العدد السادس / 2006م  /1427هـ

       رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

مصادر نهج البلاغة([1])

الشيخ سليمان اليحفوفي (قدس سره)*

 

تمهيد البحث

ما خطر لي في يوم من الأيام أن أقف مستدلاً على نسبة نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام)، كما لم يخطر لي في بالٍ أن أستدلّ على أن القرآن هو كلام الله سبحانه. ولكن بدء وقوع الفِتن أهواءٌ تتبّع وآراءٌ تُبتدع، يتولّى فيها قوم قومًا، فيُمزج قليل من الحقّ مع كثير من الباطل فيأتيان معًا، هناك يضلّ مُرتاب ويُعاني محق.

لقد هوّن عليّ حَرَاجة الموقف أن الشُّبهات والشُّكوك أقدم تاريخًا من حياة الإنسان على الأرض. بل من المؤكّد أن الإيذان بخلقه سبّب أول شبهة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}([2]). فتولد لديهم شبهة وهي كيف يجوز جعل خليفة في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء؟

ولعلّهم كانوا يحدّثون أنفسهم بأنهم أولى بهذا المنصب لاستمرارهم في الطاعة والعبادة، وقد ظهر هذا المعنى على ألسنتهم إذ {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}([3])فينبغي أن نكون أولى من هذا الخليفة.

فكان لا بدّ من تخلّي الحقّ من الباطل لترتفع الشبهة، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}([4])، فتقهقر الباطل وزهق، وظهر الحقّ، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إلا إبليس}([5]). وقد غاظه ظهور الحقّ، وامتنع عن السجود متلبسًّا بشبهة جديدة، وهي ادّعاء مزيد فضلٍ لنفسه على المسجود له، ولا يصحّ سجود الفاضل للمفضول، وتتضح الصورة في هذا الحوار: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}([6]).

فشبهة إبليس كانت في "الأفضلية"، ثم لُبّس على آدم في شبهة سرّ المُلك والخلود،{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}([7]).

ولكن أبناء آدم أوغلوا في الشبهات حتى شكّوا فيما لم يَشُكَّ إبليس نفسه به، فطالت شُبهاتهم السّاحة القدسية، فقالوا لرسلهم {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}([8]).

هذه الشبهات هوّنت عليّ كثيرًا ما أنا فيه، فالشبهة تبدأ صغيرة وربما من واحدٍ فقط، ثم تكبُر وتنمو حتى تشلّ عقولاً كبيرة، وتحتاج في دفعها إلى أسفارٍ ضخمة، كلّما دُفعت من جانب تَفتّقت من آخر، وكأنها جزء من كيان الإنسان، كيف لا وأصالتها ترتبط بتاريخ حياته؟!

وهوّن عليّ كثيرًا أن أقف لأُثبت كلامًا لصاحبه بدون دعوى ولا مدّع، فلِمَن أُثبت وضدّ مَنْ؟ وليس أمامي سوى المُقِرّ والمُقَرّ له.

أأقول للمُقِرّ: إقرارك غير مقبول؟ وهو من أكابر أهل عصره ونقيب زمانه، والذي يقول فيه "زكي مبارك": أما ضمير الشريف فهو عندي فوق الشبهات، وأما اتهامه بالكذب على أمير المؤمنين في سبيل النزعة المذهبية فهو اتهام مردود، ولا يقبله إلا من يجهل أخلاق الشريف([9]).

أم أقول للمقرّ له هذا ليس منك؟ وهو باب العلم الذي منه يؤتى!

ولكنّ الخطب يَهون عندما نُجيل الفكر في ملكوت السماوات والأرض فنستقرئ قصة الإنسان مع خالقه، لنجد الخالق المبدع قد خصّص قسمًا كبيرًا من وَحيه ليبطل شبهات مخلوقه، ولينبهه على فسادها وسوء عاقبتها فيقول سبحانه: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا}([10]).

لأن اتباع الأهواء يُفسد الكون ويَذهب بتوازن الموجودات ويُخلّ بتماسكها، حيث إن للكون سُنّة، ويسير بموجب فطرة تتأثّر عن بلوغ غايتها بتدخّل الأهواء، ولعلّ التعبير القرآني الكريم عن هذه الحال واضح جدًا بقوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}([11]).

فاتّباع الشّبهة أساس كلّ فساد في الأرض، وإثارتها إنما نَبع من زَيغ القلوب عن الحقّ ابتغاء الفتنة والنفع القريب.

ومما يهوّن الخطب أكثر بأن الشّبهة هي المائز بين الهُدى والضّلال، "وإنما سُميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحقّ" على حدّ تعبيركَ سيدي الإمام([12])، والتخلّص منها هو الحدّ الفاصل بين الإيمان والكفر.

فأما أولياء الله فَضِياؤهم فيها اليقين ودليلهم سَمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى.

وخفّف عني ما كنت أقاسيه من ضيق في نفسي وصعوبة في موقفي، أني وجدت الشّبهات لا تُحاك إلا حول العظماء، بل هي دليل عظمتهم، ولولاها لما تنامت حولهم الشبهات.

فأول شبهة انطلقت كانت تستهدف أول خليفة بشرية له سبحانه وتعالى في الأرض، وتنامت حتى نالت ساحته القدسية، ومع ذاك لم ينتقم - وهو القادر على كل شيء - بل بَسَط العالم من عظيم رحمته ووَسَّعَ بابها، ونزّه نفسه عن الشبهات والولد والشريك، وأثبت نسبه بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}([13])، ونفى كل الشُّبَه التي لا تليق بجلاله وكماله مما ألصقوه به وشبّهوه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}([14]).

عندها طابت نفسي، إذ وجدت أن استهدافَ عظيمٍ في الشبهات إنما هو دليل عظمته، فلولا عظمتك سيدي لم تستهدفك الشُّبَه.

وعظمتك لا تحتاج إلى دليل، بل أنت الدليل عليها، فهي بك تقاس وإليك تنتمي.

فقد عمل أعداؤك ما يستطيعون غير مكتفين بإثارة الشُّبَه حولَك لإطفاء نورك. وخَنَس([15])أولياؤك ومحبّوك لعدم الحَول والطَّول، وبقِيْتَ تتلألأُ في عَليائك مع كل ما كادوا وما جهدوا.

يكفيكَ عظمةً أنكَ ميزان أعمال البشر، فمن هلك فقد هلك فيك ومن نجا فقد نجا فيك.

فلو لم تكن مقياسًا للعظمة، فكيف يهلك من غالى في حبك؟ أو قلى في بغضك؟ أليس معنى ذلك أنك المقياس؟ فمن زاد أو نقّص فقد هلك؟

منذ أربعة عشر قرنًا وهم يحيكون الشّبهات حول نهجك، فيزداد وضوحًا وانتشارًا، ويتبين أنه جزء من فصاحتك وبلاغتك وعلمك ويظهر لك نهوجًا للفصاحة والبلاغة والكلام.

أرادوا التشكيك في نسبته إليك، فكشفوا لك عن أضعافه.

وأرادوا أن يعارضوك فأصبحوا يقتبسون منك، وأن يجاروك فعادوا كلّاً عليك وأمثلة ذلك أكثر من أن تُعد.

فعبد الحميد الكاتب يقول: (حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت)([16]).

وابن نباتة يقول: (حفظت من الخطابة كنزًا لا يزيده الإنفاق إلا سَعَة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب)([17]).

ولو أردت أن أقول كل ما قيل فيك من أعالي الكلام لنفد مدادي مهما بلغ مدده، لأن قومًا أرادوا أن يثيروا شبهة في انتساب نهجك إليك فظهر لك مناهج، ولم يبلغوا كل نهوجك، ويكفيني أن أنقل ما قيل في كلامك: أنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}([18]).

حاولوا فعجزوا، فَزَاغت قلوبهم فرموك بالشُّبَه فسطع نورك على ما خفي عليهم من بلاغتك.

وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ
 

 

طُويت أتَاحَ لها لسانَ حَسودِ
 

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــ

* نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في دورته الأولى، ومؤسس جميعة التوجيه الإسلامي، ومفتي بعلبك، توفي سنة 1978م.

[1] - أعدّ الكاتب هذا البحث بناء على طلب من مؤتمر نهج البلاغة العالمي الرابع الذي انعقد في طهران بتاريخ 13 رجب 1404 الموافق 1984م، وقد قامت المجلة ببعض التنقيحات الضرورية.

[2] - سورة البقرة من الآية30.

[3] - سورة البقرة من الآية30.

[4] - سورة البقرة من الآية 31.

[5] - سورة الحجر من الآية: 30-31.

[6] - سورة الأعراف:12

[7] - سورة الأعراف:20

[8] - سورة إبراهيم، من الآية :9-10.

[9] - عبقرية الشريف الرضي ص 223-224.

[10] - سورة المائدة، من الآية 77.

[11] - سورة المؤمنون، من الآية 71.

[12] - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية: خطبة 38، 2 /298.

[13] - سورة التوحيد: الآية1.

[14] - سورة الشورى: من الآية11

[15] - خنس: أي تأخر

[16] - شرح النهج، ابن أبي الحديد، 1 /24.

[17] - نفس المصدر السابق.

[18] - سورة يونس، من الآية 38.

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس    أرشيف المجلة     الرئيسية