العدد صفر / 2005م - 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تاريخ المرجعية وتأسيس الحوزات

الشيخ مفيد الفقيه*

بعدما آمن المسلمون بشريعة الإسلام الذي هو دِين الله تعالى في الأرض، وَجَبَ عليهم بحُكْم العقل الذي يدرك ضرورة جَلْب النفع ودَفْع الضرر من الجزاء الأُخْروي أن يطيـعوا أوامـر الله تعالى، بتطبيق هذه الشريعة، والانقياد لما يفرض عليهم في جميـع شؤون حياتهم، لأنّ الله تعالى العالم بكلّ شيء، وبجميع المصالح والمفاسد والمستجدات، قد شرّع الأحكام لكلّ أفعال الإنسان على طبق تلك المِلاكات والمصالح التي يعلمها.

ولا يمكن أن نفترض أو نقبل أي افتراض بخلُوّ حالة من حالات الإنسان أو أفعاله الاختيارية عن الحكم الشرعي، إما بنحو النص والظهور، وإما بالقواعد العامة -المنطبقة على ذلك المورد- الراجعة بالنتيجة إلى النص على هذا المورد، ولكن لا بخصوصه، بل بالقانون العام الذي يشمله ويشمل غيره من الموارد.

وقـد أكمل الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، بلسانه ولسان أهل بيته الطاهرين(عليه السلام)، وسلوكهم، وإقرارهم لما أقرّوه من الأوضـاع القائمة قبلهم، والتي تقوم بعدهم.

أكملوا هذه الشريعة المقدّسة من الناحية التشريعية، وبقي على المسلمين أن يدركوا أبعادها ومضامينها ليطبّقوها.

بداية الاختلاف ودور الأئمة (عليهم السلام)

وقد بدأ الخلاف والاختلاف في فَهْم الشريعة، كما بـدأ الاختلاف في تطبيقها، بعد رحيـل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى مباشرة، فبدأَتْ الأحكام التي جاء بها الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) تخفى تدريجيًا.

ومع مرور الزمن تعاظَمَتْ هذه الفتنةُ، فتنةُ خفاء الحكم الحق، بسبب الاختلاف في الفهم من جهة، ومحاولة طَمْس معالم الشريعة التي جاء بها الرسول(صلى الله عليه وآله) من قِبَل المنافقين من جهة أخرى.

ولم يكن هؤلاء الدسّاسون ليستعملوا  الأساليب المكشوفة التي من شأنها الطعن وتضييع الحق، بل أخذوا يضعون الأحاديث المكذوبة على الرسول(صلى الله عليه وآله)، وعلى أصحابه، ثم على أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، بعدما عرفوا قداسة هؤلاء عند المسلمين.

فكانت أصعب مرحلة لصيانة الشريعة  في أُولى ممارستها الممتدة إلى جميع بلدان المسلمين وعلى طول الزمان.

ولكنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تجاوزوا هذه المرحلة أثناء وجودهم، إذ كانت عليهم  المسؤولية الأولى بحكم تنصيبهم لذلك من قِبَل الله تعالى، لأنهم خُلقوا لهذا المنصب وليس للدنيا بما فيها من الحُكم والسلطة والترف والملذات.

صانوا التشريع الذي جاء به سيد المرسلين(صلى الله عليه وآله)، من خلال المؤمنين المخلصين من أصحابهم وتابعيهم الذين امتحن الله تعالى قلوبهم للإيمان.

فصانوا هذا التشريع المقدّس ووضعوا بأيدي هؤلاء المخلصين النصوص والقواعد التي يحتاجها المسلمون في حضورهم(عليهم السلام)مع عدم إمكان الوصول إليهم وبعد غيابهم، والتي توصلهم إلى مضمون الشريعة وجوهرها، لأنهم كلما بعدوا عن عصر النصوص فستكون الأحكام أقل وضوحًا، وسيكون الحق أكثر خفاء.

وضعوا هذه النصوص والقواعد التي ترفع الغموض في مستقبل الأيام عن الأحكام الشرعية والمواقف العملية الواجب اتّباعها إلى يوم القيامة، وضعوها عند أصحابهم من المتكلمين والرواة والفقهاء لينقلوها إلى الأجيال ؛ جيلاً بعد جيل.

ولما اكتملت الصيانة من قِبلهم(عليهم السلام)، وتكامَل الفقـه الإسلامي عند أصحابهم، كانت عملية التطبيق في عَهْد الغَـيْبة الصغرى من قِبَل الإمام المنتظر الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره، على يد نوّابه الأربعة رضوان الله عليهم، فكان هؤلاء هم مراجع الشيعة.

ولما انتهَتْ فترة الغَـيْبة الصغرى بوفاة آخر نوّاب الإمام الأربعة (عجل الله فرجه)، وهو علي بن محمد السمري رضوان الله عليه، سنة 329 هج، وَقَعَتْ الغَيْـبة الكبرى.

وحيث أنَّ الإمام (عجل الله فرجه) هو وليُّ الأَمْر والمسؤول الأخير عن هذه الشريعة إلى قيام الساعة في عقيدة الشيعة الإماميـة، لم يكن ليترك هذا الأمر سدًى ويدعه هملًا ،فقد كان هؤلاء الأربعة وُكَلاء خاصّين، يعني أنه (عجل الله فرجه) نصّ عليهم بالخصوص.

النص على مقام الرجعية

فلما انتهى عصرهم، ووقعَتْ الغَـيْبة الكبرى، نصب نيابة عنه لتبليغ الشريعة وصيانتها على ضوء القواعد والأحكام الشرعية المعروفة، أشخاصًا آخرين.

لكن لا بأشخاصهم وأسمائهم بل بأوصافٍ وعناوينَ واضحة ؛ مَنْ تحقَّـقَتْ فيـه هذه العناوين والشروط فهو الولي والنـائب والوكيل من قِبَـله (عجل الله فرجه) في استخراج تلك الأحكام وتبليغها والقيام على تنفيذها.

فكان هؤلاء العلماء والفقهاء والرواة هم الأمناء على دِين الله تعالى، وعلى حقوق المسلمين، من دمائهم، وأموالهم، وأنسابهم، وأعراضهم، وتوجيههم كما أراد لهم الله-تعالى-..

هؤلاء هـم المراجـع..

يمكننا أنْ نقول: بأنّ المرجعية بهذا العنوان بَدَأَتْ من هذا الزمان، حيث يمكن أخْذه من الروايات والمكاتبات التي وردَتْ عن الإمام(عليه السلام) إلى هؤلاء بأشخاصهم مَرّةً، وبعناوينهم أخرى، سواء منه (عجل الله فرجه)، أو من الأئمة قبله.

وفي جملة من الروايات: الرواية المشهورة بمقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله(عليه السلام): في جواب السؤال عن رجلَيْن بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث، إلى أن يقول: ( فكيف يصنعان؟ فقال(عليه السلام): ينظران مَنْ كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادُّ علينا الرادّ على الله هو على حدِّ الشِّرْك بالله)([1]).

( ومنها ): رواية إسحاق بن يعقوب، قال: (سأَلْتُ محمدَ بن عثمان العمريّ -وهو أحد نواب الإمام (عجل الله فرجه) أن يوصل لي كتابًا قد سألتُ فيه عن مسائل أَشْكَلَتْ عليّ، فورد التوقيعُ بخطِّ مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه): أمّا ما سأَلْتَ عنه أَرْشَدك الله وثبّتك).. إلى أن قال: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رُواة حديثنا فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله، وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل -أبوه أيضًا أحد النواب الأربعة- فإنه ثقتي، وكتابه كتابي)([2]).

فهذه الرواية عبّرَتْ بالرجوع إلى هؤلاء , فهم المرجع في أمور الدين بعد الإمام (عجل الله فرجه) لِنَصِّ الإمام لهم في التوقيع الصحيح للقاسم بن علاء.

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  االهوامش

* آية الله الشيخ مفيد الفقيه مؤسّس جامعة النجف الأشرف للعلوم الدينية في جبل عامل.

([1]) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح1.

([2]) الوسائل باب11 من أبواب صفات القاضي  ح9.

أعلى الصفحة     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية