لما راح
الإسلام يقوى بثلّة من الرجال الأشداء، أمثال حمزة وأبي
طالب، عمَيّ النبي (ص)، كان ذلك في بدء الدعوة.. "ولما رأت
قريش أن أصحاب رسول الله (ص) - الذين هاجروا إلى الحبشة -
قد نزلوا بلدًا أصابوا به أمنًا وقرارًا، وأن النجاشي قد
منع من لجأ إليه منهم"، وحماهم، وأن جماعة من أنصار الأوس
والخزرج في يثرب قد فتنوا بالدين الجديد وراحوا يروجون له
في ظهرانيهم، وأن محمدًا (صلى الله عليه وآله) لم يتراجع
عن دعوته أبدًا ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله،
ثارت ثائرة قريش، فاجتمع الجحاجحة منها، وائتمروا بينهم
"أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب،
على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا،
ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة علّقوها في جوف
الكعبة توكيدًا على أنفسهم"([1]).
فعلوا هذا
كيدًا للإسلام، وتكذيبًا للنبي(صلى الله عليه وآله)،
وتضييقًا عليه وعلى من صدّق دعوته من عشيرته الأقربين،
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثًا، فيما النبي ورهطه من بني
هاشم وبني المطلب بالشِّعب المسمى بشعب أبي طالب، يتعرّضون
لشتى أنواع القهر والعسف والأذى، ما يردّ عنهم ذلك ولا
يخفّف منه سوى أبي طالب عمّ النبي الذي كان له عضدًا
وناصرًا وحرزًا، إذ كنت تراه يصول ويجول بين الصفين ذودًا
عن النبي متهدّدًا، متوعدًا أئمة الكفر حينًا، منبّهًا
ناصحًا حينًا آخر، مخاطبًا إياهم بالقول:
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى
فلسنا وربّ البيت نسلم أحمدًا
ولسنا نملّ الحرب حتى تملنا
|
|
ويصبحَ من لم يجنِ ذنبًا كذي الذنب
لعرّاء من عضّ الزمان ولا كرب
ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب([2])
|
أما كاتب
الصحيفة، وهو منصور بن عكرمة، فشلّت يده، وأما الصحيفة
فأرسل الله عليها الأرضة، فأكلت ما فيها إلا ما كان يدل
على اسم الله تعالى فلم تأكله الأرضة، آية من آياته
سبحانه، فلما علم النبي بذلك عن طريق جبرائيل، كلّف عمه
أبا طالب أن يخرج من الشعب فيأتي الحرم، فيعلم قريشًا بأمر
الصحيفة، فما ازدادوا إلا كفرًا وعنادًا، "قائلين له: إنما
تأتوننا بالسحر والبهتان"([3]).
وأما أبو
طالب، فاختاره الله إليه، كان ذلك قبل مهاجر النبي إلى
المدينة بثلاث سنين، ما دفع بقريش إلى أن تنال من رسول
الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، فخرج
عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، فما
زاده أهل الطائف إلا رهقًا، كان ذلك في سنة خمسين من مولده
الشريف([4])،
فالتجأ إلى الله بالدعاء قائلاً:
"اللهم إليك
أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم
الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى
بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ
غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك
الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة،
من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى
ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"([5]).
ثم إن النبي
(صلى الله عليه وآله) انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة،
فراح يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى
الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، فآمن بعضُهم، وكفر بعضهم
الآخر، وإن من الذين عرض عليهم الإسلام من القبائل، فأبوا،
بني كليب، وبني حنيفة، وبني عامر، وإن من الذين عرض عليهم
الدعوة إلى الإسلام فآمنوا وصدّقوا رهطًا من الخزرج، من
أهل المدينة، كانوا ستة أنفار، "فلما قَدِم هؤلاء إلى
قومهم، ذكروا لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
ودَعَوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبقَ دارٌ من دور
المدينة إلا وفيها ذكر من رسول الله، حتى إذا كان العام
المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، من الأوس
والخزرج، فلقوا النبي بالعقبة الأولى، فبايعوه على بيعة
النساء"([6])،
ثم كانت العقبة الثانية، وفيها بايع رسول الله ثلاثة
وسبعون رجلاً، وامرأتان، وكان النبي قبل بيعة العقبة لم
يؤذَن له في الحرب، ولم تُحلل له الدماء، ما أغرى قريشًا
بالمزيد من العصيان لأمر الله، والإصرار على اضطهاد الذين
اتبعوا النبي من المهاجرين، فساموهم عذابًا، ونفيًا لهم في
كل وجه، إلى أن أذن الله لنبيّه - وقد بايعته الأنصار على
النصرة له، وإيواء من اتّبعه من المسلمين - في الحرب، فأمر
أصحابه ومن كان معه بمكة بالخروج إلى المدينة، واللحوق
بإخوانهم من الأنصار، وكان سبقهم إليها أبو سلمة عبد الله
بن عبد الأسود المخزومي، ثم تبعه عامر بنُ ربيعة، ثم عبد
الله بن جحش الأسدي، وغيرهم من الرجال، أما النسوة فكان
فيهنّ "زينب بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجذامة بنت جندل،
وغيرهنّ...." ([7])
ثم تتابع
نزول المهاجرين على المدينة، بأمر من النبي، فرارًا من
عتوّ مشركي قريش وأحلافهم، نذكر منهم طلحة بن عبيد الله،
وصهيب بن سنان، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة،
وعبيدة بن الحارث، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف،
والزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، ومصعب بن عمير بن
هاشم، وأبا حذيفة بن عتبة، وسالمًا مولاه، وغيرهم، ولم
يبقَ مع النبي في مكة سوى أبي بكر بن أبي قحافة، وعلي بن
أبي طالب، منتظرًا الإذن بالهجرة واللحاق بمن سبق([8]).
تفرّق
المهاجرون، أوائلهم وأواخرهم، وبأمر من النبي (صلى الله
عليه وآله) في الأمصار، وتلقّفتهم بعض القبائل، لكنّ
معقلهم الأساس كان يَثْرب حيث لقوا من الأوس والخزرج خاصة
كل ترحاب، الأمر الذي أغاظ مشركي مكة وأئمة الكفر من قريش،
فتداعى هؤلاء إلى التشاور فيما بينهم، حذَرَ خروج النبي من
مكة، فاجتمعوا في دار الندوة المحاذية للكعبة، وهي الدار
التي كانت لقصي بن كلاب، وإن فيهم عتبة، وشيبة، وأبا
سفيان، والنضر بن الحارث، وأبا جهل بن هشام بن الحارث،
وأمية بن خلف، وأبا البختري بن هشام، وربيعة بن الأسود،
وحكيم بن حزام بن خويلد، فاقترح بعضهم أن يحبسوا النبي في
الحديد، ويغلقوا عليه الباب، فيصيبه ما أصاب الشعراء من
قبله من الهلاك، فسفّه هذا الرأي إبليس الذي حضر ندوتهم
بصورة شيخ نجديّ، فاقترح بعضهم الآخر أن ينفوا النبي من
أرضهم، فاعترض إبليس قائلاً: لو فعلتم ذلك لحلّ على حيّ من
أحياء العرب، فيغلب عليهم بحلاوة منطقه، وحسن حديثه، ثم
يسير بهم إليكم، حتى يطأكم، ويأخذ أمركم من أيديكم([9]).
لا هذا ولا
ذاك، فما الحلّ إذًا، وكيف التخلّص من هذا المسمى محمدًا
(صلى الله عليه وآله)، الذي جاء يسفّه آلهة قريش، مزريًا
عليها عبادتها للأصنام والأوثان؟
الحلّ، تجده
عند كبير عتاة قريش، وأحد ألدّ أعداء النبي (صلى الله عليه
وآله)، تجده عند أبي جهل الذي اقترح على مشيخة قريش أن
يأخذوا من كل قبيلة فتى نسيبًا، ثم يُعطوه سيفًا، ثم يقوم
هؤلاء جميعًا بضرب محمدٍ (صلى الله عليه وآله) ضربة رجل
واحد، فيقتلوه، فإن هم فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل
وبطون قريش، فيعجز بنو هاشم عن حرب هذه البطون مجتمعةً، أو
يرضون بالدية، أو العقل، رأيٌ مصيب من وجهة نظر هؤلاء
المستكبرين، لكنه من الخطورة والفظاعة والهول، ومن المكر
الذي ما إنه لتزول منه الجبال، على جانب كبير.. رأي
استحسنته مشيخة قريش، واستحسنه الرجل النجدي، عدوّ الله
الذي هو إبليس، فقال: "القول ما قال الرجل، هذا الرأي"([10]).
أجل، هذا هو
الرأي، ويا للخبث والمكيدة، والمؤامرة...! رأي يتمثّل
بتصفية محمدٍ (صلى الله عليه وآله) تصفية جسدية، تنوشه
السيوف، سيوف غدر قبائل العرب وبطون قريش دفعة واحدة،
فيذهب دمه هدرًا، أو يتفرّق في سائر العرب، وإذ ذاك يُلفي
بنو عبد مناف الذين منهم هاشم، فعبد المطلب، فعبد الله،
يُلفون أنفسهم قاصرين عن إدراك الثأر، عاجزين عن الانتقام،
أو هم يرضون بالدية، فيخلو لِكُبّار قريش وجهُ آلهتهم التي
كانوا يعبدون..
لو قدّر
لهذا الأمر الذي ما قدّره الله، وحاشى لله، لو قُدّر ذلك،
والإسلام في مهده، والرسالة لمّا تكتملْ، والوحي لمّا
ينقطع، لما كان ثمّة إسلام، ولا رسالة، ولكان ارتدّ كثير
ممن آمن بالنبي من المهاجرين الأوائل، ومن الذين نصروا هذا
الدين، وتاليًا لما كان تحقّق حلم البشرية في دولة الإسلام
التي هي خاتمة الدول، مبشرًا بها الله سبحانه أنبياءه من
قبل، وعباده الذين يرثون الأرض، من الصالحين..
لو قدّر
ذلك، ومعاذ الله، فأيّ معنى لشريعة ناقصة لم تستوفِ
غايتها، وأي معنى لكتاب سماوي لم تكتمل فصوله وآياته؟
ماذا؟ المؤامرة كبيرة، ومشركو هذه البلدة الظالمِ أهلُها
مصرّون على تصفية محمد (صلى الله عليه وآله)، وعلى التخلص
منه بأي ثمن من الأثمان.
أوقات عسيرة
حرجة، ما كان أشد وطأتها على المؤمنين وعلى رسوله، الذي ما
كان الله ليذره هدفًا سهل المنال لكيد الكائدين، ومكر
الماكرين، فها هو جبرائيل يأتي النبي، بأمرٍ من الله
سبحانه، فيأمره بالخروج سرًّا من مكة إلى المدينة، وبعدم
المبيت في فراشه تلك الليلة، أسرّ النبي (صلى الله عليه
وآله) بالخبر إلى ابن عمّه عليّ، ويا لسرور علي لمّا كلّفه
النبي بالمبيت على فراشه من حيث لا تعلم قريش أن عليًا هو
البائت على الفراش، بل هو محمد (صلى الله عليه وآله) بشخصه
ولحمه ودمه، تمامًا على حاله التي كان يكون عليها من
قبل...
وكدأب علي
في كل موقف من مواقفه، فإنه لم يتردّد، ولم يختلج، ولم
يتهيّب، بل صدَع بما أمره الحبيب محمد (صلى الله عليه
وآله)، فنام تلك الليلة على فراش الحبيب، متّشحًا ببُرده
الأخضر، غير وَجِلٍ ولا عابئٍ بالخطر المحدق به، وبالسيوف
المشرعة التي سوف تهوي عليه، لا محالة، تحملها زنودٌ من
فتية بطون العرب من قريش، ويا للخطب!
بات عليٌّ
على فراش النبي، ولم يساوره شكٌّ في أنه إن قُتل تلك
الليلة، فإن في ذلك نجاة رسول الله من سيوف المشركين، وهذا
هو المهم في نظر علي، أن يَسْلَم رسول الله، وأن تظهر كلمة
الله، ولسان حاله يردد:
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد ** نبي الهدى
المحمودِ طفلاً ويافعا([11])
|
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص350.
[3]
- انظر: الكامل لابن الأثير، ج1 ص606.
[4]
- التنبيه والإشراف للمسعودي، ص200.
[5]
- انظر: السيرة لابن هشام: 1/420
[6]
- انظر: السيرة النبوية:
2/293.
[8]
- انظر: السيرة النبوية: 1/480.
[11]
- هذا البيت من جملة أبيات قالها الإمام علي عليه
السلام مجيبًا والده أبا طالب عليه السلام حين طلب
منه أن يبيت في فراش النبي (صلى الله عليه وآله)،
راجع مناقب أهل البيت عليهم السلام للمولى حيدر
الشيرواني ص61، تحقيق محمد الحسون، طبعة سنة
1414هـ، مطبعة المنشورات الإسلامية؛ وشرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد: 14/64.
|