العدد صفر / 2005م - 1425هـ

     رجوع     محتويات العدد      أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = تاريخ المرجعية وتأسيس الحوزات

والعلم الأساسي والأخير في عملية الاستنباط هو علم الأصول، الذي يبتني في أكثر مباحثه على القضايا العقلية النظرية والعملية، يُعتبر من المبادئ التصديقية لعلم الفقه.

وكلٌّ من علم الأصول وعلم الفقه يوصل إلى الحكم الشرعي، مباشرة أو بتعيين الوظيفة العملية عند غياب الحكم الواقعي بسب عدم الوصول إليه من النصوص.

ويرتكز الاستدلال في هذين العلمين على الكتاب والسنة والإجماع وعلى الدليل العقلي عند طائفة من المسلمين-الشيعة- والقياس عند آخرين.

والسبب في الاحتياج إلى العلوم العقلية، بالإضافة إلى أن العقل هو الأصل في العقائد الأساسية، أنه وقع الخلاف بين الصحابة في الفتوى بسب اختلافهم في فهم نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، فأضافوا الإجماع لأنه كاشف قطعي عن الحكم، وأضافوا دليل العقل لأنه الأصل في  وجوب الإطاعة وكيفيّتها،ولأنه لا يُستغنى عنه في كثير من الأحكام التي نسميها غير المستقلات العقلية، فعند عدم النص مع بذل الجهد وعدم انطباق قاعدة من القواعد العامة يكون الدليل العقلي هو الدليل عند طائفة الشيعة، بينما يكون القياس ونحوه هو المتَّبعَ عند طائفة أخرى.

وقد وضع نواة "القياس" بنظر هذه الطائفة الحاكم الثاني عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري (اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها عند الله تعالى واشبهها بالحق)([7])، وممن أخذ بالقياس بعد ذلك وأرسى قواعده أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150هـ.

تاريخ بداية المرجعية المصطلحة:

وبقي علماء الحديث، بين حِفْظه وروايته، والمنع من تدوينه وروايته، حتى أيام الحكم الأموي الذي لم يكن من جميع الجهات حُكْمًا إسلاميًا، حيث حصَلَتْ في هذه الفترة فَجْوة مهمّة بعد خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الفقه والحديث، وبقي أهل المدينة هم المرجع في الفتيا، إلى أن جاء العصر العباسي الأول سنة 132هج، حيث شجع الحكام العباسيون الحركة العلمية لسبب ولآخر، فانتعشت العلوم الدينية ونهضت نهوضًا سريعًا ببركة وجود أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

وفي العصر العباسي الثاني سنة 332 هج، وبعد غياب آخر أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، كثر المجتهدون من فقهاء الإسلام وكوّنوا لهم مذاهب كثيرة، ولكنها انحصرت بعد فترة من الزمن في عهد القادر العباسي في أربعة مذاهب([8]).

وذكر الملّا عبد الله تلميذ المجلسي في رياض العلماء: أنه في زمن علم الهدى  الشريف المرتضىS، اتفق رؤساء الأمة على تقليل الآراء في الأحكام، حتى  لا توجِب كثرةُ الخلاف قلّةَ الوثوق بالشريعة كما حدث للأناجيل المبتدعة.

واتفقوا على أنْ تدفع كل طائفة مبلغًا من المال ليُقرّ مذهبها رسميًا.

فاستطاع أهل المذاهب الأربعة أن يدفعوا، ولم تدفع المذاهب الأخرى، ومن جملتها الإمامية من الشيعة، بالإضافة إلى عدم موافقتهم على هذا الأمر من أصله، لأنه لا ينسجم مع عقيدتهم في الفقه وفي غيره من الأحكام الإسلامية العامة.

فانسد باب الاجتهاد عند المذاهب الإسلامية المذكورة، وبقي عند الشيعة مفتوحًا بما احتفظوا به من النصوص التي حملوها عن الأئمـة(عليهم السلام)، حيث لم يكن  عندهم بُعْد عن عصر النص.

ولما وقعَتْ الغَـيْبة الكبرى بوفاة علي بن محمد السّمري آخر نوّاب الحجة المنتظر سنة 329، ودوّنت فروع الفقه الجعفري، بدأت المرجعية الشيعية في مراحلها الأولى.

وأَوّل مَنْ فتح باب استنباط الفروع من أدلتها وهذّبها ونظّمها، كعلمٍ له اسم، هو الشيخ الجليل محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي المتوفى سنة 381 هـ، وكان من مشايخ الشيخ المفيدS، ومعاصرًا للعماني، والمُعِزّ البويهي، والكليني، والصدوق، أرباب الأصول الأساسية للفقه الشيعي.

ونبّه هذا الشيخ الجليل على أصول المسائل، مع الإشارة إلى تعليل المسألة المشكلة، وبيان دليلها، ونبّه على اختلاف الأقوال فيها.

وتبعه على ذلك العماني بن أبي عقيل، وكان من الفقهاء العظام.

وتابعهم على ذلك: ابن قولويه، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وابن ادريس، والمحقق الحّلي، والعلامة الحلّي، والشهيدان، وغيرهمM، واستمر ذلك على هذا النحو إلى عصرنا الحاضر.

وكان العشرات والمئات من هؤلاء العظماء في كل العصور بشكل متواصل مستمر، لم تنقطع ولن ينقطع إن شاء الله إلى قيام القائم (عجل الله فرجه).

وفي زمن الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، وقعت المحنة المعروفة في بغداد سنة 448 هـ([9])، فهاجر إلى النجف الأشرف.

وقد ذكر المؤرِّخون: أنه كان يوجد قبل هجرته إلى النجف العشرات من العلماء الكبار، المقيمين فيها منذ قـرن من الزمـن، وأنه لذلك ولسبب جوار أمير المؤمنين(عليه السلام)، اختار النجف دارًا لهجرته، واستقراراً للحوزة المركزية للطائفـة الشيعيـة، وبقيَتْ مستمرَّة إلى وقتـنا الحاضر، فأصبحت هي مركز المرجعية الرئيسي للعالم الشيعي منذ ذلك الوقت.

ملخص ما سبق :

وقد تبيَّن لنا من جميع ما سبق: أنّ الأئمة(عليهم السلام)قد نشروا مبادئ الشريعة وأحكامها في حياتهم، بمواقفهم، وأفعالهم، وبالروايات التي نقلها الثِّقاة من أصحابهم.

وقد ركّزوا على هؤلاء الرواة، ودَعوا شيعتهم وسائر المسلمين إلى الأَخْذ منهم والاستفادة من فتاواهم، نصبوهم في حياتهم في سائر الأقطار، وحيث لا يتيسر للأئمة(عليهم السلام) مباشَرة الدعوة إلى تلك المبادئ.

وكان خاتم الأئمة هو الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه)، وقد استناب عنه النوّاب الأربعة المعروفين، تَرِد عليهم الأسئلة ويرجعون إليه (عجل الله فرجه) فيما يرد عليهم.

ثم أخبر آخرَهم بأنه يتوفّى بعد أيام، وبوفاته تقع الغيبة الكبرى، وأَمَر الشيعة بالرجوع إلى الفقهاء الذين كانوا يطلق عليهم "رواة الأحاديث"، لأنهم الأصل في الفقاهة ونشر الفقه الإسلامي من خلال هذه الأحاديث، واستمرار تدارس العلوم الدينية في الحوزات العلمية على امتداد الزمان إلى عصرنا الحاضر.

انتهى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  االهوامش

([7]) عن صبح الأعشى 10/194: راجع التنقيح تقرير درس الخوئي قده 1/ز.

([8]) تاريخ الإسلام السياسي: ج3/338.

([9]) كامل ابن الأثير:ج9/ص61، ص71 وص222 و ص238.

 

أعلى الصفحة     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية