العدد التاسع / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال = الإمام زين العابدين ، والدعاء في بُعديَه الإنساني والأدبي

 

البُعد الأدبي في أدعيته (ع)

مظهران مهمّان يطالعان من يتوفر على مدارسة أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) على مستوى البُعد الأدبي:

المظهر الأول : يتجلّى في هذا المعجم اللغوي الثرّ، الذي انتظم أدعيته كلها بلا استثناء، بشكلٍ يلفت إلى هذا الحفاظ الفذّ على المستوى الأدبي في التعبير، دون أن يتدهدى إلى مهوى التقريرية والمباشرة، وبمنأى عن الإسفاف أو الغرابة.

تزداد أهميته اللغوية إذا عرفنا أن الصحيفة السجادية هي ثاني كتاب ظهر في الإسلام بعد القرآن، وأوّل كتاب هو كتاب سُليم بن قيس الهلالي[1].

إن هذه الأدعية تسدّ الفراغ الذي خلّفه الدارسون الذين لم يألوا جهدًا في تعقّب الأحداث السياسية والاجتماعية وبيان أثرها في الأدب، دون أن يولوا النصّ الأدبي ما يستحق من اهتمام خاص، يُفصح عن التطوّر اللغوي الذي حمله معه الإسلام.

بل إن تلك الدراسات تحوّلت إلى "مضامين" اجتماعية لا يكاد يلتفت الدارس إلى "صيغتها الفنيّة" إلا أيسر الالتفات[2].

أدعية الصحيفة السجادية استطاعت على مستوى اللغة أن تصوّر تطوّر الجانب اللفظي والمعنوي بعد انتشار الإسلام في المرحلة التي تعتبر أنها لم تستطع أن تنهض بالتعبير عن قِيَم الإسلام وقضاياه الجديدة، مع الاحتفاظ بمزايا الشعر الفنية التي كانت قد بلغت مستوى مرموقًا في الجاهلية[3].

إن الضعف الذي لاحظناه على الشعر الإسلامي كان قد بدأ في الحقيقة قبيل الإسلام لا بعده، فعصر الفحول كان قد انقضى، ولم يبق منهم إلا الأعشى الذي مات وهو في طريقه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليمدحه، و"لبيد" الذي كان قد بلغ الستين فأوشك أن يكفّ عن قول الشعر[4].

والواقع أن الإسلام حمل معه مُعجمًا جديدًا حضاريًا لكثير من الألفاظ، فاختفى الكثير من الألفاظ التي وُصفت بالغرابة مع حلول الإسلام، فقد فشا التأدّب والتظرّف، فاختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة، فاختاروا أحسنها سمعًا وألطفها بين القلوب موقعًا، والى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها، وأشرفها، (كما رأيتهم يختصرون ألفاظ "الطويل" فإنهم وجدوا للعرب فيه نحوًا من ستين لفظة، أكثرها بشع شنع، كالعشنط والعنطنط... والشوذب )، فنبذوا جميع ذلك وتركوه واكتفوا بالطويل، لخفّته على اللسان وقلة نُبوّ السمع عنه[5].

هذا وإن إهمال الدارسين للجانب الفني والتطوّر اللفظي للّغة بعد الإسلام والاعتناء فقط بالمضامين[6] الاجتماعية والسياسية، يدعونا لأن نقف وقفة متأنية مع لغة أدعية علي بن الحسين (عليهما السلام).

إن تبلور اللغة الإسلامية والحضارية بأساليبها وألفاظها في تلك المرحلة، مع احتوائها للمضمون المرتقب عبر تلك الأدعية، يستحثّنا لأن ندرس تلك الأدعية، لمستواها الفنيّ الرائع إلى جانب مضمونها الإيماني.

إن في هذه الأدعية سبقًا لكل ما عُرف فيما بعد من أشعار صوفية تذوب في حبّ الله تعبّدًا ورقًا.

فلنستمع إلى هذه المناجاة، تنثال من بين شفتي الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فتحمل المتلقّي إلى أجواء روحية عبقة، فتنزعه من ربقة المادة وأغلال الجسد، إلى فضاء الروح ومعارج السماء :

(إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا.

إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودّك ومحبّتك، وشوّقته إلى لقائك، ورضّيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقِلاك، وبوّأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهّلته لعبادتك، وهيّمت قلبه لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرّغت فؤاده لحبّك، ورغّبته فيما عندك، وألهمته ذكرك وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيّرته من صالحي بريتك، واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كل شيء يقطعه عنك.

اللهم اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والأنين، جباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سائلة من خشيتك، وقلوبهم متعلّقة بمحبّتك، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك.

يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة، وسبحات وجهه لقلوبِ عارفيه شائقة. يا مُنى قلوب المشتاقين، ويا غايةَ (آمال) المحبين. أسألك حبَّك، وحبَّ من يُحبُّك، وحبَّ كل عمل يوصلني إلى قربك، أن تجعلك أحبّ إليّ مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائدًا إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائدًا عن عصيانك، وامنن بالنظر إليك عليّ، وانظر بعين الودّ والعطف إليّ، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الإسعاد والحَظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين) [7].

المظهر الثاني: هو المستوى البلاغي والأسلوب الجديد الذي ينتظم أدعية زين العابدين (عليه السلام)، فإن في هذا المجال أكثر من ظاهرة تستوقف وتسترعي الانتباه، فعلى صعيد علم المعاني والنواحي الأسلوبية نستشفّ البلاغة التلقائية التي تمثّلت القرآن لغةً وأسلوبًا، بشكل لم يُتَح لغيرها - فيما نعرف من آثار - في تلك الأيام، حتى في الشعر (ديوان العرب).

ونحن إذا أعرضنا عن الوزن واحتفلنا بالجوانب الأخرى من مقوّمات الشعر، نرى في هذه الأدعية مقطوعات شعرية وقصائد بَوْح، تحمل الإنسان على سحر أجنحتها في معارج روحية سامية.

إن قراءة هذه الأدعية تبعث في الإنسان هِزة في المشاعر بعيدة الأثر، وقد عبّر عن ذلك عبد العزيز سيد الأهل في مقدمته لكتابه زين العابدين، فقد بكى حين قرأه، وانعطف، وتأثّر، وثار، وهو يصبو لأن يتولّد نفس الأثر في كل من يقرأ زين العابدين : (إني أرجو ألا أكون وحدي شاعرًا، وليكن الناس معي شعراء.. وأرجو ألا أكون وحدي من تأثّر لقراءة البطل، وقد هزّ زين العابدين من قَبلُ أكباد الناس في عصره، ولم يزل يهزّها في الأعصر، وسيهزّها إلى آخر الأبد)[8].

هذه لمحة عجلى عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، سيرةً وآثارًا، تستحثّ الدارس لأن يجلو للناس حكاية هذه السيرة وهذه الآثار لمن أدّب الناس بسيرته[9] قبل أن يؤدّبها بلسانه، وهذا الذي حارب الظلم بالعدل، والخيانة بالأمانة، والحقد بالمحبّة، والعداوة بالصداقة، والغدر بالوفاء...

وهذا الذي أعطى بأدعيته أسمى نموذج للغة العربية يوم حضّرها الإسلام شكلاً ومضمونًا، مفردات وأسلوبًا وتعابير...

إلى جانب مدرسة دُعائية كان هو واضعها، حيث تحوّل الدعاء على يديه، لا مجرد كلمات ابتهال جوفاء، بل نرى فيها تعاليم الإسلام ومبادئه بشكل ينغرس به في شِرب الجَنان ينابيع خشوع لا ينضب، وتتماثل عبره مداميك إيمان لا تتزعزع... فإذًا الدعاء مهماز إيمان يحفّز الإنسان للعمل والتحرّك، لأن العمل هو المعيار الصحيح، وإذا الدعاء أشعار يتغلغل إيحاؤها في الأعماق، وإذا الإنسان بعد تلاوتها في حالة نفسية وتعبئة روحية تجعله يندفع للعمل والعطاء.

وبعدُ، فهذه إشارة عجلى للبُعدين الأدبي والإنساني عند الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وما هي إلا معالم تشير إلى أن دراسة هذا الموضوع تحتاج إلى مؤلفات جمّة تنوء بها الصفحات القليلة التي يمكن أن يُدبّجها يراع في مقال محدود.

انتهى المقال
 


[1] - يلاحظ مقدمة الصحيفة السجادية الكاملة،بقلم محمد مشكواه، تحقيق الشيخ محمد الأخوندي، والفهرست لابن النديم، ص307.

[2] - في الشعر الإسلامي والأموي، الدكتور عبد القادر القط، ص8.

[3] - نفسه، ص 12.

[4] - نفسه، ص 13.

[5] - الوساطة بين المتنبي وخصومه، الجرجاني، ص21.

[6] - في الشعر الإسلامي والأموي، عبد القادر القط، ص29.

[7] - الصحيفة السجادية الثانية، جمع وتحقيق الحرّ العاملي، مع إعادة تحقيق السيد محسن الأمين، ص 33-34-35 ؛ الصحيفة السجادية (ابطحي)، الامام زين العابدين (ع)، ص 413.

فاقتي : فقري وحاجتي. رام : طلب. حولا : انتقالا. حبوته : أعطيته. بوأته : أنزلته وأسكنته. هيمت : حببت وصرفت. أوزعته : ألهمته.

[8] - زين العابدين، عبد العزيز سيد الأهل، ص98.

[9] - نفسه، ص 3 وما بعدها من المقدمة.

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع