مدخل
لم يزل
الدعاء سلاح المؤمن يدفع به المضرة ويجلب به المنفعة،
ويصرف به السوء ويستدعي به الخير والبركة، ولعباد الله
العارفين حالات مع الدعاء والمناجاة والابتهال، حيث تحملهم
المعرفة بالمدعو سبحانه والمعرفة بلغة الدعاء إلى مواطن
القرب والجذب والفناء، فيتحولون مع الدعاء إلى ذوات متألهة
خالصة، متحررة من عقال المادة وذائبة في لطافة الروح،
ليتجلى بهم ولسفرهم هذا من أسرار الملكوت ما ينقلب به
الغيب إلى شهادة وعيان.
ولكم ظهرت
آيات قُرب الأنبياء والحجج والأولياء من ساحة القدس
الملكوتي والملك الربوبي في مشاهد لم يبلغ إليها غيرهم،
ولم يبلغوا هم أنفسهم إليها إلا بالنداء والتوسل والدعاء.
فقد تجلَّى
لكل واحد من أنبياء الله تعالى وأوليائه بحسب طاقة نفسه
واحتمال عدته ومكنة روحه ولطافتها من أسرار الله ما اغتنت
به أرواحهم، وتألهت له ذواتهم، حتى كانوا وقفًا على رضاه
سبحانه، ولم يعد في الوجود عندهم سواه.
وقد قصّ
القرآن الكريم مشاهد من حالاتهم في أدعيتهم وتوسلاتهم ما
فيه غنى للطالب ومقنعة للراغب.
أما نحن
المبتلون باختلاف الأمزجة وعراك الطينة، المترددون بين
منازل الكمال ومهاوي الإذلال، نحن نقول مقالتهم لكن لا
نغتذي منها غذيتهم، نعم لنا مع المراس والدأب وحسن التأدب
واستيفاء دواعي القرب والجذب أن نحوز على شيء من سنى
الضياء وطعم الغذاء، فكل بحسب قابليته واستعداده وإمكانه،
فكل واد يحمل من السيل بقدره ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
ولمّا كان
الدعاء بهذه الأهمية والمنزلة لزم النظر والفكر في ناموس
الدعاء وسننه عسى أن يوفق الله عز وجل لخلاصة تستقر عليها
القناعة وتغني تصوّرنا بفهم الدعاء، مقدمة للوقوف على عتبة
أهل الله وأهل القرب.
أطراف الدعاء
فهنا أطراف
ثلاثة يجدر بنا قراءتها والربط فيما بينها، لأجل اكتمال
النظرة إلى الدعاء، وبالتالي ارتقابًا لسرور الناظر وبهجة
الخاطر ومنه العون وهو ولي التوفيق.
فالطرف
الأول: المدعو.
الطرف
الثاني: الداعي.
الطرف
الثالث: الدعاء.
وبتعبير
آخر الطرف الأول المطلوب منه، الطرف الثاني: الطالب، الطرف
الثالث: نفس الطلب وأدواته وآدابه.
الطرف الأول:
المدعو
أقول، إن
انعكاس الحقائق في مرآة النفس الآدمية ليس بمستوى واحد ولا
على حد واحد، وإن كانت الحقائق ليس لها في واقعها إلا حدًا
واحدًا وقدرًا واحدًا، وأظن أن هذا المعنى من المسلَّمات
التي لا يناقش فيها أحد من المتنبِّهين، ولذا فإن طلب
المعرفة بالأشياء يخضع لمنطق المراحل والأطوار، فيبتدئ من
الضعف ويتسامق إلى القوة والاشتداد.
على أن حمل
المعرفة على كل واحد من مستوياتها صحيح ولا يصح سلبها، إلا
أن كل فرد من أفراد المعرفة يترتب عليه أثره الخاص، لأن كل
مستوى من مستويات المعرفة بالشيء له اقتضاءات بقدرها، لأجل
ذلك نقول بأن معرفة المدعو سبحانه هي أحد أركان الدعاء
وطرفه الأول، ولكن أي فرد من أفراد المعرفة بالمدعو سبحانه
هو المحقِّق للغاية، والموجب بلوغ الداعي إلى منزل أهل
الإجابة وموطن أهل القبول.
والذي
نعتقده أن المعرفة بالمدعو سبحانه، المطلوب منه، ينبغي أن
تكون -تلك المعرفة- بمرتبةٍ حاصرةٍ سببيةَ قضاءِ الحاجةِ
فيه دونَ أيٍّ من الأغيار سواه سبحانه وتعالى، ونعتقد كذلك
بأنه هو القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، صحيح أننا في
عالم الفكرة والتصور نحن جميعًا بل حتى أولئك الذين أشركوا
ينظرون لهذه العقيدة كما قال تعالى حكاية عنهم
{وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[1]،
فهم يعيشون تصور الفكرة وينطقون بهذا المعنى فلا ينكرون
قدرته سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض، فهذا مستوى
من مستويات المعرفة بالله سبحانه ولكنه لا يُسمن ولا يُغني
من جوع لأنه مُنتقَض ومُبدّد، وذلك أنه لم يجمع معه لوازمه
ولم يبطل ضده من نفي الشريك في الملك والقدرة وما أشبه
ذلك.
وعليه، فمثل
هذه المعرفة وهذا الفرد من أفرادها، لا اقتضاء فيه ولا
فاعلية له في تبليغ صاحبه إلى درجة ومرتبة ومستوى الدعاء
المجاب، أو حتى أصل مبادئه ومبدأ انبعاثه، فلئن أقرَّ
هؤلاء بأن الله عز وجل هو الخالق إلا أنهم لم يتابعوا في
طريق معرفته جلّ وعلا لمعرفة لوازم معنى كونه خالقًا،
ولجهة إثبات الأزلية ونفي الشريك وإرجاع كل شيء إليه
وتنزيهه عن جميع النقائص، وما إلى ذلك من لوازم كونه
واحدًا أحدًا فردًا صمدًا وحيًا قيومًا.
وهذا الفرد
- أعني المذكور في الآية- هو الأضعف بين أفراد المعرفة
بالله سبحانه المطلوب منه والمرغوب إليه تبارك وتعالى،
وبين هذا الفرد من المعرفة به سبحانه وبين أعلى مراتبها -
وهي تلك التي بلغ إليها الأنبياء والأوصياء وأهل الخلّة
وأرباب العقول والنفوس- ما لا يحصى له عدد ولا يبلغ إلى
حصره أحد، ولكل واحد من هذه الأفراد اقتضاؤه الخاص وآثاره
الخاصة، ونضرب هنا مثالين فقط من أمثلة المعرفة العالية
والبالغة:
المثال
الأول:
ما كان يعيشه عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يقول:
(لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا )[2].
المثال
الثاني:
ما عاشه الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي (عليهما
السلام) وصرّح به في دعاء يوم عرفة ( كيف يستدل عليك بما
هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك،
حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل
عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت
عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم
تجعل له من حبك نصيبًا)[3].
والذي
يعنينا في معرض بحثنا هذا هو إعطاء الضابطة العامة في
تقدير مستوى المعرفة بالمدعو سبحانه وتعالى ليكون النداء
والدعاء ذا اقتضاء وفاعلية وتأثير.
وبالجملة
نقول، بأن المعرفة الواجدة للإقتضاء هي تلك التي يعلم معها
صاحبها علمًا قاطعًا جازمًا غير مدخول بناقض ومضعِّف
وموهَِّن بأن الله عز وجل سميع عليم وهو على كل شيء قدير،
وهذه المعرفة حاصلة لا محالة عن سَبَبَيْها العليين:
السبب
الأول: قابلية النفس البشرية للاعتقاد وتملكها القدرة على
الجزم إثباتًا ونفيًا بهذه القضية وسواها، فليس من العسير
على النفس أن تعيش اليقين وأن تملك الجزم بأن الله جلً
شأنه هو كذلك وفوق ذلك.
والسبب
الثاني:
إرفاد هذه القابلية بالمادة العلمية لتغذية النفس بخلاصة
غذائها النافع، وذلك بأن يطلب العلم ويتذوّق طعم حلاوته،
ويتمرّس على ذلك من خلال التفكر والتأمل ليكون عوادًا على
هذه النفس بهذه الأغذية المعينة لها والمفخمة لجوهرها، حتى
تغدو النفس ذات أَلَقٍ وبهجةٍ ورَوْحٍ تعيش اليقين وتساهم
في استزادة وترسيخ أصولها الطاهرة وتعميقًا لجذور الخير في
أصل جبلَّتها ليكون ممن يشملهم قوله تعالى{قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[4].
وخلاصة
القول، إن مرتبة المعرفة بالمدعو ومستوى درجتها لَهي ركن
أول وأساس في جعل الدعاء مشتملاً على شرط القبول والإجابة.
وروي أن
الإمام الصادق (عليه السلام) قرأ
{أَمَّنْ
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}
فسئل: ما لنا ندعو ولا يستجاب لنا؟ فقال: لأنكم تدعون من
لا تعرفون، وتسألون ما لا تفهمون، فالاضطرار عين الدين،
وكثرة الدعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان، من لم
يشهد ذلة نفسه وقلبه وسره تحت قدرة الله حكم على الله
بالسؤال وظن أن سؤاله دعاء والحكم على الله من الجرأة على
الله.
[5].
وهذه الكلمة
تعبير آخر عن أن معرفة هؤلاء بالله سبحانه بهذا المستوى
ليست موجِدة للركن ولا محقِقة للشرط، ونحن قد بيّنا الطريق
الموصل إليها ولا قوة إلا بالله.
يتبع =
الهوامش:
[1]
- سورة الزمر: من الآية38.
[2]
- مواقف الشيعة، علي بن حسين
علي الميانجي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، 1416هـ،
ج1، ص89.
[3]
- بحار الأنوار، العلامة
المجلسي، ج 64، ص 142.
[4]
- سورة الشمس الآية 9.
[5]
- التفسير الصافي - الفيض
الكاشاني ج 1 ص 223
|