العدد صفر : 2005 م -1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = التمهيد ليوم الغدير

كما أنهم وجدوا أنفسهم أفرادًا، لا يتجاوز عددهم العشرات بين عشرات الألوف، بعد أن تركوا حماتهم، وهم مكة وما والاها، وراء ظهورهم، وبعد أن كانت اليمن غير قادرة على نصرهم، وها هي قد بدأت تتحول بالاتجاه الآخر، فقد أسلمت طائفة من أهلها قبل أيام يسيرة على يد الإمام علي (عليه السلام)، الذي لحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكة.. مع بعض من أسلم على يديه..

دراسة الحدث في حدود الزمان والمكان:

ونحن في نطاق فهمنا لموقف النبي (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع (في منى وعرفات)، نسجل النقاط التالية:

1 ـ يـوم عـبـادة:

إن يوم عرفة هو يوم عبادة، ودعاء وابتهال، وانقطاع إلى الله سبحانه، ويكون فيه كل واحد من الناس منشغلاً بنفسه، وبمناجاة ربه، لا يتوقع في موقفه ذاك أي نشاط سياسي عام، ولا يخطر ذلك له على بال.

فإذا رأى أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يبادر إلى عمل من هذا القبيل، فلا بد أن يشعر: أن هناك أمرًا بالغ الخطورة، وفائق الأهمية، فينشدّ لسماع ذلك الأمر والتعرف عليه، ويلاحق جزئياته بدقة ووعي، وبانتباه فائق.

2 ـ لمـاذا فـي مـوسم الـحـج؟!:

وإذا كان موسم الحج هو المناسبة التي يجتمع فيها الناس من مختلف البلاد، على اختلاف طبقاتهم، وأجناسهم، وأهوائهم، فإن أي حدث متميز يرونه ويشاهدونه فيه لسوف تنتشر أخباره بواسطتهم على أوسع نطاق، فكيف إذا كان هذا الحدث يحمل في طياته الكثير من المفاجآت، والعديد من عناصر الإثارة، وفيه من الأهمية ما يرتقي به إلى مستوى الأحداث المصيرية للدعوة الإسلامية بأسرها.

3 ـ وجـود الـرسـول أيـضـًا:

كما أن وجود الرسول (صلى الله عليه وآله) في موسم الحج، لسوف يضفي على هذه المناسبة المزيد من البهجة، والارتياح، يعطيها معنى روحيًا أكثر عمقًا، وأكثر شفافية، وسيشعرون بحساسية زائدة تجاه أي قول وفعل يصدر من جهته (صلى الله عليه وآله)، وسيكون الدافع لديهم قوياَ لينقلوا للناس مشاهداتهم، وذكرياتهم في سفرهم الفريد ذاك.

كما أن الناس الذين يعيشون في مناطق بعيدة عنه (صلى الله عليه وآله)، ويشتاقون إليه، لسوف يلذ لهم سماع تلك الأخبار، وتتبعها بشغف، وبدقة وبانتباه زائد؛ ليعرفوا كل ما صدر من نبيهم، من: قول، وفعل، وتوجيه، وسلوك، وأمر، ونهي وتحذير، وترغيب وما إلى ذلك.

4 ـ الـذكـريـات الـغـالـيـة:

وكل من رافق النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا السفر العبادي، لسوف يحتفظ في ذاكرته بذكريات عزيزة وغالية على قلبه، تبقى حية غضة في روحه وفي وجدانه، على مدى الأيام والشهور، والأعوام والدهور، ما دام أن هذه هي آخر مرة يرى فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أعظم وأكرم، وأقدس، وأغلى رجل وجد، ويوجد على وجه الأرض.

وحين تتخذ العلاقة بالحدث بعدًا عاطفيًا، يلامس مشاعر الإنسان، وأحاسسيه، فإنها تصبح أكثر رسوخًا وحيوية، وأبعد أثرًا في مجال الالتزام والموقف.

5 ـ النـاس أمـام مسـؤولـياتـهم:

وقد عرفنا أنه (صلى الله عليه وآله) قد اختار الزمان، ليكون يوم العبادة والانقطاع إلى الله سبحانه ـ ويوم عرفة ـ والمكان، وهو نفس جبل عرفات.

ثم اختار الخصوصيات والحالات ذات الطابع الخاص، ككونها آخر حجة للناس معه، حيث قد أخبر الناس: أن الأجل قد أصبح قريبًا.

ثم اختار أسلوب الخطاب الجماهيري لا خطاب الأفراد والأشخاص، كما هو الحال في المناسبات العادية..

وكل ذلك وسواه، يوضح لنا: أنه (صلى الله عليه وآله) قد أراد أن يضع الأمة أمام مسؤولياتها، ليفهمها: أن تنفيذ هذا الأمر يقع على عاتقها؛ ليس للأفراد أن يعتذروا بأن هذا أمر لا يعنيهم، ولا يقع في دائرة واجباتهم، كما أنهم لا يمكنهم دعوى الجهل بأبعاده وملابساته، بل الجميع مطالبون بهذا الواجب، ومسؤولون عنه، وليس خاصًا بفئة من الناس، لا يتعداها إلى غيرها، وبذلك تكون الحجة قد قامت على الجميع، ولم يبق عذر لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة.

6 ـ إحـتـكـار الـقـرار:

وهذه الطريقة في العمل قد أخرجت القضية عن احتكار جماعة بعينها، قد يروق لها أن تدَّعي: أنها وحدها صاحبة الحل والعقد في هذه المسألة ـ أخرجها عن ذلك لتصبح قضية الأمة بأسرها، ومن مسؤولياتها التي لا بد وأن تطالِب، وتطالَب بها، فليس لقريش بعد هذا، ولا لغيرها: أن تحتكر القرار في أمر الإمامة والخلافة، كما قد حصل ذلك بالفعل.

ولنا أن نعتبر هذا من أهم إنجازات هذا الموقف، وهو ضربة موفقة في مجال التخطيط لمستقبل الرسالة، وتركيز الفهم الصحيح لمفهوم الإمامة لدى جميع الأجيال، وعلى مر العصور. وقد كان لا بد لهذه القضية من أن تخرج من يد أناس يريدون أن يمارسوا الإقطاعية السياسية والدينية، على أسس ومفاهيم جاهلية، دونما أثارة من علم، ولا دليل من هدى، وإنما من منطلق الأهواء الشيطانية، والأطماع الرخيصة، والأحقاد المقيتة والبغيضة.

7 ـ تسـاقـط الاقـنـعـة:

ولعل الإنجاز الأهم هنا هو: أنه (صلى الله عليه وآله) قد استطاع أن يكشف زيف المزيفين، وخداع الماكرين، ويعريهم أمام الناس، حتى عرفهم كل أحد، وبأسلوب يستطيع الناس جميعًا على اختلاف مستوياتهم، وحالاتهم، ودرجاتهم في الفكر، وفي الوعي، وفي السن، وفي الموقع، وفي غير ذلك من أمور، أن يدركوه ويفهموه..

فقد رأى الجميع: أن هؤلاء الذين يدَّعون: أنهم يوقرون رسول الله ويتبركون بفضل وضوئه، وببصاقه، وحتى بنخامته، وأنهم يعملون بالتوجيهات الإلهية التي تقول:

{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}([1]).

{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}([2]).

{مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}([3]).

{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُول}([4]).

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الآية 1 من سورة الحجرات.

([2]) الآية 2 من سورة الحجرات.

([3]) الآية 7 من سورة الحشر.

([4]) الآية 59 من سورة النساء.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية