أثيرت شبهة حول الزيارة الجامعة
الكبيرة، مفادها أنها تخالف كتاب الله عز وجل في بعض
فقراتها، حيث ورد في الزيارة (وإياب الخلق إليكم وحسابهم
عليكم)، مع أن القرآن الكريم ينص على أن إياب الخلق إلى
الله وحسابهم عليه، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا
إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}([1])،
وقال تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ}([2]).
تعميم الشبهة
وفي الحقيقة إن هذه الشبهة غير مختصة
بالزيارة الجامعة الكبيرة، بل تشمل زيارات عدّة غيرها،
منها ما ورد في أشهر زيارة للإمام الرضا (عليه السلام) من
وصف أمير المؤمنين وغيره من الأئمة (عليهم السلام):
(وديّان الدين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك)([3])،
وهي أوصاف وردت في القرآن الكريم منسوبة إلى الباري تبارك
وتعالى، حيث إن من بديهيات الدين أن مبدأ الخلق من الله،
وأن المنتهى إلى الله، وهذان الوصفان في زيارة الإمام
الرضا (عليه السلام) يوحيان بأن المنتهى إلى الأئمة (عليهم
السلام).
وعلى هذا الأساس اعتبرت تلك الزيارات
التي وردت فيها هذه التعابير مخالفة للقرآن الكريم، بل
مخالفة لبديهات إسلامنا الحنيف، فكيف نقبل هذه الزيارات مع
ورود هذه الفقرات فيها، مع أنه ورد عنهم (عليهم السلام) أن
ما خالف كتاب الله فهو زخرف، أو لم نقله، أو يضرب به عرض
الجدار([4])،
فينبغي أن يضرب بهذه الزيارات عرض الجدار، حيث تكون هذه
الفقرات دليل كذبها وزيفها، وعدم انتمائها إلى أهل بيت
العصمة (عليهم السلام).
جواب الشبهة
الإجابة على هذه الشبهة متوقّفة على
بيان عدّة مسائل في العقيدة الإسلامية من وجهة نظر مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إن هذه الشبهة مبتنية على
بعض النظريات الفاسدة في العقيدة.
المسألة الأولى: نفي التجسيم والتشبيه
تعريف التجسيم
التجسيم بمعناه البسيط الواضح هو القول
بأن الله تبارك وتعالى جسم ذو أعضاء شبيه بأجسام مخلوقاته
وأعضائها، وهذه النظرية الخطيرة، نجدها عند كثير من أصحاب
المذاهب الإسلامية مع الأسف، حيث أثبتوا لله جسماً، وذلك
تمسكاً بالفهم الساذج لظواهر بعض الآيات القرآنية.
تغاير التجسيم
والتشبيه
وبما أن التجسيم مبني على تشبيه الله
تعالى بأشرف مخلوقاته وهو الإنسان، فقد يظن بأن نظريتي
التجسيم والتشبيه واحدة، ولكن التأمل الدقيق يُظهر لنا بأن
التشبيه أعم من التجسيم، وبالتالي يكون نفي التشبيه أخص من
نفي التجسيم، لأن التجسيم كما قلنا هو تشبيه الباري تبارك
وتعالى ببعض مخلوقاته مع إثبات الجسمية له، ومعلوم أن
مخلوقات الله أعم من المادة التي تتركب منها الأجسام، فلله
مخلوقات غير جسمانية، وبالتالي فقد يكون المرء مشبّهاً
ولكنه ليس مجسماً، كما لو شبّه الباري ببعض مخلوقاته
النورانية (المجردة)، فنفي التجسيم غير مساوق لنفي
التشبيه، كما أن القول بالتجسيم يلزم منه القول بالتشبيه.
موقف أهل البيت (ع)
من التشبيه
على أي حال يلاحظ المتتبّع لتراث آل
محمد (عليهم السلام) أنهم انبروا وبكل قوّة لتفنيد تلك
النظريات الباطلة، واستبدالها في عقول المسلمين ببيان
حقيقة صفات المولى تبارك وتعالى، التي تنزّهه عن التجسيم
والتشبيه والتعطيل والظلم و... من قبيل نظريتي الجبر
والتفويض، اللتين رفضهما آل محمد (عليهم السلام) من خلال
بيانهم لنظرية الأمر بين الأمرين، حتى أوصلوا هذه النظرية
إلى درجة البداهة عند أتباعهم، مع كونها من النظريات
الدقيقة جداً، وكذلك فيما يتعلّق بمسألة التجسيم، حيث كانت
تلك المقولة الرائعة: "لا تشبيه ولا تعطيل، وإنما توصيف
بتوحيد"،المستفادة من الروايات الواردة عنهم (عليهم
السلام):
منها: ما روي عن أبي عبد الله (عليه
السلام) : (فانف عن الله البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا
تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ، تعالى الله عما يصفه
الواصفون)([5]).
ومنها: ما رواه هشام بن إبراهيم ، قال
: (قال العباسي قلت له - يعني أبا الحسن عليه السلام - :
جعلت فداك أمرني بعض مواليك أن أسألك عن مسألة قال : ومن
هو ؟ قلت : الحسن بن سهل . قال : في أي شيء المسألة ؟ قال
: قلت في التوحيد ، قال : وأي شيء من التوحيد ؟ قال :
يسألك عن الله، جسم أو لا جسم ؟ قال : فقال لي : إن للناس
في التوحيد ثلاثة مذاهب: مذهب إثبات بتشبيه ، و مذهب النفي
، ومذهب إثباتٍ بلا تشبيه. فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز ،
ومذهب النفي لا يجوز ، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا
تشبيه )([6]).
ومنها: ما رواه محمد بن عيسى بن عبيد ،
قال : (قال لي أبو الحسن عليه السلام : ما تقول إذا قيل لك
: أخبرني عن الله عز وجل شيء هو أم لا ؟ قال فقلت له : قد
أثبت الله عز وجل نفسه شيئًا حيث يقول :
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}([7])
فأقول : إنه شيء لا كالأشياء ، إذ في نفي الشيئية عنه
إبطاله ونفيه ، قال لي : صدقت وأصبت ، ثم قال لي الرضا
عليه السلام : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ،
وتشبيه ، وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب
التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء ،
والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه)([8])
.
تعالى الله عما يصفون
ونظرية التشبيه هذه تجدها مع الأسف
معششة وناخرة في الكثير من الكتابات، حتى عند الكثير ممن
ينزّه الباري تعالى عن التشبيه، عن غير عمد منهم، وما ذلك
إلا لصعوبة المطلب ووعورة مسلكه، حيث إن أذهاننا مشبعة بما
نراه أو بما نخلقه من أوهام، والإمام الباقر يقول: (كلما
ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود
إليكم، ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين،
فإن ذلك كمالها، ويتوهم أن عدمها نقصان لمن لا يتصف بهما،
وهذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به)([9]).
شمول نفي التشبيه لعالم الآخرة
وما ينبغي الالتفات إليه هو أننا عندما
ننفي التشبيه والتجسيم فإنما ننفيهما مطلقاً، أي حتى في
عوالم القيامة والآخرة، لا سيما وأن المعاد هو نوع من
التوحيد، فهو توحيد الغاية، تمامًا كما ننفي الرؤية الحسية
مطلقاً، خلافاً لبعض المذاهب الإسلامية التي تنفي الرؤية
في عالم الدنيا، ولكنها تثبتها في عالم الآخرة، وبالتالي
فكل توصيف أو تفسير لآية قرآنية يثبت الرؤية أو التشبيه
فهو باطل مردود على صاحبه، ينزّه الباري تبارك وتعالى عنه،
ويكشف فقط عن قلة إدراك صاحبه وضيق أفقه.
ليس كمثله شيء
فقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}([10])،
ينبغي أن تفسّر بما يليق بساحة قدسه وجلاله، كما ورد عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سأله ذعلب اليماني:
(هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال
عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا
تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق
الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس. بعيد منها غير مباين.
متكلم لا بروية، مريد لا بهمة. صانع لا بجارحة. لطيف لا
يوصف بالخفاء. كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف
بالحاسة. رحيم لا يوصف بالرقة. تعنو الوجوه لعظمته، وتجب
القلوب من مخافته)([11]).
وكما ورد عن الصادق (عليه السلام)
حينما سأله أبو بصير: (هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال
(عليه السلام): نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟
قال: حين قال لهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}([12])،
ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل
يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير: فقلت
له: جعلت فداك، فأحدث بهذا عنك، فقال: لا، فإنك إذا حدّثت
به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدّر أن ذلك تشبيه،
كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما
يصفه المشبّهون والملحدون)([13]).
وهذه هي الرؤية القلبية التي يثبتها
مذهب الإمامية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
وكل توصيف له محكوم بقوله تعالى
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}([14])،
والشيء هو أعمّ المفاهيم على الإطلاق، فالباري عز وجل لا
يشبه شيئاً أبداً من مخلوقاته، وكل ما عداه مخلوق له، فهو
لا يشبه حتى مخلوقاته النورانية، فخلقة الأنوار وخلقة
العقول وخلقة الأرواح، كلها لا تشبه الله عز وجل ولا
يشبهها الله عز وجل، وهو مع ذلك محيط بالأشياء ومهيمن
عليها وخارج عنها ولا شيء منها، وما أحسن وصف أمير
المؤمنين (عليه السلام) للذات الإلهية، حيث يقول: (لم يحلل
في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو
منها بائن)([15]).
أو قوله (عليه السلام): (مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل
شيء لا بمزايلة)([16])،
أو القول المشهور عنه : (داخل في الأشياء لا بالممازجة،
وخارج عن الأشياء لا بمزايلة - لا بمباينة -) .
يتبع=
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1]
- سورة الغاشية:25-26.
[2]
- سورة البقرة: من الآية156.
[3]
- بحار الأنوار : 99/45 ، وهذا
وصف موجود في كثير من زيارات الأئمة (عليهم
السلام) وبنفس اللفظ.
[4]
- انظر: وسائل الشيعة (مؤسسة
آل البيت)، كتاب القضاء، باب 9 من أبواب صفات
القاضي.
[5]
- التوحيد، الشيخ الصدوق
(381هـ) ، ط1378هـ، قم: ص 102، وإليك الرواية
بتمامها : (عن عبد الرحمن بن قصير، قال: كتبت على
يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه
السلام بمسائل ، فيها : أخبرني عن الله عز وجل هل
يوصف بالصورة وبالتخطيط ؟ فإن رأيت جعلني الله
فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد فكتب
عليه السلام بيدي عبد الملك بن أعين : سألت رحمك
الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك ، فتعالى
الله الذي ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، تعالى
الله عما يصفه الواصفون المشبهون الله تبارك
وتعالى بخلقه المفترون على الله ، واعلم رحمك الله
أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من
صفات الله عز وجل ، فانف عن الله البطلان والتشبيه
، فلا نفي ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ،
تعالى الله عما يصفه الواصفون ، ولا تعد القرآن
فتضل بعد البيان).
[6]
- التوحيد،الشيخ الصدوق (مصدر
سابق): ص 101.
[7]
- سورة الأنعام: من الآية19.
[8]
- التوحيد، الشيخ الصدوق : ص
107.
[9]
- بحار الأنوار، العلامة
المجلسي: 66/293 .
[10]
- سورة القيامة:22-23.
[11]
- نهج البلاغة ، خطب الإمام
علي عليه السلام: 2/99. وعنه بحار الأنوار،
العلامة المجلسي: 66/293.
[12]
- سورة الأعراف: من الآية172.
[13]
- كتاب التوحيد، الشيخ الصدوق،
مصدر سابق: ص 117 ح20.
[14]
- سورة الشورى: من الآية11.
[15]
- نهج البلاغة، خطب الإمام
علي، شرح محمد عبده: 1/113، خطبة رقم 65.
[16]
- المصدر السابق: 1/16، خطبة
رقم 1.
|