لم يكن العقل غائبًا آنًا ما عن ساحة البحث الأصولي ، بل
والفقه الاستدلالي منذ انطلاقته بعد الغيبة الكبرى لآخر
أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - الإمام الثاني عشر (عجل
الله تعالى فرجه الشريف)- فساهمت الأبحاث العقلية في عملية
الاستدلال بشكل فاعل في أكثر من جهة، سواء في الكشف عن
كبريات الاستدلال الفقهي([2])،
أم في كونه بذاته كاشفًا عن الحكم الشرعي ومدركًا له بمعنى
دليليته له، فيثبت له دور الحاكمية، فضلاً عن الفاهمية،
وهذه القضية بالذات - أي كون العقل حاكمًا لا فاهمًا فحسب
– قد شغلت الفقهاء وصارت محل نزاع ومثار جدل فكري أصولي،
ولعبت دورًا هامًا في تنوّع منهج الاستدلال في الفقه
الإمامي، وكانت من أظهر الأسباب التي ساعدت في نشوء
المدرسة الفقهية الأخبارية إلى جنب المدرسة الفقهية
الأصولية([3]).
وقد اعتمدت المدرسة الأولى على المنهج النقلي الروائي،
والمتمثّل بالنمط الأخباري الذي برز لدى محدّثي الشيعة
الأوائل أمثال الشيخ الصدوق وثقة الإسلام الشيخ الكليني،
ورواة أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ممتدًا إلى
العصور المتأخرة([4]).
فاقتصر الفقه لدى هذه المدرسة على نقل الرواية وتبويبها
وترتيبها ثم الأخذ بمؤدّى ظاهرها فحسب، دون اللجوء إلى
أدلة أخرى، لاستبعادهم العقل أو ما يرجع إليه من قواعد عن
مسرح العملية الفقهية في استنتاج الحكم الشرعي.
فكان أن اقتصر أخذ الحكم الشرعي لدى الفقهاء الأخباريين من
الأخبار الواردة عن طريق الأئمة الأطهار (عليهم السلام)([5]).
أما المدرسة الأصولية فقد اعتمدت المنهج الأصولي العقلي
بتوسّع في الكشف عن سبل الاستدلال وطرائقه، حتى بات العقل
يشكّل موضوعًا هامًا من موضوعات علم الأصول، فاعتبره جلّ
الأصوليين دليلاً رابعًا([6])من
أدلة الأحكام بعد الكتاب والسنّة والإجماع([7]).
فكما أن العقل من جملة وسائل الاستدلال التي احتاجها
الأصولي لإثبات كثير من القضايا والقواعد الأصولية
كالاستناد إليه - مثلاً - في إثبات الحجية لأخبار الآحاد
أو للإجماع أو لظاهر الكتاب وغيرها، وأنه مما يصح الاعتماد
عليه في استنباط الحكم الشرعي والاستدلال الفقهي بشكل عام،
كذلك أصبح بنفسه دليلاً على الحكم الشرعي وداخلاً في عملية
الاستنباط، بل جزءًا من عملية الاستدلال المباشر، لا أقل
في إحدى مقدمتيه([8]).
ولا شك في أهمية دور العقل وفاعليته في الاجتهاد الإمامي
ولا سيما لدى متأخري الفقهاء ومن أتى بعدهم إلى زماننا([9])،
فأدّى إعمال العقل واستخدام المنهج العقلي في البحث
الأصولي إلى إدخال صياغة جديدة في المنهج الاستدلالي فضلاً
عن تعدّده، وبروز أكثر من منحى اجتهاديّ لدى فقهاء
الإمامية، وهو الذي أضفى حيوية على مسيرة الاجتهاد في
الفقه الإسلامي، وساعد في نشوء مسلكين رئيسين في الفقه
الاستدلالي تجلّى في المدرسة الأخبارية والمدرسة الأصولية.
وقد كان لكل من هاتين المدرستين الفقهيتين مبرّراتهما
وأدلتهما في شكل المنهج الأصولي المعتمد في الفقه، إذ إن
المدرسة الأخبارية ترى أن أحكام الشرع توقيفية، وأن
التشريع لا يؤخذ إلا من المعصومين (عليهم السلام)، إذ هم
حفظة الشرع والمبيّنون للأحكام، وأن أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) قد أذنوا لأتباعهم وأصحابهم بالأخذ عنهم في ما
يرتبط بأمر الدين([10])،
وعدم اللجوء إلى الرأي والقياس والاستحسان بل وإعمال العقل
في مجال الحكم، إذ (إن دين الله لا يصاب بالعقول)([11])،
و(السنة إذا قيست محق لدين)([12])،
إلى غيرها من النصوص والأحاديث الشريفة التي حملوا ظاهرها
على النهي عن إتباع العقل، وأن مفادها الاقتصار على النقل
وما يؤدي إليه وتجنّب كل قول يخالف ما أثر عن أئمة أهل
البيت(عليهم السلام) من أحاديث وروايات، وأضافوا شواهد
وأدلة كثيرة تدعم مقالتهم في الاستنباط([13]).
وفي المقابل تجد أصحاب المدرسة الأصولية يعتمدون العقل
ويعطونه دورًا رئيسيًا في جلّ العملية الاستنباطية
بوظيفتيه الحاكمية والفاهمية، منطلقين من مقولة تبعية
الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في أنفسها أو متعلقاتها،
بمعنى أن الأحكام ليست عبثية بل تصدر إما لمصلحة ملزمة
سواء في نفس الحكم أو الموضوع أم المتعلق كما هو حال
الواجبات الشرعية، أو لوجود مفسدة ملزمة كذلك كما هو الحال
في التحريمات والمناهي الشرعية.
وهذه المسألة مترتبة على قضية التحسين والتقبيح الذاتيين
وأن العقل قادر على إدراك ذلك، وحيث إنه قد ثبت في محلّه
من مباحث علم الكلام والفلسفة تلك القاعدة القائلة بأن
"الحسن ما حسّنه العقل والقبيح ما قبّحه العقل" كما هو
مذهب العدلية من الإمامية والمعتزلة مستندين إلى الحسن
والقبح الذاتي للأشياء.
بمعنى أن هناك أفعالاً توصف بكونها حسنة بذاتها من غير طرو
شي آخر عليها، كالعدل والإحسان وردّ الوديعة وأداء
الأمانة، فإنها أشياء تقرّ كل العقول المستقيمة بحسنها
الذاتي، كما تجد في المقابل أشياء موصوفة بالقبح لذاتها
كذلك مثل الظلم والخيانة والإساءة إلى المحسن وما شاكل هذه
الأمور، فإنها قبيحة بذاتها سواء ورد شرع بقبحها أم لا، بل
لا حاجة لورود خطاب شرعي بذلك وإن ورد فهو من باب الإرشاد
إلى حكم العقل([14])،
وليس تأسيسًا للحكم الشرعي.
وبالنتيجة لا مجال للفقيه في أن يستبعد (العقل) عن مسرح
الاجتهاد بعد أن أصبح من أدواته الرئيسة، ولا يعني ذلك أن
النصّ قد فقد قيمته عند الأصولي، بل تعزز دوره بالعقل
الفاهم للنص، والمدرك لأبعاده بعد تحليله وتفكيكه وإعادة
أجزائه إلى مرتكزاتها الموضوعية، من عُرف وقرائن حالية
ومقامية وغير ذلك.
والكلام لدى الأصولي في هذه القضية إنما هو في حدود دور
العقل، وتحديد وظيفته في مجال الاستنباط، وإلى أي مدى أباح
الشارع للفقيه الرجوع إلى العقل والاعتماد عليه، وهذا ما
يُعبَّر عنه في علم الأصول بحجية العقل، وذلك بعد الفراغ
عن إدراك الملازمة وإثباتها القائلة بأن (كل ما حكم به
العقل حكم به الشرع)([15]).
وقد قرّر الأصوليون أن الأخذ بدليل العقل بسببِ ما يؤدي
إليه من نتيجة علمية يقينية لا ظنية، فليس الأخذ به على
سبيل الأخذ بالأمارات المفيدة للظن المعتبر، ولا على سبيل
الأخذ بالظنون الأخرى المستفادة من إعمال الرأي، كالأخذ
بالقياس، أو الاستحسان، أو المصالح المرسلة، أو سدّ
الذرائع وما شاكل هذه، فإنها ظنيات خارجة موضوعًًًا عن
دليل العقل، ولم يقم دليل على حجيتها واعتبار الظن
المستفاد منها، بل قام الدليل القطعي على بطلانها وعدم
جواز الأخذ بها، كما هو معلوم بالضرورة من مذهب الإمامية([16]).
فليس
الظن من دليل العقل في شيء لدى الأصوليين الأماميين، بل
العقل هو الذي يؤدي إلى اليقين والعلم بالحكم الشرعي، الذي
حجيته ذاتية وليس بحاجة إلى جعل واعتبار.
بقي أنه كيف يتم دليل العقل؟ وأين يكون إعماله؟ وما هي
موارده؟ وما مدى ثمراته الفقهية؟
فهذا ما يستوجب مزيد بحث، نسأل الله أن يوفقنا لذلك، إنه
سميع مجيب.
ولنقطع الكلام حامدين مصلين ومستغفرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- أعتبر بحثي في هذه المقالة
هو من نوع الإثارة العلمية المحضة، وليست تبنيًا
لرأي ما إذا ما تراءى ذلك للوهلة الأولى.
[2]
- لا يخفى أن الأصولي يبحث عن الكبريات وينقح
حجيتها التي تشكل قواعد الاستدلال الممهدة
لاستنباط الحكم الشرعي.
[3]
- ليس المقام في بيان فوارق
المدرستين، بل في تسليط الضوء على طريقة الاستدلال
في الفقه وبيان تعدّده لدى فقهاء الإمامية بشكل
عام.
[4]
- كما هو واضح من طريقة الكثير
منهم الذين برزوا في الأزمنة المتأخرة، كالشيخ
يوسف البحراني والحرّ العاملي وغيرهما.
[5]
- ينظر: الأُسترآبادي ، محمد
أمين : كتاب الفوائد المدنية ص47 ؛ والحرّ العاملي
، محمد بن حسن: الفوائد الطوسية ص324-325
[6]
- الحلي، محمد بن إدريس :
السرائر 1/46.
[7]
- لا يخفى أن الفقهاء الأخباريين لا يرون حجية
الإجماع، ولا حجية ظاهر الكتاب إلا بعد الرجوع في
تفسيره وظواهره إلى نصوص وروايات أهل البيت (عليهم
السلام).
[8]
- لقد قسّم الأصوليون دليل العقل إلى مستقل وغير
مستقل، فالأول ما كانت مقدمتاه عقليتين، والآخر ما
كانت إحدى مقدمتيه عقلية والأخرى شرعية،
كالاستلزامات العقلية التي تشمل مسألة مقدمة
الواجب والضد وغيرهما من مسائل تشكّل جزءًا هامًا
في علم الأصول وموضوعه.
[9]
- من أمثال العلامة الحلّي والشهيد، والمحقّق
الكركي ومن أتى بعد هؤلاء، فشكّّلوا مرحلة متأخري
المتأخرين أمثال صاحب الفصول والمحقق القمي مؤلف
القوانين في الأصول، إلى الشيخ الأنصاري وغيرهم من
فحول الأصوليين قدس الله تعالى أسرارهم.
[10]
-
خصوصًا في مسائل الحلال والحرام.
[11]
-
العلامة المجلسي: بحار الأنوار 2/303 ، مؤسسة
الوفاء - بيروت ط2 .
[12]
- المصدر السابق 101/405
[13]
- ينظر : البحراني، الشيخ
يوسف: الحدائق الناضرة 1/26-27 المقدمة الثالثة.
[14]
- ينظر : الفاضل التوني، عبد
الله بن محمد : الوافية في أصول الفقه ص171 ط:
إيران قم 1412 ؛ والمحقق الحلي، جعفر بن الحسن:
المعتبر 1/32 ؛ والشهيد، محمد بن مكي: ذكرى الشيعة
في أحكام الشريعة 1/52.
[15]
- المظفر، الشيخ محمد رضا:
أصول الفقه 1/236.
[16]
- المظفر، الشيخ
محمد رضا: أصول الفقه 2/131.
|