العدد السادس / 2006م  /1427هـ

       رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال = مصادر نهج البلاغة

 

ويقول ابن أبي الحديد:

((قال أبو عثمان - الجاحظ -:

[وكان جعفر([28])يعجب أيضًا بقول علي عليه السلام "أين من جدّ واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيّد، وفرش فمهد، وزخرف فنجد. قال: ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلى نفسها، دالّة عليها بذاتها]!

قال أبو عثمان: فكان جعفر يسمّيه "فصيح قريش". واعلم أننا لا يتخالجنا شك في أنه عليه السلام أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين إلا من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله.

وذلك لأن فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته تعتمد على أمرين:

هما: مفردات الألفاظ ومركباتها.

أما المفردات: فأن تكون سهلة سلسلة غير وحشية ولا معقّدة، وألفاظه عليه السلام كلها كذلك.

فأما المركبات فحُسن المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض... إلخ.

ولا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه وكتبه، مبثوثة متفرقة في فرش كلامه (عليه السلام) وليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره.

فإن كان قد تعملهّا وأفكر فيها وأعمل رويته في رصفها ونثرها فلقد أتى بالعجب العجاب، ووجب أن يكون إمام الناس كلهم في ذلك لأنه ابتكره ولم يعرف من قبله.

 وإن كان اقتضبها ابتداءً وفاضت على لسانه مرتجلة وجاش بها طبعه بديهة من غير روية ولا اعتمال فأعجب وأعجب، وعلى كلا الأمرين فلقد جاء مجليًا والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره)([29]).

وقال الشيخ شهاب الدين محمود الآلوسي:

(وسمّيَ (نهج البلاغة) لما انّه قد اشتمل على كلام يخيل أنه فوق كلام المخلوقين دون كلام الخالق عز وجل، قد اعتنق مرتبة الاعجاز وابتدع أبكار الحقيقة والمجاز)([30]).

وقال الدكتور زكي مبارك:

(إني أعتقد أن النظر في كتاب نهج البلاغة، يورث الرجولة والشّهامة وعظمة النفس إنه فيض من روحِ قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود)([31]).

ويقول الإمام الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة:

(فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمّل)... إلى أن يقول: (فكان يُخيّل إليّ في كل مقام أن حُروبًا شنّت وغارات شنّت وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة)... إلى أن يقول: (وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغيّر المشاهد، وتحوّل المعاهد، فتارةً كنت أجدني في عالم يغمُره من المعاني أرواح عالية. في حُلل من العبارات الزاهية)... إلى أن يقول: (وطورًا كانت تتكشّف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشره. وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب

 وأحيانا كنت أشهد أن عقلاً نورانيًا، لا يشبه خلقًا جسدانيًا، فُصل عن الموكب الإلهي، واتّصل بالروح الانساني. فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الاعلى... وآناتٍ كأني أسمع خطيب الحكمة ينادى بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب... ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقه وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة)، ولا أعلم اسمًا أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار) ([32]).

وأعتقد أن في هذا القليل القليل مما قاله أكابر الفصحاء والبلغاء والمفكرين كفاية لإعطاء صورة عن مقام نهج البلاغة في العالم بأسره، وسيأتي الكلام في انتشاره عند التعرض لجمعه وعدد خطبه.

أول من شكك في نسبة نهج البلاغة

ذكر السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه مصادر نهج البلاغة وأسانيده، أن ابن خلكان (ت681هـ) كان قد بذر بذْرة التشكيك في نهج البلاغة ونسبته للإمام علي (عليه السلام)، حيث قال في كتابه وفيات الأعيان عندما ترجم للسيد المرتضى:

(وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه، هل جَمْعُه؟ أم جَمْعُ أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله أعلم)([33]).

ويتابع السيد الخطيب كلامه فيقول:

(ثم جاء من بعده كل من الصفدي في "الوافي بالوفيات" واليافعي في "مرآة الجنان"، والذهبي في "ميزان الاعتدال"؛ وابن حجر في "لسان الميزان"؛ وغير أولئك من القدامى والمحدثين، فتابعوه على هذا الرأي).

ثم يحاسب ابن خلكان فيقول:

(وليته دلّنا على واحد من أولئك الناس الذين اختلفوا في جامع نهج البلاغة، وليتك أخي القارئ تعثر لنا على واحد من أولئك الناس في الكتب المؤلفة قبل "وفيات ابن خلكان" وما أكثرها في هذا الوقت)([34]).

وحقيقةً أقول ما أجلّ هذا الكلام للسيد الخطيب سدّده الله وأبقاه، وما أجلّ مؤلّفه العظيم "مصادر نهج البلاغة وأسانيده"، وهو كاف وافٍ لمن أراد الحق وفتش عن الحقيقة، ويدلّك ما فيه على الجهود الجبارة التي بذلها المؤلف لجمع هذا السفر الجليل، فجزاه الله عن الاسلام خيرًا... وإني أحيل المتتبّع على هذا المؤلّف ليكتشف الحقيقة كاملة، كما وأحيله على مؤلِّف جليل آخر يعالج الفكرة نفسها ويذكر الخُطب التي لم تَرد في نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) وهو نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة لصاحب الفضيلة الشيخ محمد باقر المحمودي، فمن طالع هذين الكتابين الجليلين يستغني عن تتبع مصادر نهج البلاغة، ويجد فيهما أضعاف ما في النهج بالأسانيد المتصلة فجزاهما الله خير جزاء المحسنين.

وبعد التحويل على هذين السفرين الجليلين أرى من نافلة القول ذكري للأسانيد لأنه لا يمكنني أن أستوفي البحث كاملاً كما يجب لحاجته لمؤلَّف كامل لا لمحاضرة، والمحاضرة تومئ للأصل وتهدي إليه وهي بفهرس المواضيع أشبه.

وقد قسّم السيد الخطيب المصادر إلى أربعة أقسام، وما يعنينا منها قسمان:

الأول: مصادر أُلّفت قبل صدور نهج البلاغة للشريف الرضي أي قبل سنة 400 هـ، وعدد هذه المصادر مائة وأربعة عشر مصدرًا.

الثاني: مصادر أُلّفت بعد زمن الشريف، وذكرت الأسانيد دون أن تأتي على ذكر الشريف، وأخرى نقلت الكلام بصورة مختلفة عن نقله في نهج البلاغة بدون إشارة إليه وقد بلغ عددها سبعة وعشرين مصدرًا.

أما مصادر الشريف فقد ذكر منها خمسة عشر مصدرًا مصرحًا بها في نهجه.

 منها: البيان والتبيين للجاحظ ج2 ص 76 ؛ المقتضب للمبرد ج3 ص 263؛ تاريخ الطبري ج3 ص 243؛ المغازي لسعيد بن يحيى الأموي ج3 ص 150؛ الجمل للواقدي ج3 ص 149؛ المقامات لأبي جعفر الإسكافي ج3 ص122.

وما يثير العجب ويدعو للتساؤل: لماذا وضع الشريف الرضي أو فصحاء الشيعة هذا الكلام على لسان أمير المؤمنين عليه السلام؟

وكل من يضع شيئًا أو يعمل عملاً يقصد منه غاية ونفعًا.

وجميع الفصحاء والأدباء يفتخرون بما يحفظونه من نهج البلاغة ويقدّسون صاحبه، والوعّاظ يعتبرونه المثل الأعلى، فمن هو هذا العاقل المتواضع (الوضّاع) الذي يهمل اسمه وينسب هذا الكنز الفوّار مجانًا لغيره؟ ما هذا إلا هراء!

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــ

* نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في دورته الأولى، ومؤسس جميعة التوجيه الإسلامي، ومفتي بعلبك، توفي سنة 1978م.

[1] - أعدّ الكاتب هذا البحث بناء على طلب من مؤتمر نهج البلاغة العالمي الرابع الذي انعقد في طهران بتاريخ 13 رجب 1404 الموافق 1984م، وقد قامت المجلة ببعض التنقيحات الضرورية.

[2] - سورة البقرة من الآية30.

[3] - سورة البقرة من الآية30.

[4] - سورة البقرة من الآية 31.

[5] - سورة الحجر من الآية: 30-31.

[6] - سورة الأعراف:12

[7] - سورة الأعراف:20

[8] - سورة إبراهيم، من الآية :9-10.

[9] - عبقرية الشريف الرضي ص 223-224.

[10] - سورة المائدة، من الآية 77.

[11] - سورة المؤمنون، من الآية 71.

[12] - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية: خطبة 38، 2 /298.

[13] - سورة التوحيد: الآية1.

[14] - سورة الشورى: من الآية11

[15] - خنس: أي تأخر

[16] - شرح النهج، ابن أبي الحديد، 1 /24.

[17] - نفس المصدر السابق.

[18] - سورة يونس، من الآية 38.

[19] - شرح النهج، ابن أبي الحديد، خطبة 5، 1/213، اضطراب الأرشية: أي اضطراب الحبل المرسل في بئر مطوية بالحجارة.

[20] - المصدر السابق، خطبة 70 ، 6/127.

[21] - المصدر السابق، خطبة 173، 10/10

[22] - المصدر السابق، كلام 128، 8/215.

[23] - المصدر السابق، 1/17.

[24] - مصادر نهج البلاغة 3 /91، نقلاً عن كتاب (نظرات في القرآن) لمحمد الغزالي ص154.

[25] - مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/50، نقلاً عن كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم) ص 15.

[26] - نهج السعادة، المحمودي : 1/12، نقلا عن مروج الذهب، 2 /419، ط بيروت.

[27] - مصادر نهج البلاغة وأسانيده، السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب،دار الأضواء، بيروت، 1/ 50.

[28] - جعفر بن يحيى وكان من أبلغ الناس وأفصحهم.

[29] - شرح النهج، ابن أبي الحديد، 6 /278.

[30] - مصادر نهج البلاغة وأسانيده ص 91، نقلاً عن كتاب (الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية) لأبي الثناء الآلوسي ص133.

[31] - عبقرية الشريف الرضي ص 224.

[32] - خطب نهج البلاغة، تحقيق الإمام الشيخ محمد عبده، دارالمعرفة، بيروت، 1/3-4.

[33] - مصادر نهج البلاغة وأسانيده، السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب،دار الأضواء، بيروت، ط2، 1985م، 1/102.

[34] - نفس المصدر السابق ص102-103.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس    أرشيف المجلة     الرئيسية