العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

الإنسان والموت

*الشيخ علي ياغي

مدخل:

الموت هو ذلك المعنى الذي نعيش الإحساس به والتعرّف إليه في مُجملِ حالاتنا، فتارة نقترب منه عبرَ اختلاجات الألم التي تصيب أبداننا، وأخرى في علامات الوهن تغزو مملكة كياننا، وثالثةً عندما يُحدق بنا خطر مزاحمة قِوى المادة بعضها للبعض الآخر، كمن يُشرف على الغرق في لجّة البحار وغمراتها، أو عندما يَغزو الصقيع صفحة الجلد ويقتحم إلى المستور من مخفياتها، أو عندما يَحملُ الهواء وباءً أو الشرب داء لتتصارع قِوى المادة في داخل عرين الحياة... وأجلى صورة للموت يعرفنا بها قوة سلطانه عندما يصرع فتيّا لا نملك فتوته، أو متمنّعا على جنود القهر بحصون تؤمنه الطوارق في مجرى العادة... ويموت، ونحن لا نملك شيئا من اقتداره.

فنحن نعيش الاحساس بالموت والتعرف إليه عبر رسله التي ما انفكت تلازم كل آناتنا، وبما أنه في بعض تجلّياته يُذهلنا عن الحياة ويُبعدنا عن محاكاة كثير من مقتصياتها، لنا أن ندّعي أننا نعيش الموت أكثر مما نعيش الحياة، ونحسُّه أكثر مما نحسّها لأنّه قادر على تغييبها وهي أعجز من أن تقاومه أو تقاوم شيئا من حكاياته.

وأصعب ما في الموت ليس قَهرُهُ للحياة ولا عدْوُه عليها، إنما تحيُّنهُ الدائم كالنسر يُوقف الحية أمام حدقة عينيه ترسم للحية موتها المقدّر غير أن مخالبه التي تعمل بإرادته لا تعلم الحيةُ متى يُعمِلُها لتُنشب تلك المخالب وتسترق الروح من مخبئها... وأحسن ما في الموت أنه وحده يعطي المعنى للحياة... وأفضل ما في الموت أنه يحول بينك وبين النسيان، يذكّرك ربّك فيجزيك ربّك أن لا تنسى نفسك وما تصير إليه... وخير ما في الموت أنه يعرج بالمؤمن من عالم الشقاء إلى عالم الصفاء، ويريح الأرض من وطأة الجبّارين...

ومع ذلك، ومع ما للموت من ظهور نعيش الإحساس به والتعرّف إليه، يبقى الموت غيبا كلما أبحرنا أكثر في غمراته أوقفنا علمنا به على حقيقة واحدة أننا لا نعقل عن الموت إلا أنه غيب يبطن غيوبا وسرّ مقنع بالأسرار.

رهبة ذكر الموت:

لم يزل يعيش في خلد الإنسان شعور الرهبة من الموت والتخوّف لذكره، فلم يطالع الموت وعي الإنسان إلا بما يجلب هذا الشعور، وما يعمّق في الحسّ والطوية تلك الرهبة.

وأن نعيش هذا الشعور إزاء ذكر الموت، فهذا مفيد نافع لأجل خلق التوازن في النفس فلا تميل عن الجادّة المستقيمة.

لأن التحلّل من رؤية الموت على هذا الوصف وأنه ينطوي على مصير غير معلوم المستقَرّ والمآل... يعني الانسياق خلف المشتهيات والمرغوبات دونما رادع يردع أو زاجر يزجر.

فإن أكثر الناس استقامة أولئك الذين يعيشون الترهّب من الموت مما يدفعهم للحيطة أكثر، فيعملون وفق القوانين المؤمّنة لهم في غدهم بعد الموت، والتي يظنّون بها الظنّ الحسن في النجاة من تلك المفاجأة.

فليس من المبالغة أن يقال: بأن ذكر الموت والترهّب منه يدخل في صياغة نمط السلوك عند الإنسان ويحدّد للنفس اتجاهاتها.

فبقدر ما تعيش النفس رقابة هذا السلطان القاهر فوقها، أو بقدر ما تعيش الغفلة عنه، يكون قدرها من الاستقامة أو الانحراف ومرتبتها في الصلاح أو الفساد، فإذا كان الموت بهذه المنزلة والأهمية لا بأس أن نثير جملة نقاط نتعرّف من خلالها ولو على سبيل الخطوة في الطريق الطويل بعض ما يتعلق بالموت فنطرح في حدود مقالنا هذا أربع نقاط:

الأولى: في معروض الموت.

الثانية: الموت غاية ومبدأ.

الثالثة: تنوّع الموت باختلاف الذوات.

الرابعة: علم الإنسان بالأجل.

 

النقطة الأولى: في معروض الموت:

من المعروف لدينا أن الموت الذي نتحدّث عنه هنا إنما هو المتعقّب لحياتنا في هذه النشأة مقابل الموت الأصلي كما في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}([1]).

والمعروف أيضا أن موت كل حي إنما يكون بحسب نوع الحياة وطبيعتها، فليس من الضروري أن يكون الأمر الفلاني الذي سبّب إلى الموت في الطبيعة الحية الفلانية سببا للموت في طبيعة حية أخرى...

إذا سلمنا بما ذكر، فإننا عندما ننظر إلى الذات الآدمية على مستوى كيانها الفردي المتشخّص بزيد لا نجد لونًا واحدًا للحياة، فزيد مركب مؤتلف من عنصرين مادي نطلق عليه الجسد، ومجرّد نطلق عليه النفس... وكل من هذين العنصرين حيّ بحياة خاصّة به، وإذا كان هناك ضرب من التفاعل بين الحياتين فهذا لا يعني وحدة الحياة، ولأنه ربما يقال بأنه لا حياة للجسد بمعزل عن المجرّد فموت الجسد ليس إلا مفارقة المجرّد له وابتعاده عنه... مما يَدعُونا لإثبات الحياة للجسد إذ ادعينا أن لكل منهما حياة تخصّه وأن التفاعل بين الحياتين لا يصيّرهما حياةً واحدةً...

فنقول أن الروح ككائن حي يحتاج إلى محل يَحلُّ فيه ويستأهله ذلك المحل بمعنى قابلية هذا الشيء المحل لاستضافة الروح - الحياة-، ولحلولها في وعائه وفنائه، ولم يختلف أحد مع أحد اليوم، بل المصالحة والمواءمة بين الدين والعلم والحكمة على أن أصل الإنسان من الموات {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}([2]).

هذه الخطوة المبتدأ لا كلام لأحد فيها على أن هذه الخطوة هي أول أطوار الممازجة لقبول المزاج فيما بعد، والمزاج وصف لضرب من ضروب الحياة، وإذا ما عدنا إلى ما قبل الطين والممازجة، فإن الإنسان من التراب وهو جماد خالص لا طور فعلي فيه إلا مع الامتزاج والتمازج {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ}([3]).

إلى هذا الحد أي حد التمازج بين التراب والماء الذي يساوي طينا، نسأل بأن هذا الحد يقبل الحياة ولو بمرتبة من مراتبها بعد القطع بنفي الحياة عن التراب وعن الماء وحده أم أنه لم يزل في طور الجماد القابل للحياة بالقوة عبر الارتقاء إلى طور النباتية فالحيوانية المتحركة الشاعرة.. الخ؟

المعروف أن التمازج بين التراب والماء هو مبدأ للحياة بالتخليق وليس حياة بالفعلية والحصول الناجز، فإن الحد الفاصل بين الجماد والحياة إنما هو النمو الذي يرقى بالمزيج طورًا بعد طور، وخلقا بعد خلق، وحالا بعد حال إلى أن يصير من خلال طوره هذا الفاصل بين الجماد والحياة مؤهّلاً لحلول الروح فيه وإقامتها في وعائه واستضافتها في فنائه، فليست المادة (التراب- الماء) بما هي مادة تستأهل الحياة وتستدعي حلول الروح فيها، إنما بما هما مع الامتزاج والتخليق طورا بعد طور كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}([4]).

وبالطبع إننا لم نحمِّل مقالنا نسبة الحياة إلى جهتها ومصدرها بمعنى هل أن الروح تخلّقت عن الأطوار لتكون الأطوار علّتها أم أن الحياة جاءت من عالم آخر؟

هذا الجانب لا يتحمّله مقالنا ويكفي قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}([5])...

بعد هذا العرض نأتي إلى السؤال الأساس:هل الموت يعرض على الإنسان بكلا جزئيه، مادّيه ومجرّده، أم أنّ الموت يصيب بسهمه واحدا من الجزئين فحسب؟ وإذا كان كذلك فأيّ الجزئين مرمى لسهم الموت؟

والذي نعتقده ونؤمن به إزاء الموت (الأجل) ليس شيئا سوى ما يُعرَّف به الموت من أنه فسخ عقد الإقتران بين جزئي الكينونة الآدمية فحسب، هذا هو فعله وهذا هو تأثيره ليس شيئا سوى ذلك البتّة، فليس الموت سوى خراب المحل الذي كانت تحلّه الحياة وتستضاف فيه النفس وبوقوع الموت تقع الفرقة بين الحال والمحل ويحصل التباعد ليأخذ بعد ذلك كل منهما سبيله المُيَّسّرِ له والمتلائم مع كينونته الخاصة به بعد الانفراد والافتراق.

أما الجسد الذي بلغ إلى كماله في رحلة الترقي من التراب إلى استئهال حلول الحياة فيه فيعود القهقرى بالخراب بالموت إلى مبدئه الأساس، إلى التراب.

وأما النفس ذلك الكائن المجرّد فيذهب إلى عالمه الذي تأهّل له في مدة الاقتران والحلول في ذاك الجسد، ولم يصبه سهم الموت بما أصاب الجسد من الخراب والقهر والتلاشي، فليس الموت إذ يعدو على الذات الآدمية ويحل في ساحتها بالأمر العدمي بل هو ذاك الأمر الوجودي الذي له حكايات حكمية متألّقة سامية، فقد أطلق الموت النفس من عقال المادة، وحررها من سجنها الضيق، وأفسح أمامها في فضائها، وأرجعها إلى ربّها، ولذا عبّرت الآية المباركة عن الموت بأنه مخلوق فقال جلّ وعلا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}([6])، والمعروف أن كل مخلوق له كيفيّته وآثاره وحيثيّات وجوده... ومن جملة آثاره الوجوديّة ما في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ( الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا)، والمفروض بلسان هذا التعبير الشريف أن الانتباهة وهي فعل الحي المدرك متعقّبة للموت.

وعليه فإنّ الموت ليس سوى طور من أطوار الحضور والشهادة و الإدراك، مما يؤكّد أنّ الموت هو أمر وجوديّ بما للكلمة من معنى، بل لنا أن ندّعي بأنّ الموت تحرير للحياة التي كانت معتقلة بسجن المادة وهيكلها، ففي قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}([7]) خير شاهد على هذا المعنى.

النقطة الثانية: الموت غاية ومبدأ:

هذا الموت الذي تنفر منه الطباع، وتفرّ عند ترائي محذورات النفوس، وتطلب النجاة منه بكل سبيل ووسيل، وتتكدر عند ذكره -لعظم أمره- السرائر، وتنكسر لظهور علائمه الخواطر، كل ذلك انسجامًا مع حب البقاء وكراهة الفناء، وصعوبة مفارقة المألوف وللأنس بما جرت عليه عادة الأيام من مصاحبة الأهل والخلان...

هذا الموت الذي يشتمل عند كثير من النفوس على هذه الأحوال وسواها من الأعلال ربما لا يتوافق مع النظرة المبتنية على الدقة في تقدير الموت، وما يوجبه كقضيّة تتوسّط عالمين مثّل الموت غاية لأوّلهما ومبدأ للثاني منهما.

فإذا كان الموت فعلا من أفعال المهيمن الحكيم عزّ اسمه، لنا أن نسأل عمّا قدّره المهيمن من قيمة للموت ومن سببيّة فيه؟ فإنّ فعل الكامل التام لا تنفك عنه الحكمة التامة كذلك.

والذي يظهر جليّا من خلال الآثار الدينيّة أن الموت واحد من تجلّيات صنع القدير عزّ اسمه، الذي يُظهر من خلاله جملة عناياتٍ لأسمائِه وصفاته، من قبيل القدرة والحكمة والرحمة والعدل وما يرجع إليها، فليس الموت في مجرى السّنن الإلهية والتقدير الربوبي إلا فعل القادر الحكيم، والعدل القوي المتين، والمدبّر أمر خلقه في أحسن تدبير وأدقّ تقدير.

فقد نحصي على الموت إذ جُعل نهاية الكون للنفس في لبوس الأبدان، أن هذه الحياة التي نحياها ليست مطلوبة بذاتها، وليست معنية بالخلود والبقاء والديمومة من غير فناء، فربطًا للموت  بصفات خالقه ومقدّره وأجلاها الحكمة، يجب أن نقرأ فيه معنى ينسجم مع حكمته عزّ اسمه، ومن الواضح أن الموت غاية وبداية وحد فاصل بين عالم له شأنه وخواصه وغاياته وعالم آخر له أيضا خواصه ومزاياه.

فقد مضى في حكمة الله جلّ شأنه، وفي تقديره أن تكون الحياة الدنيا التي نحيا أيّامها، ساحة مسابقة في فعل المبرّات والخيرات، وأن نتمثّل فيها صالح العمل، وزين الأفعال، وكريم الخلال.

فإن تكن للحياة الدنيا رسالة وغاية ووظيفة وعناية، فإنّما هي تأهيل النفس وتزكيتها وإعدادها للخلود والبقاء منعّمة في دار الخلود.

وهذا المعنى كان ملحوظا بنظر ألسنة الهداية كتابا وسنة، غاية ما في الأمر أنه تعبير بنحو التضمين لا بنحو الكشف الصريح وتسمية الأشياء بعين مسمّياتها، فقد عبّرت تلك الألسنة عن الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب وزينة وعبّرت عن اليوم الآخر بالجزاء والوفاء بالوعد وما إلى ذلك.

وقد يقال: كيف تكون الحياة الدنيا لهو ولعب، مع أننا نعيش الجدّية والعناية الكبرى بشأن قضايا حياتنا الدنيا وما عهد به إلينا من تكاليف، مع أنه كلما كان الفرد يعيش الإيمان باليوم الآخر بروح اليقظة وحسِّ التنبّه أكثر كلّما كانت جدّيته وحزمه وعنايته ودقّته في هذه الحياة الدنيا أكثر؟

الجواب على ذلك: أن نظر ألسنة الهداية، وكلمات الرسالة مصروفة عن جديّة الإرادة في العامل، وجديّة القصد عند الناظرين في مآل الأمور، وعواقب الأعمال، وتبعات الأفعال إلى شيء آخر، وهذا الشيء الآخر لا ينبغي أن يكون تقدير الحياة الدنيا بحدودها غير منسوبة إلى عالم الآخرة، وما فيه من حقائق ودقائق وآيات ومسرّات ومباهج ونعيم، فمن البديهي أن قيمة الأشياء إنّما تتجلّى للفهم عند المقابلة بعضها بالبعض الآخر، وعند نسبة الشيء إلى شيء آخر، فيظهر حينئذ التفاضل عند النسبة والمقايسة، وعند المناظرة والمشابهة...

ألا ترى إلى الذي يقال له انسب ضوء الشمعة إلى ضوء الشمس، أو حجم الذرة إلى حجم المجرّة، ماذا يقول؟؟...

فاللعب واللهو والزينة ليست هي القيمة الذاتية للحياة الدنيا، بدليل أنه لو كانت سرمدا وقدّر لها الجليل ألا تزول وحجب عن علمنا ذلك اليوم، أو لم يوجد أصلا بما فيه، لكان تقدير وتقييم هذه الحياة من غير إضافة الوصف أي (الدنيا) صحيحا.

فهذه الحياة التي يعيش فيها فئة من الناس الجديّة العالية، والخوف والرقابة والحيطة، مع دونيتها ووضاعتها، ما كانت لتكون كذلك إلا بواسطة المقايسة والنسبة إلى اليوم الآخر.

ومن هنا لنا أن نؤمن بأنّه لا شيء يعطي الحياة قيمتها سوى الموت، بما هو معبر إلى ذلك العالم العالي وخلاص من هذا العالم الوضيع الداني.

فالموت غاية لهذه الحياة الدنيا وبداية للحياة الأبدية، تتجلّى فيه جملة من أسمائه وصفاته عزّ اسمه، ولمّا عبّرت ألسنة الهداية وكلمات الرسالة عن اليوم الآخر بالجزاء، فقد ضمنته العمل، لأن مفهوم الجزاء إنّما  يصدق مع سبق العمل عليه وإلا كان هبة، فإذا كان الموت يمثّل معنى فهو نهاية وغاية لمسيرة العمل، تنقطع عنها النفس بالأجل، وهو بداية موسم الجنى وقطف الثمر.

فبحقٍ... الدنيا مزرعة الآخرة، واليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل، فللموت الذي نحيا من أجله لنحيا به ألف تحية وسلام.

النقطة الثالثة: تنوّع الموت باختلاف الذوات:

من أوضح تعبيرات العدل وجليّ صوره عندما تبلغ الأنفس آجالها، أن لا يكون الموت الذي يعرض عليها ذا طعمٍ واحد، ومظهرٍ واحد، ومنظر واحد، بل يجب أن يتمثّل لكل ذات آدمية جاء أجلها  بحسب ما يليق بتلك الذات، وما هي مستحقّة له من حال الموت، وموافاة الأجل.

فبين يدي انقلاب الزمن من مفارقة الحياة الدنيا وإقبال اليوم الآخر، وبين تحوّل الإنسان من عالم هذه النشأة للتأهب والاستعداد للنشأة الأخرى، بين يدي هذه الرهبة المكرّمة واللحظة التي تتجلّى فيها معالم الزمن القادم، معالم تلك الدار بما لها من واقع مرسوم ومجسّد، بفعل ما كانت عليه الذوات في الحياة الدنيا، وما بدر منها، وما صدر عنها وما عاشته من فكرة وما ترجمته من عمل...

بين يدي هذه اللحظة التي يعكس فيها الموت في مرآته صورة ذلك الغد، يتجلّى للعدل معنى شديد الوضوح، لامع الحضور، صادع الصوت، ناف للريبة والشكوك، في أنّ الساعة ساعة الحقيقة التي لا يمازجها لعب ولا باطل.... فهو يعطي الآن للنفس من أقدارها الموعودة أو المتوعّدة ما يناسب محطّة هذه الرحلة عن عالم النشأة الأولى إلى عالم النشأة الأخرى.

وبما أن هذا الأمر غيب ولا سبيل للعلم بالغيب إلا بالإخبار عمن لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وجب طلب ذلك من الكتاب العزيز والأخبار عن النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)...

لكن من المفيد أن نذكر ما يُبنى عليه اختلاف الموت باختلاف الذوات.

 فبعد أن عرفنا بأن الموت هو فسخ عقد الاقتران بين الجسد والنفس، بين المادي والمجرّد، بعد أن كان بينهما عقد شراكة في الوجود، لتشرف النفس بعد هذا الحلول، وهذه الإقامة على عالمها الآخر، عالمها الثاني بواسطة الموت، وعرفنا أن العالم الثاني هو عالم الجزاء، إن وفاءً بالوعد أو إيذانًا بالوعيد، كان من الضروري أن تكون الخطوة الأولى في هذه الطريق من جنس نهايتها، فمن كان من الأبرار ليس كمن كان من الأشرار، في ظهور الموت على أفق نفسه، ففرق بين مودع عالم الحياة الدنيا إلى نعيم الآخرة، وبين مودع لها إلى عالم الجحيم والعذاب المقيم.

فأن يكون الموت الذي هو بداية الخطو إلى واحد من المقصدين يحمل ذات المعنى، وعين المبنى لكلا المغادرين المختلفين في العاقبة والمنتهى، فهذا ما لا يليق قبوله ولا يرجح ارتضاؤه، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى لو كنا نعلم حقيقة العلقة بين الجسد والنفس، هل هي من باب الحلول؟ أو من باب التعلق؟ أو من باب الاندماج؟ أو أي نحو آخر؟

فلربما استطعنا أن نحدّد معالم هذه المفارقة والتباعد، فهل هي على نحو وجود الذبذبات في السلك المعدني؟ أو أنها وجود ظلي أثيري يشبه الظل البارز لجسد الإنسان؟ أو على نحو الماء في الإناء؟ أو على نحو اللون في الماء؟...

لو كنا نعلم نحو ارتباطها بالبدن ربما استطعنا أن نحدد طبيعة هذه المفارقة، وما ينتج عنها من أثر بدقة أكبر، ولربما استطعنا أن نعلل ذلك بالتعليل العلمي المعهدي، غير أنه لا سبيل إلى ذلك حتى الآن، وما قيل ليس برهانيا قاطعا، ولكن مع ذلك من المقطوع به والمحتوم، أنه كلما كان الارتباط بين شيئين أعمق كان الانفصال والتباعد بينهما أصعب، وأخطر، وأفدح.

وعليه فإن أي حال من أحوال الارتباط، ونحو من أنحائه بين الجسد والنفس، بين المادي والمجرّد، يصحّ أن يقسّم إلى ارتباط عميق راسخ، وإلى ارتباط عادي سهل الانفكاك، مهما تكن للنفس من ماهية، ومهما يكن طبع العلاقة بينهما في مساحة الذات الآدمية...

نرى أن التقسيم إلى هذين النوعين العميق الراسخ، والعادي السهل، منطقي أبدا، يشهد لمنطقيّته وصوابيته جملة من المظاهر السلوكية التي تحسم مادة الجدل إزاء ذلك، فكل من كانت لهفة نفسه على جسده أعظم وحيطتها لمصلحته أكبر، دلّنا ذلك على العلقة الراسخة العميقة بين النفس والجسد، ودلّنا ذلك أيضا على قاهرية الجسد، بما هو طَلاَّب شهوة غريزية، جذاب إلى عنصره الترابي الداني، جمّاح إلى الجمع من ملتذاته ومرغوباته، ميّال بالنفس ذي الجوهر الأعزّ والأعلى لخدمة مشتهاياته، مما يكون منشأ للحرص، والبخل، والجبن، والحسد، والحقد والإثرة، والجمع، وحب الدنيا المتزيّنة لهذا الكيان ذي الطبع الذي ذكرناه، كما يعرف ذلك من قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }([8]) أو قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}([9]).

فإن هذه الآيات المباركة لسان تعبير عن حال بعض الأفراد الآدمية، الذين غلب عليهم الهوى، وسيطر عليهم حب الدنيا، فعاشت نفوسهم أسيرة هيكل المادة وما يخدمه فحسب، فتردّت النفس بتردّي الجسد، وضحلت بضحالته، وانقلبت قريبة من طبعه، مسوسة لغاياته الوضيعة، مستأنسة لراحته، مسرورة لقيامها بوظائفه حالمة بالبقاء في ظل ظلمته، محجوبة عن بهاء نور ذي العزّة والجلال بغمسته...

هذا النوع من النفوس المبتنية علاقتها مع الجسد على تلك الأسس، تكون ذا ارتباط راسخ عميق بالجسد.

وأما النفوس التي خرقت - لقوّة نورها بالعلم والتأدّب والتعقّل والنظر في عواقب الأمور - ظلمة الحجب الترابية، وبتأييد من الله، وتسديد من رحمته عزّ اسمه، فلا يكون وجودها مع الجسد على النحو الأوّل، فنفوس المؤمنين بوعد الله ووعيده، المقدّرين قيمة هذه الحياة الدنيا، العارفين بالله وأمره ومجرى سننه، المتيقّظين لرهبة الحساب بين يديّ العزيز الحكيم، الناظرين إلى الجنّة ونعيمها بعين الشوق، وإلى النار وجحيمها بعين الخوف، هؤلاء لا تكون علقة نفوسهم وأرواحهم بالجسد ومتاع الحياة الدنيا وزينتها، راسخة عميقة متأصّلة متجذّرة، ولقد ذكر عليّ (عليه السلام) وصف هؤلاء فقال: (عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل فيه، فقرّب على نفسه البعيد وهوّن الشديد، نظر فأبصر وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهّلت له موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلّى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح الظلمات، كشّاف غشاوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل قلوب، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه)([10]).

وعليه أنّى للموت العدل، والسَّنَن الحق أن يعرض على النفوس بعروض واحد، وكيفٍ واحد؟

 بل لنا أن ندّعي أكثر من ذلك على ضوء أنّ قيّم الوجود في العالمين والنشأتين وما بينهما واحد، وأنه أمات وأحيا، وأضحك وأبكى، ووفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، لنا أن ندّعي مضافا إلى اختلاف الموت باختلاف الذوات أنّ اختلافها أيضا سبب لتقدير الموت في الزمان والمكان، وفي الكيف الظاهر للعيان، فضلا عن المستور في الأبدان، كل ذلك انسجاما مع كون الموت بداية يوم الحق والعدل والجزاء...

ولا بأس في نهاية هذا العنوان أن نذكر بعض الآيات الكريمة تركيزا للمدّعى وتذكيرا لأولي النهى... من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}([11]).

ومنها قوله تعالى: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}([12]).

وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}([13]).

وقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ*وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ*وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ*وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}([14]).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([15]).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([16]).

يتبع=

ـــــــــــــــــــــ

*  مبلّغ ديني ومدرّس في الحوزة العلمية .

([1]) البقرة من الآية 28.

([2]) السجدة من الآية 7.

([3]) الصافات11.

([4]) الحج من الآية 5.

([5]) الإسراء85.

([6]) الملك2.

([7]) ق من الآية 22.

([8]) آل عمران14.

([9]) المعارج19 -20-21.

([10]) نهج البلاغة ج1 ص151 خطبة رقم 87 طبعة دار المعرفة.

([11]) الأنعام من الآية 93.

([12]) الجاثية آية 21.

([13]) الأعراف37.

([14]) القيامة الآيات 26 - 27 - 28-29.

([15]) النحل32.

([16]) النحل28.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية