل من القيام مثلاً كان القيام مع الانحناء اليسير قيامًا عرفًا، ونحوه الركوع والسجود.

وفيه: أن الشارع اكتفى في باب القيام والركوع بمراتب كثيرة تنتهي إلى حد الإيماء، ولا ريب أن هذه الأبدال الكثيرة ليست ميسورًا للمبدل منه عرفًا.

ويمكن أن يقال: بأن هذا يكشف عن كون هذه الأمور مخترعات لا مقررات.

ويمكن أن يقال أيضًا: بأن وضوء الجبيرة ليس من باب قاعدة الميسور، بل هو من باب جعل البدل الاضطراري، ويكون مقدمًا على التيمم، فيكون للوضوء بدلان اضطراريان، أحدهما مقدم على الآخر.

ويؤيد هذا أن نصوص الجبائر لم تشتمل على قاعدة الميسور ولم تُشر إليها على كثرتها، بل جعله في بعضًا من موارد الحرج كقوله (عليه السلام) في من عثر وقلع ظفره: (يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى {ما جعل عليكم في الدين من حرج} امسح عليه)([4]).

إذا عرفت هذا كله فاعلم: أن القاعدة مهملة، وأنها مسلّمة في باب الصلاة في الجملة، وأنه ربما يوجد في الفقه موارد تشبه قاعدة الميسور، ولكنها ليست منها، وإنما ثبتت بدليل خاص، كالاكتفاء بالغبار عوضًا عن التراب مع تعذره في باب التيمم، وكتقسيم أموال المفلس على غُرمائه بنسبة ما لهم مع عدم كفايته بالوفاء، وغير ذلك.

انتهى

ـــــــــــــــــ 

الهوامش

([1]) دوّن (قدس سره) هذه المسألة في 5/11/1986م، الموافق 3 ربيع أول 1407هـ في حاريص، وقد رأينا أن من المفيد نشرها مع أنه اعتمد فيها الإيجاز.

[2] - حكى شيخنا المرتضى الأنصاري هذه الأخبار عن عوالي اللئالي في كتاب الرسائل في مبحث الاشتغال في باب الأقل والأكثر عند التعرض لقاعدة الميسور.

راجع عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي : ج 4 ص 58  حديث 205- 206-207 .

[3] - لاحظ الوسائل ب20 من أبواب السجود ، م4 ص349 الطبعة دار إحياء التراث

([4]) الوسائل ب39 من أبواب الوضوء ح5.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية