العدد السادس / 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال =الرسالة النبوية الخاتمة

موطن المستوى الأول:

المستوى الأول المعروض بطريق الإجمال المحدود والإجمال الواسع، نلحظه ونحصي موارده في المادة المعرفية الأولى للرسالة الخاتمة، أي في الكتاب العزيز.

فاعتقادنا بالكتاب العزيز أنه بيان رسالي مجمل غير مفصّل، وأن إجماله هذا تارة كان محدودًا وأخرى كان واسعًا، وهذا لا ينافي أبدًا ما يمكن أن نفهمه من مثل قوله تعالى:{ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}([1])، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}([2])، وما يجري مجرى هاتين الآيتين الواضحتين، إنه كتاب بيِّن مفصّل جامع، نعم هو كذلك في نفسه وعند الذين أوتوا علم الكتاب، فهو كتاب واضح في جميع معانيه لدى هؤلاء كما يقول تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}([3])، هو كذلك عند الراسخين في العلم، هو كذلك عند أعدال الكتاب.

أما بالنسبة لنا نحن - القسم الثاني من الناس وهو عامتهم، ومنهم المتعلمون أجمع، وإطلاق صفة (العالِم) على بعضهم إنما هو بعلاقة المشابهة لا بالانطباق الحقيقي الواقعي - فليس الكتاب إلا مجملاً غامضًا مرددًا، موقعًا لوعينا في الجملة في الحيرة والتردد، فهو كتاب لا يشبع وعينا بالحاجات المعرفية التي هدفت الرسالة تبليغنا إليها وإيصالنا إلى مراتبها، لأنه وإن كان في حد ذاته مما لا تنتهي معارفه ولا يقلّ فيض عطائه ولا يعيى عن كثرة الرد، إلا أنه كتاب بنى بيانه على طريقة وأسلوب تعبير، يجعله أمام مرآة وعينا وقدرة عقولنا وآلات إدراكنا مطبقًا على الإجمال ولو في الجملة.

فأنّى لنا أن نهتدي من خلال آياته إلى حقائق الدين ومعالم الرسالة ومفصلات أحكامها،وهو حمّال وجوه تستدخلها بطون وبطون، ولها أَوْلٌ بعد أَوْلٍ، وإشراقة بعد إشراقة، وظهور بعد ظهور، وعمق يطوي أعماقًا، ما يجعل الجزم بمراداته والعلم بحقائقه قضية غير ميسَّرة لفهمنا نحن، هكذا يتبدّى الكتاب العزيز إلى فهمنا، ولذا اعتبرنا أن المستوى الأول - أي المجمل بقسميه المحدود والواسع - كان موطنه الكتاب العزيز.

موطن المستوى الثاني:

المستوى الثاني من البيان الرسالي المعروض بطريقة التفصيل تفسيرًا وتأويلاً نلحظه ونحصي موارده في المادة المعرفية الثانية للرسالة الخاتمة، أي في موطن كلمات الأنوار الساطعة والأعلام اللائحة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته علي بن أبي طالب وأبناءه الأحد عشر إمامًا عليه وعليهم السلام، فإن بيانهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم كان بيانًا مفصلاً لما أجمله الكتاب العزيز، تارة عن طريق تفسير الآيات وكشف اللثام عن معانيها ومبانيها، وتارة أخرى عن طريق انطباقات المعنى وما يؤول إليه ويستقر في الدلالة عليه بحسب المناسبات وحيثيات الظرف.

ولمّا كان التأويل هو انطباق الآيات الشريفة على المعاني والأحداث بحسب المناسبات وحيثيات الظرف المكاني والزماني، فقد لاحظنا أن بيان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان الغالب عليه طابع التفسير، ويختلف عنه بيان عترته الطاهرة، فالغالب في بيانها لمناسبات الظرف هو التـأويل.

فإن عمر الرسول في بيان الرسالة امتدّ إلى ثلاث وعشرين سنة، ما جعل الحاجة إلى التفسير أكثر منها إلى التأويل، لأن طابع الدعوة كان طابعًا تأسيسيًا، بينما بعد شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) انقلبت حركة الصراع إلى داخل الأمة، مما فرض الحاجة إلى التأويل، وعلى ضوء هذا المستجد وهذه الحقيقة، يأتي السياق الطبيعي لكلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما قال لعلي (عليه السلام): [يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، تقضي ديني وتنجز عداتي وتقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل]([4]).

السرٌّ الكامن:

هذا الذي عرضت إلى ذكره واعتبرته الحقيقة الثالثة من حقائق الرسالة الخاتمة أحبّ أن أوضح بعض ما بُنِيَت عليه.

فأن يتخذ بيانها هاتين الطريقتين، فلا بدّ أن هناك سرًا يقف خلف هذه الظاهرة، فكان بإمكان السماء أن تنزل كتابًا من عندها بطريقة واضحة وأسلوب سهل ميسّر، يعقله كل قارئ دون الحاجة إلى معين يعين على فهمه ومعرفة مواقع كلامه ومرامي آياته الشريفة.

فلماذا اختارت السماء هذه الطريقة في إبداء معارف رسالتها، وهي قادرة على بيان ما تريد، دون الرجوع إلى الرسول ومن يقوم مقامه في التعريف بها والإظهار لبطونها وتفصيل مجملاتها ومواقع أَوْل الآيات وانطباقها عبر الزمن؟.

والذي اعتقده سببًا وراء هذه الظاهرة المشهودة للمتأملين، أو على الأقل من الأسباب الحقيقية الأولى وراء هذه الظاهرة، هو أن يربط الله الأمة بقادتها الحقيقيين وأمنائها الحقّانيين وساداتها الواقعيين، وأهم ميزة في القيادة والسيادة الصحيحة هي العلم والمعرفة، وخير ميدان لاختبار النفوس لمعرفة العالم من الجاهل، والأعلم من العالم، والراسخ من الزائل، والثقيل من الخفيف، والعميق من العابر - بعد تسليم الأمة بمرجعية القرآن وفخامته وقداسته ولزوم التدين به- هو العلم بمواقع كلامه وأنوار آياته.

لأجل ذلك أجمل القرآن الكريم بيانه وعقّد خطابه، وبناه على الإشارة الخفية واللطيفة المخفية، وساقه سوقًا لا تستجلي غوامضه إلا نفوس طاهرة زكية {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}([5])، ليظهر الله عز وجل بذلك فضل الفاضل وعلم العالم وحقانية المحق، وكذلك ليظهر كذب الكاذب وخدعة الخادع وبطلان المبطلين، فيقع ذلك في مرأى الأمة ومسمعها {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}([6]).

وإننا إذ نقول هذا القول وندّعي هذه الدعوى، لا نزيد بشيء عما جاء به القرآن نفسه، إذ يقول تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}([7]).

وعلى هذا الأساس فرَّع الله عز وجل وجوب الرجوع في معرفة الكتاب وحقائق الخطاب، فقال عز وجل {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}([8]).

وقوله تعالى{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً* وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}([9]).

والذي يلوح لنا من سياسة الرسالة مع البيان إذ كان مجملاً لدى وعينا نحن، مفصّلاً في كلام الرسول وكلام آله صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ويظهر بذلك فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفضل آله الأطهار عليهم السلام، بأعظم ميزة وأشرف منقبة اختص الله بها بشرًا من الأولين والآخرين، وهي فهم كتاب الله الجامع الذي فيه تبيان كل شيء، والذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([10])، فالعالم به المحيط بأسراره قد علم من علم الله، وحوى من مكنون سر الله، وأحاط بغامض أمر الله، ما جعله خزانة أسرار الله، ومستودع علم الله، وترجمان وحي الله، وعِدل كتاب الله، وثقل كلمة الله، ومظهر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، والمشتمل على نور الله المودع في هذا الكتاب، فإذا كانت هذه المنقبة لا تربط الأمة بآل محمد، وبالتالي بمحمد نفسه (صلى الله عليه وآله)، وبالتالي بالكتاب الذي ندّعي الإيمان به، فلا ميزة لهم، فأي عقال يربط هذه الأمة إذن؟

والخلاصة: إننا نعتقد أن من أسرار جعل الكتاب العزيز مبنيًا على إجماله الواضح وفق ما عرضنا لتوضيحه، وجعل بيان رسول الله وبيان آله الأطهار مفصلاً، يهدف فيما يهدف إلى إظهار فضله وفضل أهل بيته، حتى لا يكون عذر لأحد في التخلف عن ولايتهم وطاعتهم والتبرؤ من أعدائهم، فعلى عدوهم لعائن الله ورسله وملائكته والناس أجمعين.

ختام

هذه بعض من حقائق الرسالة النبوية الخاتمة، واستيفاء الكلام حول جميع حقائقها العامة محتاج إلى مجال آخر، على أن هذه الحقائق الثلاث التي عرضنا لها أيضًا، هي بحاجة إلى تفصيل أكثر وبيان أوسع، نسأل الله التوفيق لذلك.

انتهى

ــــــــــــــــــ

 

[1] - هود:1.

[2] - النحل: 89.

[3] - العنكبوت من الآية 49.

[4] - كفاية الأثر- الخزاز القمي ص 135.

- [5] الواقعة:79.

[6] - الأنفال: من الآية42.

[7] - آل عمران:7.

[8] - النحل: 43.

[9] - النساء: 82- 83.

[10] - الأنعام: من الآية38.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس    أرشيف المجلة     الرئيسية