إن
المشهور بين العلماء أن أدلة الأحكام هي أربعة:
الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع، إلا أن المتأمل
بعين الإنصاف يعلم أن العمدة في إثبات الحلال والحرام،
والفرائض والسنن، هو الحديث الشريف.
ومن هنا
كان حرص النبي (صلى الله عليه وآله) على تدوين الحديث،
وحثّ أصحابه على جمعه والاعتناء به، فقد روي عنه (صلى
الله عليه وآله) أنه قال: (اكتبوا هذا العلم)
([1])،و(قيدوا
العلم بالكتاب)
([2])،
ونحو ذلك كثير، وبُعيد انتقال النبي الأعظم (صلى الله
عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى، مُنع تدوين الحديث بشكل
رسمي من قِبل مَن وضعوا أنفسهم في مكانٍ ليس لهم،
ولأغراض معروفة، ولكنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(عليه السلام) ومَن كان حوله لم يصغوا لهذا المنع، بل
في قبال ذلك جاهر أمير المؤمنين (عليه السلام) مؤكدًا
على ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واستمر
المخلصون بالتدوين والكتابة غير آبهين بقرارات السلطة،
فخرج نتيجة ذلك إلى الملأ عدّة مصنفات، وانتشرت بين
الناس، ومرّت هذه المسيرة بمراحل صعبة، إلى أن اتّسعت
وتطورت، فكُتب في زمن الإمامين الباقر والصادق (عليهما
السلام) فقط آلاف الكتب والرسائل، وفي شتى حقول العلم
والمعرفة، وكان للعلوم الشرعية الحظ الأوفر من بينها،
فبرزت جملة من تلك الكتب عُرفت فيما بعد بالأصول
الأربعمائة، وهي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف،
وقد صرّح الحر العاملي في خاتمة كتابه الوسائل: أنه
أحصى تلك الكتب التي دوّنت في عصر الأئمة (عليهم
السلام) فزادت على ستة آلاف وستمائة كتاب([3]).
فمن هنا
نقف على أهمية الدور الذي قام به أصحاب الكتب الأربعة
-"الكافي" للشيخ الكليني، و"مَن لا يحضره الفقيه"
للشيخ الصدوق، و"التهذيب" و"الاستبصار" للشيخ الطوسي -
من جمع وحفظ لأهمّ تلك الروايات التي وردت في
المصنّفات السابقة عليهم، ولأجل ذلك كانت لهم تلك
المكانة الرفيعة، والمنزلة السامية عند علماء
الإمامية، منذ ما يزيد على ألف سنة خلت، وحتى عصرنا
الحاضر، وما ذلك إلا لما امتازت به من ميزات وخصائص لا
توجد في غيرها مما كُتب، وكان صاحب الدور الأبرز من
هؤلاء العظماء، هو الشيخ محمد بن يعقوب الكليني،
ولكتابه الكافي، فقد كان - بحقٍّ - النجم الساطع،
والنور المتألّق من بينها، وذلك لما امتاز عن
المميَّز، وارتفع عن الرفيع، فهو الأول تأليفًا من
بينها، والأقدم تاريخًا، والأشمل موضوعًا، والأكثر
رواية، والأصح سندًا، والأقرب إلى عصر المعصومين
زمانًا.
انطلاقًا مما تقدم سأخصّص البحث في هذه الدراسة حول
كتاب الكافي محاولاً الإضاءة على بعض جوانبه، رغم
العديد مما كُتب فيه، إلا أنني سأحاول أن أذكر شيئًا
جديدًا قلما ذكره أحد، أو ذُكر إلا أنه كان بشكل مختصر
وغير وافٍ، أو كان فيه أوهام عديدة.
أقول
وبالله التوفيق:
إن كتاب
الكافي لمؤلّفه ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب
الكليني (ت 329هـ)، استأثر بالمرتبة الأولى من بين
الكتب، وأَسَر لبّ العلماء والمحققين، والفضلاء
والمجتهدين، وما كلّ ذلك إلا لاشتماله على خصائص لا
تُوجد في غيره، وتفرّد بأمور لم يسبقه إليها أحدٌ من
قبله، فقد أمضى (رحمه الله) في تأليفه مدة عشرين سنة،
عاكفًا على أصول أصحاب الأئمة وكتبهم يجمع بينها،
وينتخب منها حتى اجتمع لديه منها الشيء الكثير،
فهذّبها في أحسن تهذيب، ورتّبها في أجمل ترتيب،
وبوّبها على حسب حاجة المكلف إليها، ولأجل ذلك وصفه
كبار العلماء - قديمًا وحديثًا - بأوصاف لم يُوصف بها
غيره.
ثناء العلماء على كتاب الكافي
قال شيخ
مشايخ الطائفة محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت
413هـ) أنه: "من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة"([4]).
وقال
الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي (ت786هـ) في إجازته
لعلي بن الحسن المعروف بابن الخازن الحائري: "... كتاب
الكافي في الحديث الذي لم يُعمل للإمامية مثله"([5]).
وقال
الشيخ إبراهيم القطيفي في إجازته للشيخ شمس الدين
الاسترابادي في سنة 920هـ: "... وكتاب محمد بن يعقوب
الكليني، فإنه كافٍ شافٍ وافٍ"([6]).
وقال
الشيخ المحقق علي بن الحسين الكركي (ت 940هـ) في
إجازته للقاضي صفي الدين عيسى: "... ومنها جميع مصنفات
ومرويات الشيخ الإمام السعيد الحافظ المحدّث الثقة
جامع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أبي جعفر محمد
بن يعقوب الكليني، صاحب الكتاب الكبير في الحديث
المسمى بالكافي، الذي لم يُعمل مثله... وقد جمع هذا
الكتاب من الأحاديث الشرعية والأسرار الربانية ما لا
يوجد في غيره..[7]"
وقال الفيض
الكاشاني (ت1091هـ) في وصفه للكتب الأربعة: " وأما الكافي،
فهو... أشرفها وأوثقها وأتمّها وأجمعها لاشتماله على
الأصول من بينها، وخلّوه من الفضول وشينها"([8]).
وقال
العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي (ت1111هـ) في مقدمة شرحه
على الكافي: "وابتدأت بكتاب الكافي للشيخ الصدوق ثقة
الإسلام مقبول طوائف الأنام، ممدوح الخاص والعام، محمد بن
يعقوب الكليني، حشره الله مع الأئمة الكرام، لأنه كان أضبط
الأصول وأجمعها، وأحسن مؤلفات الفرقة الناجية وأعظمها"([9]).
وأكتفي بهذه
الكلمات، لأن القارئ الكريم يستطيع أن يكوّن من خلالها
صورة واضحة جليّة عن أهمية كتاب الكافي، ولو أردت أن
استقصي ما قيل فيه لطال بنا الكلام، وخرجنا عن المقام.
ومن الواضح
أن ثناء العلماء الأعلام ومدائحهم لا ترجع إلى حجم الكتاب
وكثرة أحاديثه، لأنه كُتب قبله وبعده بما زاد عليه حجمًا
وعددًا، وإنما نال هذا الإطراء لاشتماله على ميزات لم
يشتمل عليها غيره.
ترتيب الكافي
قسّم الشيخ
الكليني كتابه إلى ثلاثة أقسام: - الأصول والفروع والروضة
- وقد طبع مؤخرًا في ثمانية أجزاء:
الأول
والثاني اشتملا على كامل الأصول.
والثالث إلى
نهاية السابع، على كامل الفروع الفقهية ابتداءً من
الطهارة، وانتهاءً بكتاب الأيمان والنذور والكفارات.
والجزء
الثامن والأخير خُصّص للروضة، من خلال اسمه يُعرف محتواه
ومضمونه، فكان مجموع الكتب فيه خمسة وثلاثين كتابًا حسب
الطبعة المشار إليها، وزادت الأبواب فيها على الألفين
والمئتين، وعدد الأحاديث على الخمسة عشر ألفًا وخمسمئة،
هذا ووقع اختلاف بسيط بين ما ذكره الشيخ الطوسي والشيخ
النجاشي في عدد كتب الكافي، فقد أسقط كلٌّ منهما بعض
الكتب، ووحّدا بعضًا آخر منها، فوقع الاختلاف بينهما، إلا
أنهما اتفقا على أن كتاب الروضة من جملته وخاتمته.
شبهة حول نسبة الروضة للكليني
نقل الميرزا
عبد الله أفندي الأصفهاني (من أعلام القرن الثاني عشر
هجري)، عن الشيخ خليل بن الغازي القزويني الأخباري
(ت1089هـ) أنه يقول: "إن الروضة ليست من تأليف الكليني
رحمه الله، بل هو من تأليف ابن إدريس، وإنْ ساعده في
الأخير بعض الأصحاب، وربما ينسب هذا القول الأخير إلى
الشهيد الثاني أيضًا، ولكن لم يثبت"([10]).
وقبل هذا
الشيخ لم أعثر على أيّ كلام فيه تشكيك، فضلاً عن الاعتقاد
بأن الروضة ليست من تأليف الشيخ الكليني، ولا أدري ما الذي
حمل هذا الشيخ، وربما غيره، على هذا الكلام، ولا أرى له
أيّ مبرّر على الإطلاق، علمًا أن الشيخ القزويني شرح كتاب
الكافي مرتين، الأولى باللغة العربية، وهو شرح كامل
وسماه(الصافي في شرح الكافي)، وأخرى باللغة الفارسية وهو
شرح غير كامل، وسماه (الشافي في شرح الكافي)
([11]).
وعلى كل
حال، فهذا الزعم باطل جزمًا من عدة وجوه:
الأول:
إن طريقة الشيخ الكليني في جميع كتاب الكافي متحدة مع ما
في الروضة من حيث الشيوخ والأسانيد والطريقة والأسلوب، فإن
من روى عنهم في الروضة هم أنفسهم الذين روى عنهم في سائر
الأجزاء من الكافي، وما فيها عن غير مشايخه المباشرين، فهو
معلّق - حسب مصطلح علم الدراية - على سابقه كما هو معلوم
من طريقته في جميع أجزاء الكافي.
الثاني:
وجود عدد كبير من الروايات رواها الشيخ الكليني في الروضة
عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، أو عن أحمد بن محمد بن
عيسى، أو عن أحمد بن محمد بن خالد، وهذه الطريقة للعدد
الثلاث ليست موجودة إلا عند الشيخ الكليني، وإن وجدت عند
غيره، فهو عنه ينقل وعليه يعتمد.
الثالث:
ذكر كل من الشيخ النجاشي في كتابه([12])،
والشيخ الطوسي في فهرسه([13])،
وبشكل صريح لا لبس فيه أن كتاب الروضة هو خاتمة كتاب
الكافي، ومن أعرف بكتب الأصحاب منهما!؟ خصوصًا لمثل
الكليني القريب منهما، والمشهور عندهما.
الرابع:
إني لاحظت - وبشكل عابر - فوجدت عددًا من الأحاديث هي
نفسها كان الشيخ الكليني قد رواها في الأصول والفروع من
دون اختلاف سندًا ومتنًا.
وعلى سبيل
المثال لا الحصر، لاحظ الروضة ص151، حديث 135، فإنه قد
تقدّم في الجزء الثاني ص174 باب 75 حديث 16 بعينه.
وكذلك ص306
رقم476، فإنه تقدم أيضًا في الجزء الثاني ص296، باب 116
حديث 14 بعينه.
الخامس:
إذا لم تكن الروضة للكليني، فلمن هي إذًا؟! ولم يدّع أحد
من الأصحاب أنها له، وما قيل بأنها لابن إدريس الحلي -
الذي هو بعد الكليني بأكثر من قرن ونصف قرن من الزمن - لا
دليل يؤيده، ولا اعتبار يساعده، هذا مع بُعد الطبقة
واختلاف الطريقة بين مشايخ أسانيد الروضة وابن إدريس.
السادس:
إن نقل الأصحاب واعتمادهم قديمًا وحديثًا على كتاب الكافي
بأقسامه الثلاثة، الأصول والفروع والروضة، من دون أي
تردّد، أو أدنى تأمّل فيها إنما يكشف عن تعاملهم مع الكافي
بما فيه الروضة على أنها منه، ولم نر أو نسمع من احدٍ
تشكيكًا سوى من تقدّم ذكره.
وأخيرًا
أشير إلى أن بعضهم ذكر مما استدل به على أن الروضة هي من
الكافي بما جاء في نهاية الجزء السابع من الطبعة الحديثة
المتداولة: ((... ويتلوه كتاب الروضة من الكافي إنشاء
الله)).
والصحيح أن
هذه العبارة أضيفت مؤخّرًا على الكتاب لدواعٍ فنيّة فقط،
وإلا فهي غير موجودة في الطبعات القديمة الحجرية، ولا في
المخطوطات للكتاب.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــ
مبلّغ ديني ومدرّس في الحوزة العلمية.
[1]
- كنز العمال، للمتقي الهندي: ج10، ص262، ح29389.
[2]
- تقييد العلم، للخطيب البغدادي: ص69.
[3]
- وسائل الشيعة: 30/165، نهاية الفائدة الرابعة.
[4]
- تصحيح الاعتقاد،: ص70.
[5]
- لاحظ إجازات بحار الأنوار: 107/190.
[6]
- المصدر السابق: 108/114.
[7]
- المصدر السابق: 108/75.
[10]
- رياض العلماء وحياض الفضلاء: 2/262.
[11]
- لاحظ أمل الآمل: 2/112، رقم 314 ؛ ورياض
العلماء: 2/265.
[12]
- رجال النجاشي: ص377، رقم 1026.
[13]
- الفهرست، الطوسي: ص326، رقم 709.
|