العدد التاسع / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

أيها المؤمن ... سلاحك الدعاء

د. يحيى الشامي*

من الغرائز أو الطبائع التي كشف عنها علم النفس - عَدَّ منها ماك دوغال (Mc Dugall) أربع عشرة غريزة، ثم أضاف إليها في أخريات أعوامه أربعًا - غريزة الاستغاثة التي هي بمثابة ردة فعل طبيعية لدى الإحساس أو الشعور بالألم أو العجز أو الخطر...

والغريزة، كما هو ثابت في علم النفس، سلوك عفوي فطري مشترك بين جميع أفراد النوع الواحد، يندفع إليه الفاعل اندفاعًا تلقائيًا، أو إراديًا لكن مصحوبًا بالاحتياج، وفي الحالين معًا، فإنّ الغريزة لا تخرج عن كونها واحدة من صور النشاط النفسي، وطرازًا من السلوك، عمَاده الفطرة والوراثة البيولوجية[1].

خُذ البكاء على سبيل المثال، بكاء الطفل خاصة، أليس هو في الأصل تعبيرًا عن هذه الغريزة المسمّاة بغريزة الاستغاثة، يبكي الطفل أحيانًا، يُجهش بالبكاء، يتهيأ له، وقد يكون بكاؤه تعبيرًا عن إحساسٍ بالجوع أو الألم، وليس هذا هو المهم، بل المهم أن الطفل في بكائه إنما هو يستغيث، يستصرخ أمه، يُحرّك فيها كل عواطف الأمومة، فتراها تُهرع إليه، تحوطه بالعناية والحماية والرعاية...

ثم خذ البكاء، بكاء الكبار، والكبير يبكي أيضًا، وقد يبكي من شدّة الفرح أحيانًا، والمرأة تبكي أكثر من الرجل، أليس هذا البكاء نكوصًا عن الرجولة، ورجوعًا إلى الطفولة المحتاجة إلى الحماية، كما بيَّنا من قبل ؟!

وهبْ أن الإنسان تمالك أو تجلّد، وعزّ عليه البكاء، فما بالُك إذا ما أيقن بالهلاك أو العذاب، أفلا تراه مضطرًا إلى الحماية يطلبها ممنّ هو أقدر منه وأعزّ... يدعوه، يتضرّع إليه، يستغيثه، يلتمس منه النجاة أو التوبة التي التمسها فرعون لمَّا أدركه الغَرَق، فآمن حين لا يُجدي الإيمان فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[2].

دعا فرعون، وكان ادّعى الربوبية، فما استجاب الله دعوته، ودعا العبدُ الصالح زكريا، وهو النبيّ الذي بلغ من الكِبر عتيًا، دعا ربّه أن يهب له غلامًا، وكانت امرأته عاقرًا، فوهب له يحيى، خرقًا للعادة، وأجيبت دعوة زكريا....

دعاءٌ لم تتحقق غايته، وآخرُ تحققت الغاية منه، وبين هذه وتلك أسئلة تُطرح، ومسائل تُبحث...

فما هو الدعاء؟ ما موقعه من العبادة ؟ وهذا ما يخصّنا في هذا البحث.

ما آدابه وأوقاته، وموارده ؟ وهل ثمة من حاجة إلى الدعاء وإلى المواظبة عليه؟

ما هو الدعاء

الدعاء لغة، من دعاه إذا ناداه، ورغب إليه، واستعانه في حاجة من الحاجات، أو غاية من الغايات، والدعوى المصدر... ودعاه إلى الأمر، ساقه إليه، ودعا به، استحضره، ودعا له، رجا له الخير، ودعا عليه، طلب له الشر، ودعا إليه طلب إليه...

والدعاء كما سلف، وأيًّا تكن الحاجة أو الغاية منه، وأيًّا كان الداعي، فهو لا يخرج في الأصل عن كونه سلوكًا فطريًا غريزيًا مشترَكًا بين جميع أفراد النوع الواحد، كتعبيرٍ عن غريزة كامنة في النفس، هي غريزة الاستغاثة بالغير، طلبًا للحماية أو الرعاية، وإنك لتجد مصداق ذلك في قوله تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}[3]، وفي قوله الآخر {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}[4].

عذابٌ في الدنيا قد يأتي بَغتة، وآخرُ عند قيام الساعة... ظُلماتٌ من فوقها ظلمات، في البرّ ومثلها في البحر، ويا لَلهول، يستشعر خطرها الداعي، تَمثُل له فتُحرّك فيه تلك الغريزة، غريزة الاستغاثة ؟ فإذا هو يَجْأر إلى الله، يرفع صوته بالدعاء، ملتمسًا الحماية والرعاية، والنجاة... ماذا ؟ أهي الرهبة، أم الخوف الذي قد يَعرض - وبحسب تعبير ابن مسكويه - عن تصوّر شرّ، أو توقّع مكروه، أو انتظار محذور ؟[5].

ماذا ؟ والخوف أو الرهبة، كما هو معلوم، درجات متفاوتة الشدة، أدناها الخشية (crainte)، وأعلاها الذعر (panique)، وشدّة الخوف تتناسب في العادة مع عِظَم المكروه المتوقّع، وإن كان توقّع الخوف لا  يقلّ عن الخوف بعينه، والألم المتخيّل يسمى خوفًا، فيما اللذة المتخيلة، وبحسب تعبير بول ريكور (P.Ricoeur)، تُسمى رغبة، وكلا الحالتين الرهبة والرغبة تجد ما يناسب معنييهما في الآيتين الخامسة والخمسين، والسادسة والخمسين من سورة الأعراف {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[6]، وإن كان من المناسب أيضًا في هذا المقام، أن نعطي للتضرّع والخُفْيَة معنى التذلّل والاقتصاد في تجاوز الحدّ المرغوب فيه من الدعاء، كما في الآية الأولى، وللخوف معنى الخوف من العقاب، وردّ الدعاء، وللطمع معنى الطمع في العفو والفضل وإجابة الدعاء، كما في الثانية.

الدعاء من العبادة

يتبين من الآيتين السابقتين أن الدعاء مظهر من مظاهر العبادة، بل قُل هو عبادة في نفسها، يُعبد الله سبحانه بها لما في ذلك من إظهار الخضوع والانقياد إليه، لا بل هو "أفضل العبادة" حسبما ورد في شرح إمامنا الصادق (عليه السلام) للآية : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[7].

وفي رواية حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : (أيّ العبادة أفضل؟ فقال: ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يُسأل ويُطلب ما عنده، وما من أحد أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده)[8].

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (افزعوا إلى الله في حوائجكم، والجأوا إليه في مُلمّاتكم، وتضرّعوا إليه وادعوه فإن الدعاء مُخّ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب، فإما أن يُعجّله له في الدنيا، أو يؤجّل له في الآخرة، وإما أن يُكفّر له من ذنوبه بقدر ما دعا)[9].

 ومثله عن علي (عليه السلام) في معرض وصيته لولده الحسن (عليه السلام): (...واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أَذِنَ لك في الدعاء وتكفّل لك بالإجابة، وأمَرك أن تسأله ليُعطيك، وتطلب إليه ليرضيَك، وتسترحمه ليرحمَك، وهو رحيم كريم)[10].

شروط إجابة الدعاء

ولئن أذن الله سبحانه لنا بالدعاء فإن ثمّة شروطًا لا بدّ من توافرها حتى يُستجاب الدعاء :

منها: خُلوّ الدعاء من المفسدة أو القبح، وعدم القنوط من الإجابة ولو تأخّرت، وحسن الظن بالله تعالى، والإخلاص في الدين لله {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[11]، وترك الرياء، والورع والكفّ عن محارم الله، وتطهير القلب من الشوائب ، ومن خصال الخيانة التي عدّ منها الإمام علي (عليه السلام)  ثمان هي: عدم أداء الحق، الذي أوجبه الله، ومخالفة سنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) وترك العمل بما أنزل الله، والإصرار على معصية الله، والبعد عمّا يُرغّب في الجنة، وجَحد نِعَم الله، وموالاة الشيطان، والانشغال من عيب النفس بعيوب الناس[12].

آداب الدعاء، وأوقاته، وموارده:

واعلم أن للدعاء آدابَه وأوقاتَه ومواردَه، وأن من آدابه افتتاح الدعاء بذكر الله، والثناء عليه، والصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله)، وإظهار الاستكانة، والتضرّع، والتذلّل، والخشوع، والبكاء أو التباكي إن لم يحصل البكاء..[13].

وإنّ من أوقاته التي يرجّح فيها القبول، وقت السَّحَر، وما بين الطلوعين، وما بين الأذان والإقامة، ولكل وقت من الأوقات دعاء مخصوص، فللشهور أدعيتها، وللأيام والليالي والساعات أدعيتها، تجد ذلك مفصّلاً في كتب الأدعية والزيارات.

وأما موارد الدعاء فشتّى، وإن كان جُلّها يتعلق بطلب الرزق وقضاء الدين وكشف الكرب أو الهمّ ودفع الضرّ والبلاء والمكروه، والشفاء من العلة أو المرض، وقبول التوبة والاستغفار من الذنوب التي تُنزل البلاء والغلبة على الأعداء، وما أكثر الأعداء....

فيا أخي المؤمن.. دونك الدعاء، فإنه يَردّ القضاء المبرم، وهو زادك وسلاحك، فاتخذه جُنّة لك ووقاءً، ولا تيأس من رَوح الله، وإن أبطأت الإجابة، فقد يكون في  الإبطاء عصمة لك... وقد يكون في دعائك الذي تدعوه مفسدة لك... اقطع كلّ أمل إلا أمَلك في الله، وكلّ رجاء إلا رجاءك في الله، ولا تعتصم إلا بحبل الله، إذ ما من مخلوق - وهذا ما جاء في الحديث القدسي - يعتصم بمخلوقٍ دون الله، إلا قطع الله أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه، فإن سأله لم يُعطه وإن دعاه لم يُجبه، وما من مخلوق يعتصم بالله سبحانه دون خلقه إلا وضَمِنَتْ السماوات والأرض رزقه، فإن دعاه أجابه وإن سأله أعطاه وإن استغفره غفر له[14].

أيها المؤمن... الدعاء ثم الدعاء، إذ نحن الضعفاء، والله هو القوي، ونحن الفقراء ، والله هو الغني.

وختامًا، أّذكّرك بقوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[15]، وبقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (أفضل العبادة الدعاء)، وقوله الآخر : (سلاح المؤمن الدعاء)، وقوله أيضًا: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)[16]. ثم بقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :  (... ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته.... فألحِحَّ بالمسألة، ولا يُقنطنّك إبطاء الإجابة، فإن العطية على قَدر المسألة، وربما أُخّرت الإجابة فيكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجْزَل لعطاء الآمل..)[17].

جعلنا الله وإياك من السائلين ما عند الله من فضله، ولا جعلنا ممن يستكبرون عن عبادته، ولا يَسأل ما عنده.


الهوامش:

* دكتوراه دولة في الآداب، وحلقة ثالثة في اللغة العربية وآدابها

[1] - صليبا، جميل: المعجم الفلسفي2/127، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982.

[2] - سورة يونس الآية 91.

[3] - سورة الأنعام الآية 41.

[4] - سورة الأنعام 63-64.

[5] - ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 207 (بدون ذكر مكان الطباعة وتاريخها).

[6] -  سورة الأعراف الآية 55-56.

[7] - صحيح الكافي 1/135، ط1، الدار الإسلامية، بيروت 1981.

[8] - المصدر نفسه 1/135.

[9] - تفسير الميزان للطباطبائي، 2/37، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط2، بيروت 1971.

[10] - إتمام نهج البلاغة، تحقيق السيد صادق الموسوي، ص959، مؤسسة الإمام صاحب الزمان، قم 1417ه.

[11] - سورة غافر الآية 14.

[12] - القمي، عباس: سفينة البحار 1/449، دار المرتضى بيروت.

[13] - صحيح الكافي ج1/139.

[14] - تفسير الميزان2/35.

[15] - سورة غافر الآية 60

[16] - مجمع البيان ج2 ص 126.

[17] - إتمام نهج البلاغة ص 960.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع