صفات المرجع في سلوكه وعلمه:
أما من حيث السلوك فبالإضافة إلى الروايات الكثيرة التي
تعدد صفاته النفسية والسلوكية، نستفيد من الرواية المتقدمة
كيف يتعامل الناس مع المرجع بقوله(عليه
السلام):
(فإنَّهم حجَّتي عليكم).
فإنه بعد الأمْر بالرجوع إليهم في كل أمْر يحتاجون فيه إلى
الرجوع إلى الإمام, فالواجب عليهم
أن يأخذوا بكل ما يأمرونهم به، ولا يردّوه , لأنّ
الرادّ عليهم رادّ على الإمام(عليه
السلام)بعد
تنصيبه لهم، والرادّ على الإمام رادّ على الله
تعالى.
وحيث إنهم لا يملكون درجة العصمة التي يجب توفُّرها في
الإمام، فالإمام حجّة الله عليهم إذا خالفوا أحكام الله
تعالى.
ولكنهم لا يخالفونها عن عمد،
فإذا لم يصيبوا الواقع فلهم عُذرهم وحجتهم في تطبيق هذه
القواعد.
وأما المخالفة في
العمل والسلوك لا سمح الله، فهذه مما
لم يثبت عند الشيعة لحدّ الآن مَنْ صدرَتْ منه
المعاصي في مرجعية من المراجع والأعلام العظام.
بل الثابت عنهم أنهم يجسّدون التقوى والروحانية والقداسة،
ويتمتعون بصفات الكمال العالية , ويتعبون أنفسهم في نشر
الأحكام
وتطبيقها، حتى لو كان الثمن هو التضحية بأرواحهم الطاهرة ,
كما حدث ويحدث في كل
العصور.
وقد وَرَدَتْ في صفات المرجع والمفتي روايات كثيرة , تدل
على أنهم المأمونون على الدِّين والدنيـا:
ففي بعضها: أنه ورد على القاسم بن العلاء توقيع شريف يقول
فيه: (فإنّه لا عُذْر لأَحَدٍ من مَوَالينا في التشكيك
فيما يرويه عنّا ثِقاتُنا، وقد عرفوا بأنّا نفاوضهم
سـرَّنا ونحملهم إياه إليهم)().
وفي بعضها: عن أبي عبد الله(عليه
السلام)
قال: (قال رسول الله(صلى
الله عليه وآله):
(يحملُ
هذا الدِّين في كلِّ قَرْن عُدُولٌ يَنْفُون عنه تَأْويلَ
المُبْطلين، وتَحْريفَ الغَالِين، وانْتحالَ الجاهلين..
)([4]).
وفي بعض الروايات:
(..فأمّا مَنْ كان مِن الفقهاء صائنـًا لنفسه، حافظًا لدينـه، مُخالفًا لهواه،
مُطيعًا لأَمْرِ مَوْلاه،
فَلِلْعوام أنْ يُقَلِّدوه..)().
الناحية العلمية
في المرجع:
أمّا من الناحية العلمية، فلابد للمرجع من الوصول إلى تلك
المرتبة العلمية التي أشارَتْ إليها هذه الروايات وغيرها.
فلابد أن يصل إلى أعلى مرتبة من القدرة على الاستنباط
الفعلي للأحكام الشرعية ليكون نائبـًا عن الإمام(عليه
السلام)
في تبليغ الأحكام الشرعية.
من أجل ذلك اهتمّ نَفَرٌ من المؤمنين -امتثالًا للآية
الكريمة:]َلَوْلاَ
نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون[()-
بدراسة علم الفقه، وتدوينه وترتيب أبوابه وفروعه،وإقامة
الأدلة على كل حكم لم يكن بديهيًا أو مما هو ضروري عند
المسلمين، حيث لم تكن الأحكام كلُّها واضحة أو بديهية،
نظرًا للبُـعْد عن عَهْد النَّص من جهة، ولكثرة الدّسّ
والاختلاف من جهة أخرى.
فكان لا بدّ لكل واحد منهم، ليكون فقيهًا وعالمًا ومرجعًا
في الفتوى، مِنْ أنْ يبذل الجهد ليصل إلى النتيجة بالأدلة
القاطعة، على ضوء القواعد المنصوصة من قبلهم(عليهم
السلام)، التي رواها الأصحاب وكتبوها امتثالاً
لأمْر الأئمة(عليهم
السلام)
بكتابتها، وعلّلوا أوامرهم هذه على ما ورد في كثير من
الروايات بـ (إنكم لا تحفظون حتى تكتبوا)، فكانت هذه
الكتابة الحكمة البالغة في حفْظ الشريعة ودفْعها إلى
الأجيال.
الحاجة إلى
تأسيس الحوزات:
ولما كان التوصل إلى الحكم الشرعي في علم الفقه يحتاج إلى مقدمات
كثيرة من العلوم الأخرى،
أُسِّسَتْ الحوزات
العلمية في مختلف
أقطار
العالم الإسلامي.
فكانت جامعات على أعلى المستويات المطلوبة، لأنّ الفقيه الذي
يريد أن يتصدى للفتوى وللدعوة إلى الله -تعالى- ولتفسير
الآيات والسنة النبوية،
مع تخلّقه بالأخلاق
الإسلامية المأخوذة عن الرسول(صلى
الله عليه وآله)
وأهل بيته الميامين(عليهم
السلام)
وأصحابه المنتجَبين
(رضوان
الله عليهم)،
يحتاج إلى علم اللغة،
والنحو، وعلم
البلاغة،
والمنطق، وعلم
الرجال،
والتفسير،
والفلسفة بالمقدار
الذي يستفيد به لاستعمال الأدلة العقلية.
ولا بد له لأجل أن يكون علم الفقه عنده متكاملًا من الإلمام بهذه
العلوم ؛ بعضها بالتفصيل وبعضها على سبيل الإجمال بالمقدار
الذي يحتاجه.
فالأحكام الشرعية مأخوذة من الكتاب والسنة،
مع دخالة العقل في
بعض
بعض مقدمات الاستدلال،
فلا بد من الاطّلاع
على كل ما له دخْل في هذه اللغة من كيفية التفهّم والتفهيم
والاستفادة من الكلام على الوجه الدقيق،
لأنّ ألفاظ الكتاب والسنة هي الأساس الأخير لتقعيد قواعد
اللغة العربية،
لصرفها،
ونحوها، وحقيقتها
ومجازها، فكان الأمر يحتاج إلى علم اللغة والصرف والنحو
والبلاغة، بالإضافة إلى العلم بتفسير القرآن الكريم.
ولأنّ المنطق هو الذي يُنظّم عملية الاستدلال والاستنتاج في كلّ
عِلْم، لذا يحتاج الفقيه إلى علم المنطق الذي يَصُون الفكر
عن الخطأ في كيفية ترتيب الأمور المعلومة للتوصل إلى
النتيجة المطلوبة.
ولا تخفى أهمية علمي الحديث والرجال في الفقه، لأنّ الفقيه ينبغي
له
يكون عالمًا بأقسام الحديث ولغته،
وعالمًا بنَقْد الحديث من خلال علم الرجال الذي هو الوسيلة
لمعرفة مدى صحة الأحاديث، لأنّ مجموعة من الأحاديث في بعض
كتب الحديث لا
يمكن أن تُقبل،
ولابدّ من نقدها.
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
االهوامش
|