وفي هذا المجال وأتمنى أن لا يكون استطرادًا مملاً وخروجًا
عن الموضوع أدلف إلى موضوع الملكية الفكرية التي تعدّ
بحقٍّ من الأفكار التي طرقت العقل البشري في القرون
الأخيرة وهي بلا شك مُنجَز غربي بامتياز على الأقل على
مستوى التقنين والتنظير لها. وخلاصة القول في هذه القضية
أن العقل الإنساني اهتدى إلى أن من يبذل شيئًا من وقته
لابتكار عمل أو تأليف كتاب ثم ينشره، فهل يحق لأحد استنساخ
هذا الإنجاز وتقليده والاتجار به دون إجازة صاحب الإنجاز
نفسه أو من الشركة والمؤسسة التي ترعى هذا الإنجاز
وتسوّقه؟
ولا يخفى أن هذا البحث ليس ترفًا فكريًا بقدر ما هو مسألة
حياة أو موت في كثير من الأحيان؛ لأن المواد الفكرية
المملوكة تبدأ من تركيبة الشراب الغازي وتنتهي إلى الأدوية
التي تتوقف عليها حياة الناس، وكذلك تبدأ في دائرة أخرى من
قلم الرصاص لتنتهي عند أعقد برامج الكومبيوتر التي تتوقف
عليها أهم المصانع ودورات الإنتاج في العالم. وقد بنى
الفكر القانوني المعاصر على حصر الملكية الفكرية بصاحب
الاختراع ومن يمثّله ولم يسمح لأحد بالاستفادة من هذا تحت
قوانين حماية الملكية الفكرية. ولا شك أننا كلنا رأينا هذا
الرمز موجودًا على الكثير من المنتجات التي نستهلكها
ونستفيد منها وهو:
c
الذي هو اختصار لعبارة
copy right
أي "الحقوق محفوظة"، وقد بدأت الأصوات تعلو
بالاحتجاج على هذه القوانين وشُكِّلت حركات وجمعيات
لمناهضة هذا الحق، ومنها الحركة التي تستخدم عبارة
copy left
في تهكم على العبارة السابقة حيث حوروا معنى كلمة (right)
إلى يمين بدل الحق واستخدموا عبارة يسار بديلاً عنها.
ويعتبر هؤلاء وغيرهم أن حصرية حقوق الملكية احتكار للعلم
والمعرفة في الحالات العادية واعتداء على الإنسانية في
حالات أخرى، وبخاصة عندما يتعلق الأمر باحتكار ملكية
الأدوية المخصّصة لعلاج الأمراض القاتلة كالإيدز ونحوه، أو
يتعلق ببعض الأمور الضرورية لخروج أمة من الأمم من مستنقع
التخلّف لتلحق بركب التقدم فيحول بينها وبين ذلك عدم
قدرتها على تجاوز هوة حقوق الملكية الفكرية لأدوات التقدم
المحتكرة من قِبل الشركات عابرة القارات.
ولفقهاء المسلمين من هذه القضية موقفان: موقف يرفض بالمطلق
فكرة حقوق الملكية الفكرية، وموقف يؤمن بهذا الحق. ولا
أريد في هذه المقالة حسم الموقف في هذه المسألة واختيار
أحد الرأيين والدفاع عنه، بل ما أرمي إليه هو الإشارة إلى
أن كل موقف له مبرراته الاجتماعية والفقهية، فالأول يترتب
عليه زهد بعض المبدعين عن الإبداع عندما يرون أن سهر
لياليهم يذهب هدرًا على مذبح الاستنساخ والسرقة الأدبية،
والموقف الآخر له آثاره التي أشرنا إليها أعلاه وهو أن هذه
الحقوق تشجّع على الإبداع ولكنها في الوقت عينه تتحول إلى
نقمة تحصر الإبداع بل وتقتل الإنسان لمصلحة جشع الشركات
التي تشتري حقوق المبدعين وتحافظ عليها لمصلحتها هي. وأود
الختام بسؤال، هو: هل يمكن أن نستنبط من تحريم احتكار فضل
الماء والكلأ تحريمًا احتكار الملكية الفكرية؟
وبعد هذه المحاولة لتحديد موقف الإسلام من التنمية
الإنسانية قد يصبح مشروعًا ومبررًا طرح هذا السؤال الذي
سنجيب عليه, وهو:
لماذا نرى واقع المسلمين وأحوالهم مختلفة عما ينبغي أن
تكون عليه؟ ولماذا انتشرت نزعة الزهد السلبي بين المسلمين
لفترة طويلة ما زلنا نئن تحت وطأتها؟ ولماذا ترك المسلمون
بناء دنياهم واشتغلوا بدل ذلك ببناء آخرتهم وتركوا الدنيا
لغيرهم؟
ويمكن أن نطرح الإشكال بعبارة أخرى وهي: لا يشك المتتبع
لتاريخ الأمة الإسلامية أن الإسلام حقّق نقلة مهمة يمكن
القول إنها طفرة حضارية، فشتان بين وضع الشعوب الإسلامية
قبل اعتناقها للإسلام وبين وضعها بعده. فقد بنى المسلمون
حضارة كانت في وقتها بقعة الضوء الوحيدة في العالم في
مقابل أمم كانت غارقة في الظلام، وكان المسلمون مصدر
الإشعاع العلمي والفكري الأول، ولكن ما حصل بعد ذلك قد
يوحي بأن هذه الطفرة لم تكن منسجمة مع البنى الأساسية
للدين الإسلامي، وبالتالي كان من الطبيعي أن يعود الوضع
إلى حالته الأكثر انسجامًا وهي الوضع الحالي للمسلمين
اليوم؟!
وفي مقام الإجابة نقول: إن هذه الصورة غير صحيحة.
ولتوضيح الصورة الصحيحة المعاكسة لا بد من العودة إلى دور
الدين الإسلامي في عملية التنمية وإلى وميزاته في هذا
المجال التي يمكن أن تضاف إلى ما ذكر سابقًا فنقول: إن
عملية التنمية لها منطلقاتها ومجالاتها، ولها أدواتها
ووسائلها، ولها أهدافها وغاياتها، وفي كل من هذه الموارد
كان للدين الإسلامي موقف إيجابي يمثّل دافعًا للإنسان نحو
الأمام، وسوف نحاول الوقوف قليلاً عند كل واحدة من هذه
الأفكار.
المنطلقات القرآنية للتنمية:
تحتاج عملية التنمية إلى منطلق وميدان أو مجال ليكون
مسرحًا لنشاطاتها، وهذا ما أشار إليه القرآن, حيث نجد أن
فكرة التنمية تنطلق من واقع الإيمان بقدرة الإنسان على
تطوير ذاته والرقي بها نحو الأفضل وهذا ما تؤكّده آيات عدة
في القرآن منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ
اللّهَ
لاَ
يُغَيِّرُ
مَا
بِقَوْمٍ
حَتَّى
يُغَيِّرُواْ
مَا
بِأَنْفُسِهِمْ﴾([1])
حيث تتحدث هذه الآية عن قانون وتُبيّن سنّة من سنن التاريخ
وتجعل فعل الله مشروطًا بإرادة العبد للتغيير، ومن المعلوم
أن أي قضية شرطية لا يتحقق جزاؤها ما لم يتحقق شرطها،
والشرط هو إرادة التغيير، وهذا يعني أن الله يخبرنا بطريق
غير مباشر بأن التغيير أمر متاح وممكن؛ ولذلك ليس من حق
المرء أن يلقي بتبعات تخلّفه على الظروف والأوضاع المحيطة
به ما دام قادرًا على الإطاحة بما لا يتلاءم وإنسانيَّتَه،
يقول الله تعالى في الرد على اعتذار مثل هؤلاء الناس: {إِنَّ
الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ
قَالُواْ
فِيمَ
كُنتُمْ
قَالُواْ
كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ
فِي
الأَرْضِ قَالْواْ
أَلَمْ
تَكُنْ
أَرْضُ
اللّهِ
وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُواْ
فِيهَا
فَأُوْلَـئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءتْ
مَصِيرًا}([2])
وإلى المعنى نفسه -أي إمكانية التنمية والتطور- يشير
الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع): "من استوى يوماه
فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان
آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو
إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة."([3])
هذا حول المنطلق وهو إيمان المرء بقدرته على النمو والتطور
وهذا ما عبر عنه بأسلوب رائع الشاعر الهندي المسلم محمد
إقبال في ديوانه "أسرار خودي" أو أسرار الذاتية.
فإنه بعد تأمل عميق في حالة المسلمين في الهند في فترة
الاستعمار البريطاني وجد أن مشكلة المسلمين وسبب تخلّفهم
هو عدم إحساسهم بذواتهم وهي حالة الغربة عن الذات وفقدان
الهوية ويسمّيه اللاذاتية. ولذلك يسعى في ديوانه الآخر
رموز اللاذاتية، إلى معالجة هذا الداء كما يسعى في ديوانه
الأول إلى نشر الإيمان بالذات بين مخاطَبيه ليكون هذا
الإيمان منطلقًا للتغيير. وأحسب أن المسلمين بل الشرق
عمومًا ما زال يئن تحت وطأة أعراض هذا الداء الذي لا سبيل
إلى رفعه والبرء منه إلا باستئصال أسبابه, وإلا فإن الآلاف
من تقارير التنمية حتى لو خلصت نيات مدونيها لن تكون إلا
ضربًا في حديد بارد.
يقول محمد إقبال:
كن قطرة ماء واعية للذات فتصبح درا تحرسها الأصداف
لا جبلاً يستسلم للبحر فيغتال البحر بمدّ الموج جذوره([4])
وأما عن مجالات التنمية، فإنني أجزم بأن الدين الإسلامي
يدعو إلى التنمية والتطوير في المجالين الدنيوي والأخروي،
والمادي والروحي، والواقع أصدق إنباء من الكتب والأقوال،
فإن نظرة إلى ما حقّقه الإسلام في ما لا يتجاوز القرون
الثلاثة من الزمن تكفي للإيمان باحترام هذا الدين للدنيا
والنظر إليها كمجال من مجالات التكامل أو التنمية. وما
أروع التعبير القرآني عن هذا التكامل الثنائي عندما يقول:
{وَابْتَغِ
فِيمَا
آتَاكَ
اللَّهُ
الدَّارَ
الْآخِرَةَ
وَلَا
تَنسَ نَصِيبَكَ
مِنَ
الدُّنْيَا}([5])
وكذلك قوله تعالى: {هُوَ
أَنشَأَكُم
مِّنَ
الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا}([6])
وهو ما يعبّر عنه النبوي المشهور: "إن قامت الساعة وفي
يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى
يغرسها فليغرسها"([7]).
هذا وميزة الدين في هذا المجال أنه يُضفي معنى على الأشياء
فلا تعود أشياءًا بل تلبس صورًا جديدة، فلا يبقى المال أو
غيره مما سخّره الله تعالى للإنسانية مالاً بل يصبح نعمة
ومحلاً لخلافة الله: {أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}
وبناء عليه فقد وضع الإسلام قيودًا وضوابط تحكم السعي
والكسب والتنمية لكي لا يطغى بعدٌ من أبعاد شخصية الإنسان
على غيره. ولو أخذنا التجارة مثالاً فنجد أن الإسلام جعل
التجارة من أسباب الكسب المحبوبة عند الله وحثّ عليها وكره
العمل بالأجرة وعللّ في بعض الأخبار بأنه تحديد للرزق، ومع
كراهته لتحديد الرزق نجده وضع قيودًا ولجم جماح الإنسان
نحو طلب المزيد، ولا أود التوسع في هذا المجال ولكن لا بد
من إشارة ليتضح ما أرمي إليه فبالرجوع إلى ما قرره فقهاء
المسلمين في آداب الكسب نجد أنهم يذكرون: استحباب التسوية
بين الناس في السعر، والربح بمقدار الحاجة، وأن يكون المرء
آخر الداخلين إلى السوق وأول الخارجين منه وما شابه ذلك من
الأحكام التي تهدف إلى التخفيف من سَورة الحرص والكسر من
حدة الطمع. وإذا ضممنا إلى هذه الآداب ما ورد من توصيات
أخلاقية في ذمّ الدنيا والنهي عن الإيغال فيها، يتولد سؤال
يستجدي جوابًا وهو أنه لو كانت التنمية في ساحة الدنيا
أمرًا مطلوبًا للدين فما الداعي إلى تشديد النكير على
الدنيا والراغبين بها في النصوص الإسلامية؟ ألم يوجد بين
المسلمين من آثر الاستسلام للقضاء والقدر؟ ألا يوجد بين
المسلمين من يرى أن ادخار درهم سوء ظن بالله؟ وألم يبدع
ذلك الشاعر عندما دعا إلى السكون القريب من الموت حيث قال:
إن في بيت الزجاج لطائف محيرة فلا تطرف عينك فتخدش روعة
المنظر
وألم يدعُ الآخر إلى أن يملك المرء عين المرآة وفم الصورة
كي لا ينبس ولا يرفّ له جفن ويقبل ما يعرض عليه؟
نعم كل هذا صحيح، ولا أرغب في تأويل أحلام الشعراء
وأمانيهم كي لا أفسد سرّ جمالها، وأما حول النصوص الدينية
فلا بد من محاولة فهم مؤدياتها؛ لأنها وردت للعمل وليست
أماني شاعر ولا تهويمات صوفي حالم، وللوصول إلى فهم هذه
النصوص يكفي ما أشرنا إليه أعلاه حول موقف الإسلام من
تنمية الدنيا، ولكن أسأل أيضًا ألا توحي تسمية الله تعالى
للصدقة التي تنقص المال بالزكاة، ألا توحي هذه التسمية
بمباركة خفية للرغبة في زيادة المال ونموه واعترافًا
بمشروعية هذه الرغبة الإنسانية؟ ولكن لما ضمن الله تعالى
الرغبة في الزيادة بزرع ميل فطري نحوها ليحب الإنسان المال
حبًا جمًا على حد تعبير الآية، ترك كوابح هذا الجموح
للتشريع. فلا يحتاج من زرعت فيه الرغبة بالمال إلى إصرار
كبير لطلب المزيد بل يحتاج إلى حواجز تحول دون مغالاته
وإسرافه في طلب المزيد.
إذًا إن السؤال الذي ذكرناه قبل قليل مشروع وفي محله ولكن
لا يمكن تحميل الإسلام مسؤولية تخلّف المسلمين، بل ولا
يتحمل حتى الفهم الخاطئ للإسلام مسؤولية التخلّف أيضًا
لأننا لا بدَّ من أن نُدخل في الحسبان واقع الأمور وعدم
الاكتفاء بما كتب من نظريات في بطون الكتب مهما كانت قيمة
كتّابها ومؤلفيها، بل إنني أدعي -وهذا ما يحتاج إلى إثبات
ولكن أثيره كاحتمال فقط- أن هذا الفهم المتخلف للدين
والتعامل معه كمخدّر هو نتيجة الواقع السيّء وليس سببًا
له، فإن من يستريح إلى الزهد في أشكاله المتخلّفة أستبعد
أن يؤثر في واقع ولو بنحو سلبي. وأكرر أن هذا الأمر احتمال
يستحق الدراسة ولا ينبغي أن يغترّ الباحث باشتهار بعض
الأفكار فرُبَّ مشهور لا أصل له.
الأدوات والوسائل:
على القاعدة الفقهية المعروفة التي تقول إذا وجب الشيء
وجبت مقدماته نجد أن الله قد ضمن لضيفه المدعو إلى مائدة
التنمية والتكامل أدوات هذا التكامل ووسائله على المستويين
التشريعي والتكويني، فعلى المستوى التكويني كرّمه على غيره
ممن خلق بتسخير ما في الأرض له واستخلفه فيها ليستفيد منها
في رحلته نحو الأهداف السامية التي انتدبه للوصول إليها أو
تحقيقها، وأعطاه العقل الذي يسمح له بالاستفادة من هذه
القدرات فلا يكون كما يقول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
|
|
والماء فوق ظهورها محمول
|
فعن الكرامة الإنسانية يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا
بَنِي
آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُم فِي
الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُم
مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَى كَثِيرٍ
مِّمَّنْ
خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً}([8])
وليس أدلّ على الكرامة الإنسانية من أمر الله الملائكة
بالسجود لهذا الإنسان: {وَإِذْ
قُلْنَا
لِلْمَلاَئِكَةِ
اسْجُدُواْ لآدَمَ
فَسَجَدُواْ
إِلاَّ
إِبْلِيسَ
أَبَى
وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ
مِنَ
الْكَافِرِينَ}([9])
ومن البديهي أن هذه الكرامة الإنسانية تدعو إلى جعل
الإنسان معيارًا للحكم على أي محاولة تنموية أو للحكم لها.
وعن موقع العلم والقدرة على الفهم التي سَمَت بالإنسان
-وربما هي التي كانت السبب في استخلافه في الأرض، حيث إن
الخلافة تحتاج إلى الفهم وحسن الإدارة، وهي التي ربما كانت
الداعي إلى إسجاد الملائكة له، عندما كانت النقلة الأبرز
في عملية الخلق الإنساني، وهي تعليمه بعد إعطائه القدرة
التكوينية على اكتساب العلم- يقول تعالى: {وَعَلَّمَ
آدَمَ
الأَسْمَاء
كُلَّهَا
ثُمَّ
عَرَضَهُمْ
عَلَى
الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ
أَنبِئُونِي
بِأَسْمَاء
هَـؤُلاء
إِن
كُنتُمْ
صَادِقِينَ *
قَالُواْ سُبْحَانَكَ
لاَ
عِلْمَ
لَنَا
إِلاَّ
مَا
عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ
أَنتَ
الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ *
قَالَ
يَا
آدَمُ
أَنبِئْهُم
بِأَسْمَآئِهِمْ
فَلَمَّا
أَنبَأَهُمْ
بِأَسْمَآئِهِمْ
قَالَ أَلَمْ
أَقُل
لَّكُمْ
إِنِّي
أَعْلَمُ
غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ
وَأَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ
وَمَا
كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ}([10])
هذا ما أردت الإشارة إليه من أدوات ووسائل التكامل
والتنمية، ولا شك في وجود غيرها من الوسائل والآليات التي
يمكن العثور عليها بالرجوع إلى القرآن واستفتائه فيها،
وأكتفي بما ذكرت كي لا أطيل.
الأهداف والغايات:
بالمقارنة بين الدين وبين غيره من دعاة التنمية، يبرز
الفارق الكبير والهوّة التي لا يمكن ردمها بين الطرفين،
بحيث إن الدين يحمل الإنسان إلى آفاق رحبة لا يلامسها
غيره، فإنّ غير الدين مهما سَمَت غاياته ورحبت آفاقه لا
يتجاوز عالم المادة، ولا يؤمِّن بل لا يملك إمكانيات
التحريض على التكامل إلا في المدى المنظور بالعين من عالم
المادة. وأما الدين فهو تبعًا لاهتمامه بالبعد الأخلاقي
والغيبي من الإنسان يفتح له باب التكامل غير المحدود
ويدعوه إلى أن يتصف بصفات الله: "تخلّقوا بأخلاق الله"،
بينما عالم المادة مهما رحبت آفاقه ليس فيه مطلق ولكن في
الدين عندما ينفتح المتدين على المطلق فحتى الماديات
المحدودة تتحول إلى أدوات للارتباط بالمطلق والوصول إلى
مرحلة التخلّق بأخلاقه: {وَابْتَغِ
فِي مَا
آتَاكَ
اللَّهُ
الدَّارَ
الْآخِرَةَ}،
وفي السياق نفسه نجد أمير المؤمنين، رغم اشتهار ذمه للدنيا
وطلاقه لها ثلاثًا لا تسمح له بالعودة إليها، نجده يدافع
عن مطلقته البائنة، فتارة يحذر منها ويقول: "وأحذركم
الدنيا، فإنها منزل قلعة، وليست بدار نجعة. قد تزيّّنت
بغرورها وغرّت بزينتها. دارها هانت على ربها فخلط حلالها
بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرّها، لم
يصْفِها الله تعالى لأوليائه. ولم يضن بها على أعدائه.
خيرها زهيد، وشرها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يسلب وعامرها
يخرب."([11])
وهو القائل أيضًا: "أيها الناس، إنما أنتم في هذه
الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا مع كل جرعة شَرَق، وفي كل
أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى..."([12]).
مع هذا الموقف من الدنيا نجده تارة أخرى تأخذه الغيرة على
مطلقته فيقول لمن اتهمها ظلمًا: "إن الدنيا دار صدق لمن
صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها،
ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة
الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها
الرحمة وربحوا فيها الجنة"([13])،
وهذا كله انطلاقًا من نظرة الدين المتوازنة إلى الدنيا
والآخرة، وجعل الأولى سبيلاً إلى الأخرى.
استنتاجات:
بعد ما تقدم حول التنمية على ضوء القرآن أعود إلى الإنسان
المعاصر الذي هو مبدأ التنمية وموضوعها لألاحظ أنه أضاع
الطريق واستقل الحافلة الخطأ كما يقول المثل الإيراني أو
أُركِب فيها عن سابق إصرار وترصد، فقد صار الهدف أداة
وشيئًا في خدمة السيد الجديد المعولِم رأس المال الجشع،
وسُدّت أبواب التكامل على الإنسان حتى في ميدان العلم
أحيانًا بطريقة لبقة مؤدبة تحت عنوان حماية الملكية
الفكرية المجحفة التي تمنع الدول الفقيرة من إنتاج الأدوية
الحسّاسة بأسعار رخيصة, وأحيانًا تحت عناوين تنقصها
اللباقة وتتصف بدرجة عالية من الوقاحة، فربما أستطيع بعد
عناء وجهد كبيرين تفهُّم أن تُمنع دولة إسلامية من امتلاك
أسلحة نووية، ولكن يؤلمني إلى حد القهر أن يكون هذا المنع
تحت شعار احتمال امتلاك القدرة على إنتاج هذه الأسلحة،
وفرق كبير بين المنع من إنتاج السلاح النووي وبين المنع من
القدرة على إنتاجه. وهذا النمط من الأخطاء واحدة من
اشتباهات تقارير التنمية فإنها تتحدث عن كثير من أعراض مرض
التخلّف وتحاول تقديم علاجات لها، ولكنها تغفل أو تتغافل
عن أن معالجة الأعراض لا تنفع إن لم يستأصل المرض من
الأعماق.
انتهى المقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- سورة الرعد: الآية 11.
[2]
- سورة النساء: الآية 97.
[3]
- وسائل الشيعة إلى تحصيل
مسائل الشريعة، مصدر سابق، ج 16، ص 94.
[4]
- ترجمة بتصرف لبيتين من شعر محمد إقبال اللاهوري.
[5]-
سورة القصص: الآية 77.
[6]
- سورة هود: الآية 61.
[7]-
المحدث النوري، مستدرك وسائل الشيعة، ط 2، مؤسسة
آل البيت لإحياء التراث، قم، 1408 هـ، ج 13، ص
460.
[8]
- سورة الإسراء: الآية 70.
[9]
- سورة البقرة: الآية 34.
[10]
- سورة البقرة: الآيات 31، 32،
33.
[11]
- الإمام علي بن أبي طالب، نهج
البلاغة، الخطبة 113.
[12]
- المصدر نفسه، الخطبة 145.
تنتضل: أي تترامى
[13]
- المصدر نفسه، باب الحكم،
الحكمة 131.
|