تعتبر
الزيارة الجامعة الكبيرة إحدى أهم الزيارات التي رويت لنا
عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتمثّل هذه الزيارة
العظيمة خلاصة عقائد مذهب أهل البيت (عليهم السلام)،
وتُبرز المقامات الحقّة للأئمة المظلومين، وتبين منزلتهم
العظيمة عند الله.
فقد اشتملت الزيارة الجامعة
على عبارات عظيمة شريفة، هي فوق كلام سائر المخلوقين، ودون
كلام الخالق، لا يستوعبها عقلٌ بتمام كنهها.
هذا.. وقد أمرنا أهل البيت
(عليهم السلام) بعدم رد أي حديث أو رواية أو إنكارها حين
لا نستطيع فهمها، وأن علينا أن نردّها لأهل الذكر وأولي
الأمر وعيبة علم الله..
ولكن رغم ذلك، نرى بعض الذين
يُتحفظ على آرائهم الاعتقادية، من الذين لم يستطيعوا
استيعاب عُمق مضامين هذه الزيارة العظيمة، يحاولون ردّها
وإنكارها بشتى الطرق، فمرة قالوا: إن سندها ضعيف !
وأخرى:
إنها من أخبار الآحاد !
وثالثة:
إن مضامينها تخالف القرآن الكريم!
وقد جاءت هذه المقالة -التي
هي جزء من كتاب مُعدّ للنشر- ردًا على بعض هذه المقولات
التي أثيرت حول خصوص سند هذه الزيارة، من جهة أن في سلسلة
سندها موسى بن عمران النخعي، الذي لم يوثّقه علماء الرجال.
وقبل التعرّض لرأينا في
الراوي المذكور ينبغي تقديم أمرين:
الأمر الأول:
إن علوّ مضامين الزيارة وجزالة ألفاظها يدلاّن على أنها في
مصافّ أعالي متون الزيارات الصادرة منهم (عليهم السلام)،
وهي بذلك لا تحتاج إلى سند لتصحيحها، بل قوّة متنها دالة
على انتسابها إلى أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وقد ذكر
ذلك الكثير من العلماء كما سيأتي التعرّض لشهاداتهم في
مظانّها فانتظر.
الأمر
الثاني:
حول التقليد والاجتهاد في علم الرجال.
نحن وإن كنا نحترم جهود
علماء الرجال السابقين، ونقدّر تضحياتهم المبذولة في سبيل
تنقيح أسانيد هذا التراث الروائي الضخم الذي وصلنا عن آل
محمد (عليهم السلام)، إلا أننا نعتبر أن توثيق أو تضعيف
الرواة استنادًا إلى روّاد علم الرجال تقليدٌ وليس
اجتهادًا، وإذا أراد الإنسان أن يبني عقيدته وتراثه على
التحقيق والاجتهاد فلا مناص له من البحث والسبر عن منشأ
التوثيق والتضعيف، ليصل إلى العمل بالرواية أو تركها عن
اجتهاد في أحوال الرواة لا عن تقليد للسابقين، وهذا أمر
بالغ الخطورة، لأننا حين نأخذ بتوثيق المتقدمين وتضعيفاتهم
أخذ المسلمات، فإننا في الحقيقة نصادر التراث ونجعل عليه
أوصياء لم يجعلهم الدين، لأن الجرح والتعديل يقوّض أو يبسط
في التراث الروائي المنسوب للنبي والأئمة (صلوات الله
عليهم أجمعين)، فنحن من ناحية لا نستخفّ بأقوال الرجاليين
بحيث نغضّ الطرف عن آرائهم في الرواة دون أن نعطي أية قيمة
علمية لجرحهم وتعديلهم، ولكننا من ناحية أخرى لا نقلّدهم
في جرحهم وتعديلهم، بل نعتبر كلامهم في أحوال الرواة مجرد
معطيات ومؤشرات، نظير البحث التاريخي - وعلم الرجال اشتق
من علم التاريخ - فالباحث التاريخي لا يقف عند أقوال
المعاصرين حول شخصية تاريخية أو حدث معين، فضلاً عن غير
المعاصرين، بل يبحث وينقّب في زوايا التاريخ ومواقفه
ليستخلص رأيًا علميًا مدعومًا بالأدلة حول حوادثه ورجاله.
فيجب أن لا نتعامل مع أقوال
الرجاليين وكأنها وحي منزل، خصوصًا فيما يتعلق بالجرح
والطعن، لأن جملة من التضعيفات - سيما عند العامة -، ناشئة
من مبنى اعتقادي معين - كما هو واضح للخبير المتمرّس في
علم الرجال - كأن لا يتفق الراوي معه في العقيدة المعيّنة،
فيسارع إلى تكذيبه وإلى الطعن فيه وجرحه والنيل منه
والوقيعة فيه بكل ما أمكن، وقد صرّح بذلك الكثيرون من
علماء الدراية والرجال.
ومن نماذج التحقيق في علم
الرجال عند علمائنا، نذكر الوحيد البهبهاني الذي يعتبر
المجدّد في الحوزات العلمية في القرن الثاني عشر، فإنه لم
يأخذ بنصوص علماء الرجال من أتباع أهل البيت (عليهم
السلام)، سواء من جانب الجرح أو من جانب التعديل، بل درس
كلا الأمرين بإمعان وتدبّر، ملاحظًا منشأ كل منهما، وفي
المقابل نجد من الرجاليين من يكون مجتهدًا في تمييز
المفردات الرجالية عن المشتركات، وتمييز طبقة الراوي،
وتمييز مشايخه وتلامذته، وتمييز الكتب، لكنه ما إن يصل إلى
حال الراوي جرحًا أو تعديلاً حتى نراه مقلدًا في ذلك، وهذه
الظاهرة نلاحظها عند العامة بصورة آكد وأشد.
والخلاصة: أن التقليد في علم
الرجال يعني جعل الوصاية على التراث الديني لثلّة قليلة،
وهو أمر خطير لأنه يفضي إلى سدّ باب الاجتهاد والتحقيق
والتدقيق في علم الرجال.
سند الزيارة ووثاقة الراوي موسى بن عمران
قدّمنا القول بضعف سندها
بموسى بن عمران النخعي، ونحن نرى عدم صحة هذا الاعتراض، بل
على العكس من ذلك لدينا قرائن عدّة تدل على وثاقته وجلالة
قدره، نذكرها تباعًا:
موسى الراوي لأغلب روايات عمه النوفلي
أن عمه هو الحسين بن يزيد
النوفلي، والنوفلي وثقه الشيخ الطوسي في العدة والسيد
الخوئي وجماعة كثر غيرهما، لقول الشيخ الطوسي في العدة:
[عملت الطائفة
بروايات السكوني]([1])،
والراوي لأغلب روايات السكوني هو الحسين بن يزيد النوفلي،
فيقتضي ذلك توثيق الطائفة له، مضافًا لتعبير النجاشي بأن
الحسين بن يزيد النوفلي:
[نوفل النخع]([2])
أي وجيه قبيلة النخع، والموجه فيهم، أو الذي يذكر بالجميل
والحسن. وقبيلة النخع من القبائل الشيعية الكبيرة في
الكوفة، فمع هذا الوصف تظهر مكانة موسى بن عمران النخعي،
حيث أن عمه هو النوفلي، بل وأستاذه، فقد روى عن عمه أكثر
من مائتي رواية، مما يُظهر تتلمذه عليه، واختصاصه به.
فضلاً عن روايته عن غيره فهو كثير الرواية في كتب الأصحاب
المعتمدة.
روايات النوفلي جلّها في المعارف
مضافًا إلى أن متون الروايات
التي يرويها عن عمّه جلّها في المعارف، وهي صحيحة المضمون،
مستقيمة المعنى، وفق أصول وقواعد معارف المذهب عند
المتأخرين، بل إن جملة منها مما يدل على رِفعة مقامه وطول
باعه في المعارف وتضلّعه فيها، مما يشفّ عن كونه من فرسان
الميدان، وأوتاد الرواة، وحَمَلة هذه الأسرار، وسنذكر
بعضها فقط، ونحيل القارئ إلى مصادر بعضها الآخر ليكتشف ذلك
بنفسه.
( 1 )
روى محمد بن أبي عبد الله الأسدي الكوفي، عن موسى بن
عمران، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن الحسن بن علي بن
أبي حمزة، حديث (تفسير
قوله تعالى:
{وَجَعَلَهَا
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
-الزخرف:28-
بالإمامة، جعلها الله عز وجل في عقب الحسين (عليه السلام)
باقية إلى يوم القيامة).([3])
( 2 )
حدثنا علي بن أحمد بن موسى (رحمه الله) قال: حدثنا محمد بن
أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن
عمه الحسين بن يزيد، عن علي بن أبي حمزة عن يحيى بن أبي
القاسم قال:
(سألت
الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن قول الله عز وجل
{ألم
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} -البقرة، الآية 2و3-
فقال: المتقون شيعة علي (عليه السلام) والغيب فهو الحجة
الغائب. وشاهد ذلك قول الله عز وجل:
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}
-يونس:20-
فأخبر عز وجل أن الآية هي الغيب، والغيب هو الحجة، وتصديق
ذلك قول الله عز وجل:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً} -المؤمنون:50-
يعني حجة)([4]).
( 3) حدثنا الشيخ الفقيه أبو
جعفر (رحمه الله) قال حدثنا محمد بن أحمد السناني قال
حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن موسى بن عمران
النخعي عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي عن علي بن سالم عن
أبيه عن ثابت بن دينار قال:
(سألت زين
العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟
فقال: تعالى
الله عن ذلك.
قلت: فلِمَ
أسرى بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) إلى السماء؟
قال: ليريه
ملكوت السماء وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.
قلت فقول
الله عز وجل
{ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى}.
قال: ذاك
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، دنا من حجب النور فرأى
ملكوت السماوات ثم تدلى (صلى الله عليه وآله)، فنظر من
تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب
قوسين أو أدنى).([5])
( 4 )
حدثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن
موسى ابن بابويه القمي (رضي الله عنه)، قال: حدثنا علي بن
أحمد بن موسى الدقاق (رضي الله عنه)، قال: حدثنا محمد بن
أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن
عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن أبي حمزة، عن يحيى
بن أبي إسحاق، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده،
عن أبيه (عليهم السلام)، قال:
(سئل النبي
(صلى الله عليه وآله): أين كنت وآدم في الجنة؟
قال: كنت في
صلبه، وهبط بي إلى الأرض في صلبه، وركبت السفينة في صلب
أبي نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق لي
أبوان على سفاح قط، ولم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب
الطيبة إلى الأرحام الطاهرة هاديًا مهديًا حتى أخذ الله
بالنبوة عهدي، وبالإسلام ميثاقي، وبيَّن كل شيء من صفتي،
وأثبت في التوراة والإنجيل ذكري، ورقى بي إلى سمائه، وشق
لي اسمًا من أسمائه الحسنى، أمتي الحمادون، فذو العرش
محمود وأنا محمد)([6]).
( 5 )
حدثنا علي بن أحمد بن محمد رضي الله عنه قال: حدثنا محمد
بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي،
عن عمه الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن
أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): (لأي
علة دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار؟
قال: لأنها أوصت أن لا يصلي عليها الرجلان)([7]).
وغيرها من الروايات و هي
دالة على روايته غوامض المعارف و لُبابها([8]).
اعتماد الأعلام على رواياته
و قد اعتمد رواياته، - لا
سيما في المعارف - أعلام الطائفة كالكليني في الكافي،
والصدوق في "التوحيد وعيون أخبار الرضا"، وغيرهما، بل وقع
في مشيخة الصدوق في أكثر من ثمانين موردًا.
وقد روى
عن:
1 -
عمه الحسين بن يزيد النوفلي (ثقة).
2 -
إبراهيم بن الحكم بن ظهير.
3 -
الحسين بن سعيد الأهوازي (ثقة جليل).
4 -
صفوان بن مهران الجمال (ثقة).
وروى عنه:
1 -
محمد بن جعفر أبو عبد الله الكوفي الأسدي (ثقة)([9]).
2 - محمد بن يحيى العطار
(ثقة).
3 - محمد بن موسى بن المتوكل
(ثقة على الأصح).
4 -
علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق (ترضى عليه الصدوق).
5 -
علي بن عبد الله الوراق (ترضى عليه الصدوق).
6 -
محمد بن أحمد السناني (ثقة).
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه المقالة هي من ضمن مجموعة من المحاضرات ألقاها
سماحة آية الله المحقق الشيخ محمد سند في قم
المقدسة.
[1]-
عدة الأصول ج 1 ص 380.
[3]
- المعاني ص 131 ـ 132.
[4]-
كمال الدين وتمام النعمة ص 17.
[5]-
علل الشرائع ج 1 ص 131 ـ 132، أمالي الصدوق ص 214.
[7]-
علل الشرائع ج 1 ص 185.
[8]-
راجع: التوحيد ص 164؛ كمال الدين
وتمام النعمة ص17- 257 - 258 -259 ؛ أمالي
الصدوق ص 561 - 755 -768 - 375 - 560 -731 ؛
المعاني ص 131 - 132 ؛ من لا يحضره
الفقيه ج 4 ص 179؛ البحار ج39 ص302.
[9]-
قال الشيخ (ره) في الغيبة ص 415: "وقد كان في زمان
السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات
من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل. منهم أبو
الحسين محمد بن جعفر الأسدي(ره)".
|