◊
د.حسن نصر الله: التاريخ يؤكّد وجود الضريح قبل 800 عام.
◊
عبد اللطيف الموسوي: 37 ألف زائر يزورونه في السنة.
أشرنا في
عدد سابق إلى أن المنطقة الممتدة من جبل عامل إلى نواحي
بعلبك قد عُرفت قبل الإسلام بأنها موطن لكثير من الأنبياء
، وقد انتشر في ربوعها فعلاً الكثير من الأضرحة والمزارات
المنسوبة إليهم ، والعديد منها أحيط بالرعاية والاهتمام
والتشييد والتجديد من قبل المؤمنين في كل جيل، إلا أن
الأضرحة المعروفة لبعض هؤلاء الأنبياء (عليهم السلام) ليس
من السهل إثبات نسبتها إليهم، اللهم إلا الشهرة والأقاويل
المتوارثة والتي يعزّزها في النفوس ما يلمسه الناس من
كرامات وألطاف واستجابة دعاء ببركة الاستشفاع بهم.
وعن ذلك
يقول الباحث في هذا الشأن الدكتور حسن نصر الله:
إن تاريخ
البشرية عرف بحسب المرويّات بعثةَ 124 ألف نبي، وأنه في
زمن بني إسرائيل ربما كان يُقتل ما بين طلوع الفجر إلى
طلوع الشمس أكثر من نبي، حتى عُرفوا بقتلة الأنبياء، وقد
ذكر القرآن الكريم أسماء لحوالى 24 نبيًا ومرسلاً، وليس من
دليل على وجود أضرحة لهم سوى ما ورد في بعض الكتب القديمة،
مثل الذي ورد حول النبي شيث، وقد ذكر الهروي في أحد كتبه
الذي يعود إلى 800 عام أنه زار المقام حيث يعتقد أن النبي
شيث مدفون، وهي الرواية القديمة الوحيدة التي تذكر هذا،
إضافة إلى رواية ثانية تقول إنه مدفون في مغارة في سرنديب
في الهند، أما الفقيه عبد الغني النابلسي فقد تحدّث عن
المقام في كتابه "حلّة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك
والبقاع العزيز" ويذكر فيه أنه زاره عام 1689م.
وقفية.. ولوحة
ومن الشواهد
أيضًا على قِدَم وجود مقام (النبي شيث) حيث هو الآن في
البلدة التي سُمّيت باسمه، ما يقوله رئيس بلديتها السيد
عبد اللطيف الموسوي من أن هناك وقفيةً تنصّ على أن أحد
المحسنين وهو محمد العُصي، قد جعل قسمًا كبيرًا من أراضيه
وقفًا لمقام النبي شيث، ويعود تاريخ هذه الوثيقة التاريخية
(الوقفية) إلى عام 518 للهجرة أي إلى تسع مئة سنة، في
القرن الثاني عشر الميلادي.
في حين أنه
لم يكن معروفًا كيف كان شكل المقام طوال القرون الماضية،
إلا أن لوحةً حجرية لا تزال موجودة حتى اليوم، وتُعتبر من
الدلائل ذات الأهمية على قِدَم المقام، نُقش عليها النص
التالي:
"إنما يعمر
مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، لمّا كانت سنة
اثنتا عشرة بعد الألف من شهر ربيع الأول، شيّد مقام النبي
المبارك، مُحسنة ابنة (...) غفر الله لها ولوالديها"
ووفقًا لهذا
الأثر، فإن المقام شُيّد منذ أكثر من 400 سنة، بتبرّع من
فاعلةِ خير، ليشهد المقام بعد ذلك أعمالَ توسعة وتحسين
عِدّة، أهمّها ما قام به الحاج حسن الهمداني منذ أكثر من
مئتي سنة، وهو الجدّ الأول لعائلة الحاج حسن البقاعية
حاليًا، فقد قام بإعادة تأهيله وتوسيعه، بعد أن رأى النبي
شيث في منامه يطلب منه ذلك، وقد استدعى هذا الأمر من الحاج
حسن الإقامة مع عائلته قرب المقام لرعايته، ما جعل المنطقة
من حوله مع السنين تشدّ إليها الرحال طلبًا للبركة، وبعضهم
قصدها للإقامة والسكن، فتكوّنت لاحقًا ونشأت بلدة سميت
باسم النبي شيث، ومن أبرز عائلاتها اليوم آل الموسوي، وآل
شكر، وآل الحلباوي.
الحداثة
والتراث
واستمرّ
المقام على حالته التي استحدثت منذ مئتي عام إلى العام
1995م، حيث ارتأى أهالي البلدة توسعة المقام المبارك،
لاستيعاب عدد الزوار الذين كانوا يتزايدون سنويًا، من
لبنان وخارجه، فقام بعض المحسنين منهم بالتبرّع بتكلفة
التوسعة وإضافة أقسام جديدة إلى المقام، ومع الفائدة العميمة التي حصلت بالتوسعة الأخيرة، إلا أنها حصلت على
حساب الأهمية التاريخية والتراثية للمقام، بسوره الحجري
القديم الذي هُدم، وبقبّته الخضراء التي بناها الحرافشة
والتي أزيلت، وبالقبور الدوارس التي كانت في باحته والتي
دُفنت تحت البناء الجديد، ودُفنت معها الشواهد التي كانت
تُفصح بمدوّناته عن جانب من تاريخ المنطقة، وأوّل من سكن
من العائلات، كآل الحاج حسن وآل حرفوش وآل بيضون، ثم آل
شكر وآل الموسوي.
فكل ذلك
اندثر،وكان ذا قيمة تاريخية وتراثية عظيمة، تمّ التفريط
بها فلم يُحسن أهل البلدة التوفيق بين الحفاظ عليها وبين
الحاجة إلى أعمال التوسعة الضرورية، لاستيعاب تكاثر
الزوّار سنة بعد سنة، فضاعت بذلك مسحة حضارية أثرية، كانت
تعتبر من أبرز معالم هذه البلدة، ولم يبقَ من معالم المقام
القديم سوى المئذنة الحجرية التي تقف بتواضع إلى جنب
المئذنة الحديثة التي تعلوها ببضعة أمتار من التكلّف
بالصنعة الهندسية.
زوّار وأدعية
ويتألف
المقام اليوم بعد إنجاز التوسعة الأخيرة من قاعة كبيرة في
الطابق الأرضي بمساحة تقارب 400 متر مربّع، تضمّ ضريح
النبي شيث الذي يبلغ طوله 30 مترًا، وعرضه خمسة أمتار، وهو
مسوّر بقفص من حديد، وقاعة أخرى للصلاة، ومذبح للأضاحي
والنذور مع قاعة للطعام ومكان لتجهيز الموتى، ومغاسل
للوضوء، وفوق الطابق الأرضي ثلاثة طوابق أخرى، الأول منها
هو قاعة كبيرة للندوات والنشاطات الثقافية التي يُشرف
عليها نادي الإمام المنتظر، ويشغل الطابق الثاني مكاتب
للبلدية ويتمّ حاليًا استكمال تجهيز الطابق الثالث
لاستخدامه كمعهد لتعليم النساء الحِرَف اليدوية.
أما بخصوص
طول الضريح حتى بلغ ثلاثين مترًا بعرض خمسة أمتار، فلعلّ
مردّ ذلك إلى أن موضع القبر الشريف الذي هو ضمن هذه
المساحة، خيف أن تطأه أقدام الزوّار، خاصة في المناسبات
الدينية، التي يكثر فيها القادمون وطالبوا الحاجة بالدعاء
عند القبر المبارك.
وكما يقول
رئيس البلدية عبد اللطيف الموسوي، فإن عدد زوّار الضريح
يبلغ قرابة 37 ألف زائر في السنة، منهم 25 ألفًا من داخل
لبنان، و12 ألفًا من مختلف البلاد والديار العربية
والإسلامية، وخاصة من إيران ودول الخليج العربي.
وتبقى أبواب
المزار مفتوحة كل يوم، لاستقبالهم على مدار السنة لا سيما
في المناسبات المباركة وفي مقدمتها ولادة الإمام المهدي
(عجل الله فرجه) في النصف من شعبان، إذ يتحوّل المقام وما
حوله إلى مناسبة عظيمة يتلاقى فيها المؤمنون من كل أنحاء
الأرض حول قبره الشريف، حيث تتعدّد الألسن باللغات
واللهجات وترتفع الأصوات بالأدعية والصلوات لقضاء الحوائج
وشفاء المرضى، ونصرة المظلومين والمجاهدين في كل مكان.
كرامات
وفي الذاكرة
التي يتوارثها أبناء البلدة العديد من الروايات والوقائع
التي تشهد على ما للنبي شيث (عليه السلام) من قدسية ومقام
رفيع، وتسجّل الكرامات العديدة، وتُثبتُ وجود القبر الشريف
حيث هو اليوم، ومنها ما يرويه السيد علي حسين الموسوي عن
أبيه عن جدّه، من أن الأخير كان يذكر أمام أولاده رؤية
الأنوار تهبط على الضريح الشريف تصديقًا لقوله تعالى
{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}-سورة
التحريم: من الآية8.
ويروي الحاج
مهدي عباس الموسوي أن جدلاً دار ذات مرّة في الأربعينات من
القرن الماضي بين أحد الزوّار من خارج بلدة النبي شيث وبين
عدد من الأهالي حول حقيقة وجود قبر النبي شيث (عليه
السلام) في البلدة، وانتهى النقاش بالاتفاق على الصعود إلى
أعلى المئذنة ورمي إبريق فخّار منها إلى الأرض، فإذا لم
ينكسر ، كان ذلك دليلاً وإثباتًا على صحة وجود القبر،
وهكذا كان، فصعد أحدهم إلى المئذنة ورمى الإبريق، فضرب
الأرض ولم ينكسر، أمام جمع من الناس في ذلك الحين.
ومما يذكره
السيد عباس حسين الموسوي، عن أبيه المرحوم السيد حسين
عباس، من أن مختار بلدة "طليا" القريبة من بلدة النبي شيث،
وهو من النصارى، كان معتادًا على تقديم نذر للنبي شيث
(عليه السلام) عبارة عن ذبيحة كل عام، فجاء ذات سنة وكان
بصحبته رئيس مخفر القرية، الذي تناول الخمر أثناء الغداء
خلسة في حضرة النبي شيث، وخلال العودة هبّت ريح عاتية رفعت
رئيس المخفر وحده عن حصانه ورمته أرضًا، فأصيب بجروج عميقة
وكسور وبقي زمنًا طويلاً في علاج من آلام مبرحة.
وتشهد
الحاجة أم أحمد، وهي من بلدة النبي شيث، أنها حين كانت
تسكن في بيروت منذ حوالى الثلاثين عامًا، كانت تسكن في
جوار بيتها السيدة فضة جلوان، وهي مسيحية من بلدة القليعة
الجنوبية، وكانت هذه المرأة عقيمًا، فأشارت عليها الحاجة
أم أحمد أن تنذر نذرًا للنبي شيث، ففعلت، وفي السنة نفسها
حملت، لكن ظروف الحرب الأهلية حينذاك فرّقت بينهما ولم تعد
تسمع شيئًا من أخبارها.
بركة وحماية
وهناك غير
ذلك من الروايات الكثيرة عن كرامات آتاها الله نبيه شيث
(عليه السلام)، تدلّل على عظيم المقام الذي خصّه به،
وأهالي البلدة الذين يسكنون تحت جناحه،يردّون الفضل في
نجاة بلدتهم من المحن والفتن التي عصفت بلبنان خلال الحرب
الأهلية إلى البركة التي حباهم الله بها، بوجود ضريح النبي
شيث(عليه السلام)، كما يردّون الفضل إلى هذه البركة في
تجنيب بلدتهم الدمار أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير في
تموز الماضي، إذ كان يتوقّع لهذه البلدة، لما فيها من
مجاهدين، أن تدمّر تدميرًا كاملاً على غرار قرى وبلدات
أخرى، وهذا ما لم يحصل بفضل الله وبركة ضريح النبي
المبارك.
من فضائل النبي شيث (ص)
وفي بطون
الكتب القديمة مرويات كثيرة عن النبي شيث (عليه السلام)،
وكيف بدأت البشرية بالتكاثر به، فبعد أن قتل قابيل أخاه
هابيل، وهب الله لآدم (عليه السلام) شيث ومعناه هبة الله،
وزوّجه حوراء من الجنة، وبهما تناسل وتكاثر البشر، وأن
الله تعالى أودعه علم الأسماء، وأنزل عليه (خمسين صحيفة)،
كما في الحديث الشريف، وكما تحفظ تلك الكتب والمرويات
العديد من الأقوال والحكم المنسوبة إلى النبي شيث (عليه
السلام)، ومنها:
القلوب
الفارغة موكلة بالشهوات.
نِعْمَ
المؤدّب التجارب.
الحكمة تورث
صاحبها التواضع، وبها يعدل السلطان، وتجتمع الآراء، ويزداد
الورع، ويظهر الأخيار، وتقلّ الذنوب.
تصبّر في
الأمور فإنّ الاستعجال يُسرع الغضب.
زيارة النبي
شيث
السلام عليك
يا نبيّ الله شيث، يا هبة الله، السلام عليك أيها النبي
الكريم،والعبد الصالح، السلام عليك يا ابن آدم ووصيه ووارث
علمه، والقائم مقامه، السلام عليك يا ابن حواء أم البشر
على السواء، السلام عليك يا أبا الأنبياء، السلام عليك يا
أوّل الأوصياء، السلام عليك يا محلّ الرجاء، السلام عليك
يا من خاطبك جبرائيل أن الله خصك منه بأمر جليل، السلام
عليك وعلى أنبياء الله المرسلين، السلام عليك وعلى عباد
الله الصالحين، السلام عليك وعلى ملائكة الله المقربين
ورحمة الله وبركاته.
سيدي
ومولاي، يا نبي الله شيث، أنا زائرك، ولائذ بقبرك، أسألك
أن تشفع لي عند الله، في قضاء حاجتي، فقد قصدتك لعلمي أن
لك عند الله شفاعة مقبولة، ومقامًا محمودًا، فبحقّ من
اختصك بأمره، وارتضاك لسرّه، وبالشأن الذي لك عند الله
بينك وبينه، سلِ الله تعالى في نجاح طلبتي، وإجابة دعوتي.
اللهم صلِّ
على محمد وآل محمد الأخيار، في آناء الليل وأطراف
النهار،ولا تدع لي يا ربّ في هذا المشهد المعظّم والمحل
المكرّم، حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، لك فيها رضىً، ولي
فيها صلاح، إلا قضيتها ويسّرتها، يا أرحم الراحمين.
سأل طاووس اليماني الباقر (عليه السلام) :
(متى هلك ثلث الناس ؟ فقال (عليه السلام)
: يا أبا عبد الرحمن، لم يمت ثلث الناس قط
، يا شيخ أردت أن تقول : متى هلك رُبع
الناس ؟ وذلك يوم قَتل قابيل هابيل ،
كانوا أربعة: آدم ، وحواء ، وهابيل ،
وقابيل ، فهلك رُبعهم ، قال : فأيهما كان
أبا الناس ؟ القاتل أو المقتول ؟ قال : لا
واحد منهما ، أبوهم شيث)[1]
.
* * *
وعن أبي ذر في حديث عن
رسول
الله (صلى الله عليه وآله)
:
أن الله تعالى أنزل على
شيث
(عليه السلام) خمسين صحيفة[2]
* * *
وعن الصادق (عليه
السلام)
عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال :
(أوصى آدم إلى شيث
وهو هبة الله ابن آدم ، وأوصى شيث إلى
ابنه شبان، وهو ابن "نزلة" الحوراء التي
أنزلها الله على آدم من الجنة فزوجها ابنه
شيثًا ... الخبر)[3].
* * *
وروى في البحار
بالإسناد
إلى الصدوق بإسناده إلى وهب:
(لما حضر آدم
الوفاة
أوصى
إلى شيث وحفر لآدم في غار في أبي قيس يقال
له غار الكنز ، فلم يزل آدم عليه السلام
في ذلك الغار حتى كان زمن الغرق استخرجه
نوح عليه السلام في تابوت وجعله معه في
السفينة)[4].
|
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- بحار الأنوار، العلامة
المجلسي: ج 10 ص 156.
[2]
- المصدر السابق: ج 11 ص 32.
[3]
- المصدر السابق: ج 11 ص 225.
[4]
- المصدر السابق: ج 11 ص 267 .
|