العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

في ولاية علي (عليه السلام)

المرجع الديني الشيخ محمد تقي الفقيه(قدس سره)

كلمة الولاية من الكلمات الحاكية، التي احتلّت الصدارة في الدولة الإسلامية، وقد كان المسلمون في الصدر الأول يسمّون حاكم البلاد والياً، ويسمّون الحكّام ولاة، وكان الخليفة يعقد الولاية لمن يريد أن يوليه قطراً من الأقطار، فكان يحكم مصر والٍ واحد، ويحكم العراق والٍ واحد، وهكذا سائر الأمصار، فالولاية والإمرة كلمتان كأنهما مترادفتان في ذلك العصر، وكانت الولاية هي نقطة الانطلاق للخصومات المذهبية والنزاعات السياسية كما سنوضح ذلك عن قريب.

والظاهر أن المصدر الأول لكلمة الولاية الذي جعل لها هذه الأهمية في الإسلام هو الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}([1]).

أما ولاية الله سبحانه، فهي ولاية تكوينية، وبالطبع إن ولايته على التشريع من شؤون الولاية التكوينية، لأنه يتصرّف بما يريد كما يريد بلا منازع ولا معارض.

وأما ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) فهي جعلية، يعني أن الله سبحانه جعلها له وأعطاه إياها، ومعنى ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) هي إعطاؤه الصلاحيات الكاملة بالنسبة لأمور المسلمين، الدينية والزمنية، العامة والخاصة، كما هو مقتضى الإطلاق.

الولاية في الإسلام

ولا ريب أن ولاية الله سبحانه غير محدودة،وأما ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) فإنها محدودة، ولكن جمع ولايته مع ولاية الله سبحانه في الآية الكريمة تحت جامع واحد، مع اختلافهما في السنخ أو في السعة والضيق، إنما هو للدلالة على عظمة ولاية النبي (صلى الله عليه وآله)، وسعة صلاحياتها بالنسبة للتشريع والإدارة، وللإشارة أيضًا إلى أنها شأن من شؤون ولاية الله سبحانه.

وهذا النوع من الاستعمال والبيان كثير في القرآن الكريم، قال الله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}([2]). فإنه جمع بين سجود أنواع المخلوقات مع اختلافها في السنخ واختلاف كيفية سجودها.

وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}([3]). فإنه جمع بين تسبيح الملائكة والبشر، وبين تسبيح الجمادات والنباتات والحيوانات وسائر المخلوقات مع اختلاف نوع تسبيحها.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}([4]). هذا مع اختلاف نوعية الصلاة منه والصلاة من المؤمنين.

وقال تعالى : {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}([5]).

وقال تعالى : {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}([6]). هذا مع اختلاف نوع النصرة والولاية.

وأما ولاية الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، فقد أجمع الأثبات من المفسرين والرواة والمحدثين على أن المقصود بها ولاية علي عليه السلام.

وقد روى ذلك في مجمع البيان([7]) مسندًا عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه)، ثم قال: وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الإسناد بعينه.

وقال: وروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه، والرماني، والطبري، أنها نزلت في علي (عليه السلام) حين تصدّق بخاتمه وهو راكع.

وقال: وهو قول مُجاهد، والسدي.

وقال : والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، وجميع علماء أهل البيت (عليهم السلام).

وقال : وقال الكلبي.. وفي رواية عطا : قال عبد الله بن سلام يا رسول الله، أنا رأيت علياً تصدّق بخاتمه وهو راكع، فنحن نتولاه.

قال: وقال الكلبي أيضًا: وقد رواه لنا السيد أبو الحمد، عن أبي القاسم الحسكاني، بالإسناد المتصل المرفوع إلى أبي صالح، عن ابن عباس، قال : أَقْبَل عبد الله بن سلام... إلى أن قال... فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.. الآية}. ثم إن النبي خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فبَصُر بسائل، فقال النبي : هل أعطاك أحد شيئاً ؟ فقال : نعم خاتمٌ من فضة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أعطاكه ؟ قال : ذلك القائم - وأومَى بيده إلى علي - فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : على أيِّ حالٍ أعطاك ؟ قال : أعطاني وهو راكع. فكبّر النبي، ثم قرأ : {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}([8]).

وقال: فأنشأ حسان بن ثابت يقول في ذلك :

أبا حسَنٍ تَفديكَ نفسي ومُهجتي
فأنتَ الذي أعطيتَ إذْ كُنتَ راكعًا
فأنزلَ فيك اللهُ خيرَ ولايةٍ
 

 

وكلُّ بَطِيءٍ في الهُدى ومُسارعِ
زكاةً فَدَتْكَ النفسُ يا خيرَ راكعِ
وثبّتَها مَثنىً كتابُ الشرائعِ
 

وقال: وفي حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير... ثم ذكر تظلّم عبد الله بن سلام من قومه ومجيء النبي (صلى الله عليه وآله) للمسجد، ومكالمته للسائل بنحو ما مرّ.

انتهى ملخصاً عن مجمع البيان الجزء الثالث من صفحة 362 إلى صفحة 363.

وقيل إن جماعة من المسلمين تصدّقوا بعد ذلك بخواتيمهم وهم راكعون لينزل الله فيهم قرآنًا، فلم ينزل.

فالآية الكريمة تشير إلى قضية خارجية معهودة، والتعبير وإن خرج مخرج العموم إلا أنه نصّ في شخص معين معهود، وهو الذين تصدّق وهو راكع حين نزولها، وهو علي (عليه السلام)، بإجماع الأثبات من المفسرين والمحدّثين كما عرفته آنفًا.

ولعل الحكمة في ترك التصريح به، والتَكْنية عنه بمن جمع هذه الصفات، هي تهيئة نفوس العامة لتقبّل الفكرة، لأن اتصافه بها عند نزول الآية تجعل له ميزة على غيره، لا يستطيع الحسّاد والمنافقون إنكارها والمناقشة فيها.

ويكون هذا النوع من البيان في مثل الظروف التي مرّ بها عليّ (عليه السلام) منذ فجر الإسلام، وهي الظروف التي وَتَر فيها الأقربين والأبعدين بقتل صناديدهم وزعمائهم حتى أصبح هو المطلوب بالثأر، من أروع أنواع البيان، فإن ذكر الشخص بذكر الصفات المنحصرة به، بدلاً من التصريح باسمه، يهدف إلى إقناع المخاطبين بأحقّيته، وإلى إسكات المجادلين والجاحدين والمنافقين، لأنهم إذا فتحوا باب النقاش أغلقته الجماهير في وجوههم واحتجّوا عليهم بعدم جمعهم للصفات المعيّنة.

 فإن قال قائل : إن ظاهر الآية بطبعها هي جعل الولاية لجميع المؤمنين!!

قلنا له : إذا أريد جعلها للجميع لم يبقَ ميزة لشخص منهم على الآخر، ولا للنبي (صلى الله عليه وآله) على سائرهم.

مضافاً إلى أنه يلزم أن يكون كل واحد منهم ولياً على الآخرين فيكون بالنهاية كل واحد منهم عليه عدة أولياء، ثم إذا دخل هو معهم خرج واحد آخر وأصبحوا كلهم أولياء عليه، هذا مع جمعهم للصفات المذكورة في الآية.

ومضافاً إلى أنه إن أريد التوزيع يلزم أن يكون كل واحد ولياً على واحد،

وجميع هذه المحتملات فيها من المحاذير ما لا يقبله عقل ولا نقل.

وبعد.. فإن اقتران ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) بولاية الله سبحانه أدلّ دليل على تفضيله على جميع المسلمين، فإذا شمل الحكم جميع المؤمنين وكانوا كالنبي (صلى الله عليه وآله) في هذه الولاية ضاع فضله، وذهبت ميزته، وكذلك إن أريد جعل كل من آمن وتصدّق وهو راكع، له ولاية كولاية النبي (صلى الله عليه وآله) مضافاً إلى لزوم تكرر الأولياء مع وحدة المُوَلّى عليهم، والمحاذير المتصورة كثيرة جداً،اقتصرنا منها على ما مرّ.

وبعد.. فإن النبي (صلى الله عليه وآله) أظهر هذه الولاية وبلّغها المسلمين في مواطن كثيرة ومقامات عديدة، أهمّها في حجته الأخيرة المسمّاة حجة الوداع، وذلك في السنة العاشرة للهجرة، في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، التي لبث بعدها شهرين وأياماً، وكان أثناء عودته من مكة إلى المدينة، فإنه أمر بحبس الركب وحطّ الأثقال في المكان المعروف بغدير خمّ الواقع بين مكة والمدينة، ولا يزال هذا المكان التاريخي معروفاً وفيه مسجد يُعرف بمسجد الغدير، يقصده حجاج المسلمين، للتبرك بالصلاة فيه، وكان عدد الركب حينئذٍ يناهز السبعين ألفاً، ثم أمر فصنع له منبر من أهداج الإبل، فارتقاه وخطب خطبة طويلة معروفة مذكورة في كتب كثيرة، منها البحار ج37، ثم أمرهم بولاية علي (عليه السلام) امتثالاً لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}([9]).

ولقد شاعت كلمة (الولاية) بالنسبة لعلي (عليه السلام) خاصة، دون سائر الصحابة، وردّدها الشعراء في كلامهم، والشيعة وخصومهم، وكتب التاريخ مملوءة بهذا وأشباهه، وكانت الجريمة التي يستحقّ المسلم العقاب عليها من السلطات الحاكمة هي ولاية علي (عليه السلام).

الشهادة لعلي في الأذان

وفي أواخر القرن الثالث الهجري، انتشرت الشهادة لعلي بالولاية في الأذان، وذلك على عهد الدولة الفاطمية التي حكمت شطراً من البلاد الإسلامية، وكانت عاصمتها مصر، والتي عاشت نحو ثلاثة قرون، ثم لم تزل هذه الكلمة شائعة عند الشيعة حتى أصبحت شعاراً لهم يمتازون به، كما أصبح حذف (حي على خير العمل) من الأذان -الذي كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى عهد الخليفة الثاني، وحذفها الخليفة الثالث([10])بعد مدة طويلة من حكمه- شعاراً لأهل السنة.

ومن المؤسف أن دُعاة بعض الأحزاب التي تنتمي إلى الإسلام يستنكرون الشهادة لعلي (عليه السلام) بالولاية، ويقولون : الذي يحتاج إلى ولي هو القاصر والعاجز، والله سبحانه ليس قاصراً ولا عاجزاً، يقولون هذا وهم يقرؤون القرآن كثيراً، وينسون قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}([11]).

يقولون ذلك، وينسون أن الآية تنصّ على أن الله سبحانه له أولياءُ كثيرون، فضلاً عن وليٍّ واحد.

يقولون مقالتهم هذه، جهلاً منهم بأصول اللغة، وجهلاً بالقرآن نفسه، محكمه ومتشابهه، صريحه وظاهره، فلو كانوا يعرفون معنى الولاية، ويحفظون هذه الآية، ويعرفون معناها، لما قالوا هذه المقالة.

وإذا كانوا يعرفون ذلك، ويريدون التمويه والتدجيل، فكيف يتبنون الإسلام ويدعون إلى حزبهم، والإسلام أبعد ما يكون ما يكون عن التضليل والتدجيل،، لأنه غنيٍّ بواقعه عن ذلك كله.

إنهم يقولون ذلك، إما جحوداً، وإما لعدم اطلاعهم على القرآن، وإما لجهلهم بأن المراد (أنه ولي من الله على المسلمين)، ويجهلون أن الأولياء والأوصياء كلهم أولياء الله بهذا المعنى، وأنهم هم المعنيّون بالآية الكريمة.

يقولون هذا، وكتب المسلمين مملوءة بمدح العارفين والواصلين بقولهم : فلان وليّ، أو فلان ولي من أولياء الله.

ومن أجل كون الأولياء منصوبين من قِبل الله سبحانه خصّهم بهذه الحصانة الكريمة بقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1] - سورة المائدة، الآية55.

[2] - سورة الرعد، من الآية15.

[3] - سورة الإسراء، من الآية44

[4] - سورة الأحزاب، الآية 56.

[5] - المائدة: من الآية119.

[6] - سورة التحريم: من الآية4.

[7] - تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي (560هـ) : ج 3 ص 362، ط1، 1415هـ، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

[8] - سورة المائدة، الآية 56.

[9] - سورة المائدة، الآية 67.

[10] -  ولكن المعروف أنها وإن كانت في صدر خلافة الثاني، إلا أنها حذفت في خلافته لا في خلافة الثالث، قال الفضل بن شاذان الأزدي (260هـ) في الإيضاح : ص 201 -203 في باب ذكر الأذان : (ورويتم عن أبي يوسف القاضي، رواه محمد بن الحسن عن أصحابه وعن أبي حنيفة قالوا : كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، يُنادى فيه : حي على خير العمل، فقال عمر بن الخطاب : إني أخاف أن يتكل الناس على الصلاة إذا قيل : حي على خير العمل، ويدَعوا الجهاد، فأمر أن يطرح من الأذان "حي على خير العمل"، وصار عندهم طرحه إياها سنة وصارت السنة ما قال عمر، خلافاً لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله ) (التحرير).

[11] - سورة يونس، الآية 62.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية