وكان ينقل لنا عن تلامذته (قدس الله
أسرارهم جميعاً)، ومن جملتهم المرجع الراحل
الحكيم، وجدّنا الشيخ يوسف الفقيه(قدس
سره)،
أن درس الآخوند صاحب الكفاية ربما كان يستمر
الساعة والساعات لتحقيق المطلب وتوضيحه، بالأخذ
والرد والتحقيق، ثم وضع هذا الكتاب للتدريس، مع أن
درسه كان درس الخارج، أي من الدروس العالية
النهائية التي يمكن لطلابه أن يكون لهم الرأي في
هذه المطالب.
وهو على كل حال من الناحية المنهجية
يتضمن التسلسل الدقيق لعملية التدرج في إعطاء رأيه
في المطالب الأصولية التي يحتاجها المجتهد في مقام
الاستنباط، خصوصاً الجزء الأول بما تضمنه من
المقدّمات التي ليست لها صلة مباشرة بقواعد
الأصول، ولكنه لا يُستغنى عنها في علم الأصول
لتكون قواعده متكاملة من جميع الجهات، كمسألة
القطع والاشتراك والمشتق ونحوها.
وأما الجزء الثاني من كتاب الكفاية:
فهو على نفس الطريقة، ولكنه لا يخرج عن مطالب
الرسائل لأستاذه الشيخ الأعظم الأنصاري الذي كان
عبارة عن نفس درسه الذي يلقيه في بحث الخارج
العالي الموصل إلى النتيجة، فكانت مدرسة صاحب
الكفاية على عكس مدرسة الشيخ الأنصاري، فقد طبع في
كتاب الرسائل نفس الدروس التي كان يلقيها الشيخ
الأنصاري، وقد كان تلامذته يدرّسون هذا الكتاب لمن
كان وقتهم ملكاً لهم، ويعطونهم بعد إكمالها
ونجاحهم في فهمها إجازة الاجتهاد في هذه القواعد.
ثم حصل تطور في طلاب العلوم وليس في
المناهج، فكانت الكفاية للاطّلاع على أصل المطلب
وفهمه ليمارس في دروس الخارج مناقشته على ضوء آراء
الآخرين من الأساتذة.
كما صارت الرسائل لفهم جميع ما فيها
فهماً تصورياً حتى يصل إلى أستاذ بحث الخارج ليضع
النقاط على الحروف بعد استعراض مطلب الرسائل
ومناقشته، علماً بأن المطلب الذي يتبناه الشيخ
الأنصاري في الرسائل قليل، بل هو دائماً يناقش
ويؤيد المطلب ويخدشه، فكان هذا الكتاب بالمنهج
التربوي العلمي الذي لم يوجد مثله في علم الأصول،
وحتى المطالب الأصولية التي جعلها الآخوند وغيره
من تلامذته، وتلامذة تلامذته، محور البحث لا تزال
هي المطالب المركزية في علم الأصول العملية، بحيث
لم نجد ولا نعلم من وجد أو ادعى أنه وجد مطلباً في
الأصول العملية له دخل فيها، إلا وهو مذكور في
الرسائل تصريحاً أو عرَضاً، إشكالاً أو جواباً،
سواء ممن تقدمه من الأصوليين أو تأخر عنه، بل لم
توجد، مع أن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه عند
الشيعة.
وبالعبارة المختصرة: قد طوّر هذا الشيخ
الأعظم وتلميذه الخراساني علم الأصول بنحو لم
يسبق، ولن يلحق، وكانت بعدهما، لعشرات العظماء
المحققين مدراس أصولية مختلفة في أساليبها، ولكن
الكل كانوا عيالاً على هذين العلمين، حيث كانت
مطالبهما وآراؤهما هي المحور والمسألة المركزية.
وخلاصة القول: بأن علم الأصول في
الحوزات الدينية غير الأكاديمية في أعلى مراتب
التطوير، خصوصاً وأن هذا المنهج هو الذي دفع
بمدرسة الفقه الشيعي إلى هذا التطور الهائل، الذي
ربما يسبق عصره من كثير من الجهات، كما يظهر لمن
سبر المسائل الفقهية التي كانت مطروحة قبل هذا
العصر.
نعم ربما يؤخذ على الحوزات المعاصرة
عدم الالتزام بالعلوم الأخرى إلا من خلال جهد
الطالب الشخصي، هذا صحيح، ولكن على مرّ العصور كان
هناك أشخاص عظماء ينصرفون إلى العلوم الأخرى كعلم
الفلسفة والكلام وعلوم الهيئة وغيرها من العلوم
التي تعطي لصاحبها صفة الموسوعية، وهذا أمر في
غاية الأهمية، ولا نعرف مرجعاً لم تكن عنده هذه
الصفة، ولذلك وصلوا إلى هذه المرتبة، ويرجع الناس
إليهم في كل هذه العلوم.
بناء الشخصية
من المناهج وأساليبها إلى العلاقة بين
الطالب والمدرّس، تقدم حوزة "النجف الأشرف" في
حاريص نموذجًا مثاليًا، إذ لا تقف العناية بالطالب
عند حدود التدريس ومن ثم التخرّج وحسب، ولكن يضاف
إلى ذلك جهد متواصل يبذله القيّمون في الحوزة
لتكون مقاعد الدراسة مقاعد لتكوين شخصية إسلامية
فاعلة وناشطة في المجتمع ومؤهلة بجدارة العلم
وكفاءته وحسن السلوك والسيرة لحمل رسالة الدعوة
إلى الإسلام الأصيل، ولذلك يتم التركيز إلى جانب
العلوم المقرّرة، على تنمية الجانب الروحي
والأخلاقي في سلوكيات الطالب لتنقيتها من الشوائب
التي لا تنسجم مع شخصية الإنسان المسلم العادي،
فكيف برجل الدين، ومن هنا يأتي التشدّد في قبول
طلبات المنتسبين إلى الحوزة التي تشترط في طالب
العلم لقبوله في الحوزة أن يكون حاصلاً على شهادة
تعريف وحسن سلوك من علماء تأخذ الحوزة وتثق بهم،
وأن يكون أيضاً حائزًا على شهادة علمية تؤهله دخول
الجامعة، وهما شرطان تمّ تبنّيهما وإدراجهما في نص
ميثاق الحوزات العلمية الدينية في لبنان، وهو نص
لأهميته تنشره
(رسالة النجف)
في مكان آخر من هذا العدد.
الميثاق
وهذا الميثاق الذي وضع عام 2002 كان
لحوزة النجف الأشرف وأساتذتها إسهام كبير في
إنجازه لتحصين واقع الحوزات الدينية وحماية
مواقعها في نفوس المؤمنين من سلبيات فوضى الانتماء
إليها وإساءة غير الكفوئين علميًا وأخلاقيًا الذين
يتسلّلون من فوق أبوابها، وفي هذا الإطار التقت
(
رسالة النجف)
أحد أساتذة الحوزة سماحة الشيخ
محمد صالح الفقيه وأجرت معه الحوار التالي:
§
كان لكم إسهام مشهود في وضع ميثاق العمل الحوزوي،
ما أهمية هذا الإنجاز وانعكاساته على واقع الحوزات
الدينية؟
o
ميثاق الحوزات
العلميّة الدينيّة في لبنان، يحاول تسليط الضوء
على مناهج التعليم الحوزويّ، ومراقبة سيرها،
وصيانة الحوزات وصنف أهل العلم من الدخلاء
والمتجاوزين، وهذا أمر لا زال واقعنا الاجتماعي
ينادي بكونه ضرورةً لا غنىً عنها، خصوصاً بعد
ملاحظة المسؤولية الجسيمة الواقعة على كاهل علماء
جبل عامل وحوزاتهم العلميّة، إذ لم يبق للطلبة
العامليّين ملاذٌ علميٌ غير بلدهم في هذه الفترة
التي اشتدّ فيها التضييق على الحوزة الأم في النجف
الأشرف، حتى إنها آخذة في الضمور عاماً بعد عام
رغم صمود مراجعنا العظام حماهم الله، ولا تتوفر
لهم في حوزة قم المقدسة مقوّمات الاستمرار في
التحصيل حتى صار الملاحظ فعلاً أنهم يضطرون للعودة
منها دون بلوغ مرتبة الاجتهاد، فكان من الواجب
إعادة هذا النبع العلميّ إلى سابق عهده من
الحيوية، وكان من الضروريّ تنظيمه وصيانته من
التلوّث.
§
كيف بدأت الخطوة الأولى ومَن الجهة التي بادرت؟
o
لقد كانت في السابق
مساعٍ حميدةٌ من كثير من المخلصين دون أن يتم أيّ
إنجاز عملي في هذا المجال، ولكنّ السعي الدؤوب
والمتابعة الحثيثة أثمرت بحمد الله تبارك وتعالى،
فقد وفِّق في السعي لإنشاء هذا الميثاق جماعة من
أهل العلم، هم من جملة الغيارى على المذهب عموماً
وعلى صنف أهل العلم خصوصا، الذين يمتعضون لما يُرى
من نقصِ التنظيم في شؤون طلب العلم الدينيّ،
ويتألّمون لما يتناهى إليهم من تصرّفات ناشزةٍ
تصدر من قلّة من المتلبسين بزيّ أهل العلم،
ويتحسّرون لعجزهم عن التصدي لشاذٍّ هنا يدّعي
موقعا دينيّا لغايةٍ بعيدة عن النزاهة، وآخرَ هناك
ينتحل عنوان أهل العلم ويتلبّس بلباسهم، يحتال على
الناس ويخدعهم لأجل أغراض دنيئة يندى لها جبين
الحرّ.
فكان أن اجتمع لمرّات متعددة ثلة من كبار أهل
العلم المشرفين على جملة من أمهات الحوزات
الدينيّة في لبنان واتفقت كلمتهم على مضمون هذا
الميثاق الذي روعي فيه الاقتصار على الموادّ التي
هي محلّ الإجماع، وعدم التعرّض لما هو مظنّة
الاختلاف في وجهات النظر، بحيث يتوخّى أن يوافق
رأي سائر علمائنا الأجلاء ممن لم يتسنَّ لهم
المشاركة في مرحلة إنشائه وتأسيسه، فيكون بذلك
موضع رضا الجميع ومحلّ رعايتهم وعنايتهم في مجال
التطبيق والالتزام.
§
وإلامَ يهدف وضع هذا الميثاق؟
o
غاية ما يقصد من هذا
الميثاق أمور:
منها: تسليط الضوء على الحوزات، والعلوم الدينيّة،
وطلابها، وبيان ما ترمي إليه من الهدف الأسمى منه،
وهو الوصول إلى رتبة الاجتهاد واستنباط أحكام
الشرع الحنيف، وما دون ذلك وهو تأهيل الطالب
للتبليغ الدينيّ لينشر
أحكام الشريعة في الناس عملاً وقولاً، ويوضح عقيدة
أهل الحقّ، ويذبّ عنها الشبهات.
وهذا يمكّن العامة من تمييز رجل الدين
(العالم)
عن المتثقف في بعض الجوانب الدينيّة كحملة بعض
الشهادات الجامعية، أو الخطباء الحسينيين، فلا
يكون المائز المعتمد هو مجرد العمامة والزيّ
الخاص، ولا مجرد الاقتدار على الخوض في بعض أمور
الدين دون تلك الخلفيّة العلميّة الخاصّة، بل قد
يستطيعون حينئذ تحريّ الأفضل والأكمل من العلماء،
فضلا عن أن يكشفوا زيف المدّعين والمنتحلين.
ومنها: التنسيق بين الحوزات، بتبادل الخبرات
الإداريّة والمناهج العلميّة، وتأمين المدرّسين في
حال الحاجة، وعقد الندوات، وتفعيل البحوث
العلميّة، وإفساح المجال للإطلاع على ملفات الطلاب
المنتسبين لحوزة في حال انتقالهم إلى غيرها.
ومنها: وهو أمر مهمّ جداً في الظرف الراهن، وهو
تأليف هيئة أمناء تتصدى لتنظيم شؤون طلب العلم
الدينيّ، ورعاية المنتظمين في سلك التبليغ الديني
بما يعينهم على أداء وظيفتهم الشريفة، ومراقبتهم
ومحاسبتهم في بعض الأحوال.
§
ممن تتألف هيئة الأمناء؟
o
هيئة الأمناء تتألف
من داخل الجسم العلمي الحوزوي من الشخصيات العلمية
الدينيّة اللبنانيّة المتميّزة التي فرضت نفسها
على المجتمع بهذا العنوان لا بغيره، بحيث يكون
لهؤلاء باجتماعهم سلطة حتى على الجهات ذات النفوذ،
الرسميّة وغيرها، فتستعين هيئة الأمناء حينئذ
بنفوذ هؤلاء على تأدية المهمة الملقاة على كاهلها،
وتبقى بمأمن من الرضوخ للغير، والوقوع في التحيّز
والانحراف ويحافظ بذلك على نزاهتها.
وقد تألّفت هيئة الأمناء فعلاً من سبعة أشخاص هم
من واكبوا تأسيس هذا الميثاق، على أن يتم إعادة
تشكيل هذه الهيئة وضمّ أعضاء آخرين يوافق عليهم
بالإجماع من قبل هؤلاء، في مرحلة تالية بعد أن
يترسّخ تطبيق الميثاق فعليا.
§
ما مدى التجاوب أو الترحيب من قبل بقية الحوزات
الدينية بهذا الميثاق، وأيضاً من قبل المجلس
الإسلامي الشيعي الأعلى؟
o
لقد وافق المجلس
الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى في لبنان على هذا
الميثاق بشخص نائب رئيسه سماحة الحجة الشيخ عبد
الأمير قبلان دام تأييده، ووعد بالتعاون لتنفيذ
ما نص عليه، لما في ذلك من زيادة مستوى الدراسة
العلمية الدينيّة والالتزام الرساليّ، ثم إنه قد
تمّ الإقرار بهذا الميثاق من قبل جملة من الحوزات،
ووقّع مديروها على الالتزام بما جاء في فصوله من
الموادّ، وكان ذلك خلال اجتماع عقد في معهد أهل
البيت (عليهم السلام) في كفرجوز في النبطيّة.
§
ما الجديد الذي يدعو الميثاق إلى تطبيقه في
الحوزات؟
o
فصول الميثاق مطبّقة
بأغلبيتها فعلاً في أكثر الحوزات، وإنما الجديد
الذي لم يكن ملتزما به أمران:
1- اشتراط الأهلية العلمية في الطالب المنتسب
للحوزة، بأن يكون قد أنهى الدراسة العصرية
المدرسية وصار مؤهلاً لدخول الجامعة، حيث إن هذا
الأمر لم يكن معمولاً به سابقاً.
2 - اشتراط عدم لبس العمامة والزيّ الخاص إلا بعد
إنهاء مرتبة السطوح، والأهلية لحضور دروس البحث
الخارج، حيث إن الطالب في هذه المرحلة يكون قد بلغ
النضج بما يكفي لتحمل مسؤولية ارتداء الزيّ
الديني.
عوائق ودعوة
مراحل الدراسة في حوزة النجف الأشرف في
حاريص، تغطي، كما يقول الأستاذ في الحوزة سماحة
السيد ناجي عطوي، كافّة المراحل: المقدّمات، ودرس
سطوح أول، وسطوح ثان، ودرس بحث خارج.
ويضيف السيد عطوي: إن الحوزة مؤهلة
لاستيعاب أكثر من 100 طالب ويدرس على مقاعدها الآن
حوالي الستين طالبًا بعد أن تم رفض قبول عديدين
ممن لا يحوزون على الشروط المطلوبة.
وعن المقوّمات المادية لاستمرار عمل
الحوزة، يرى السيد عطوي أن الحوزة كغيرها من حوزات
كثيرة تعاني من عوائق على هذا الصعيد يؤثّر على
عملها وتحقيق ما تطمح إليه بيسر.
§
عوائق من أي نوع؟
o
معلوم أن الدعم
للحوزات يأتي بشكل رئيسي من الحقوق الشرعية، وبعد
أن خرج كثير من الناس عن الالتزام بدفع هذه الحقوق
أو دفعها في غير موضعها الصحيح لاعتبارات لا نريد
الدخول فيها، أثّر ذلك على الحوزات غير المرتبطة
بأيّ ارتباط، وللحلّ يمكن التفكير بإنشاء مؤسسة
انتاجية تغطي مصاريف الحوزة لأن عدم التفكير بحلّ
يعني إما الارتهان أو إغلاق هذه الحوزات عند أي
عاصفة تعصف بها..
طموح
حوزة النجف في حاريص ليس مجرد مدرسة
يتخرّج منها العلماء، هي أيضاً مدرسة لبناء
المجتمع الإسلامي ونشر الوعي الديني في كل أرجاء
الأرض وتيسير فهم قِيَمه وتطبيق تعاليمه، وهي لذلك
تستقبل على مقاعدها طلابًا من مختلف الجنسيات في
العالم الإسلامي، فعدا الطلاب اللبنانيين هناك
طلبة من سوريا والأردن والعراق ودول الخليج ومن
دول إفريقيا، إنها مدرسة عالمية ككل حوزة أصيلة
تتربع في مكان وتمتد بالطموح إلى كل ديار الإسلام.
* * *
مبنيان
يتألف مبنى جامعة النجف الأشرف في حاريص من خمسة
طوابق، تتوزع فيها غرف التدريس،
ومكاتب الإدارة، وقاعتان للمحاضرات
والمناسبات العامة التي تحييها الحوزة
بانتظام، ومكتبة عامة، بالإضافة إلى
وجود مبنيين: أحدهما أنجز، وهو يتألف
من 12 شقّة، والآخر يتألف من 5 شقق
وهو قيد الإنشاء.
ويتبع مبنى الحوزة الرئيسي في حاريص فرع في منطقة
الحوش في صور، وهو في مراحله الأخيرة،
ويتألف من خمس طبقات أيضاً، وقد تبرّع
بنفقة بنائه رجل الخير الحاج عبد الله
بن نخّي، ويتضمن المبنى في الطابق
السفلي قاعة عامة لإحياء المناسبات،
والى جنبها مصلّى، وتبرّع ببناء
وتأثيث هذه القاعة الحاج قاسم برجي
وإخوانه. |