العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = التمهيد ليوم الغدير

سبب جرأتهم

وربما كان السبب في هذه الجرأة الظاهرة, والوقاحة السافرة التي تجلت في حجة الوداع هو شعور هذا الفريق من مهاجري قريش بالقوة وهم في بلدهم, وبين أنصارهم ومحبيهم, أي محيط مكة وما والاها, وممن بقي إلى جانبها في حربها الطويلة على الإسلام وأهله.. هذه الحرب التي لم تخبُ نارها إلا قبل مدة يسيرة في فتح مكة, حيث اضطرت قريش إلى الانكفاء عن الصراع السافر، إلى التدبير التآمري الماكر.

لقد أدركت قريش: أن النبي (صلى الله عليه وآله) بصدد الإعداد لأمر عظيم, لايمكنها القبول به. ألا وهو إبلاغ الأمة بأسرها بإمامة علي (عليه السلام)، وخلافته له من بعده..

وقد أريد لهذا الإبلاغ أن يتم بصورة لا تترك لقريش أية فرصة, وتصبح مقهورة على تجرع الغصة.. فلقد أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) في سنة عشر للهجرة عزمه على الحج, وأرسل إلى الآفاق يخبر الناس بذلك..

ونفر إليه الناس سراعًا من كل حدب وصوب، واجتمعت في ذلك الموسم عشرات الألوف وهم من كل بلد، وحي، وقبيلة, ليحجوا مع أكرم مخلوق, وأفضل نبي, ثم يرجعون من سفر محفوف بالأخطار وبعد طول انتظار, ويحدثون الناس بعد رجوعهم إليهم بما جرى لهم وصار.

وسيصغي الناس إليهم بشغف وبتلذذ, فإن للحجاج أحاديثهم وذكرياتهم, التي يرغب الناس في سماعها، حتى لو كانت لا تعني لهم شيئًا في الظروف العادية فكيف إذا كان هذا الحديث له علاقة بأفضل وأكمل, وأقدس, وأعزَّ, وأغلى, وأشرف إنسان في الوجود, إنهم سيحدثونهم عن كل لفتة وبسمة, وعن كل كلمة وحركة, وغير ذلك مما لا بد أن يبقى محفورًا في قلوبهم.. طيلة حياتهم..

أما إذا حدث أمام أعينهم ما لم يكن في الحسبان, وكان صُنَّاع الحدث هم أناس يدَّعون القرب منه (صلى الله عليه وآله), فإن ذلك سوف يكون له وقع الصاعقة عليهم, خصوصًا إذا وجدوا فيه مساسًا بقداسته, وتقويضًا لهيبته, وإبطالاً لتدبيره (صلى الله عليه وآله)..

ولعل قريشًا حين تجرأت على النبي (صلى الله عليه وآله) في عرفات, أو منى حسبما تقدم، ظنت أنها قد أفلحت في درء خطر عظيم, وتلافي خطب جسيم, كان قد أوشك أن يلم بها.. ولكن الله خيب فألها, وأبار كيدها, وأبطل مكرها.. ويمكرون ويمكر الله, والله خير الماكرين..

واقع المسلمين في حجة الوداع:

ومما يفيد في توضيح ذلك أن نقول:

إنه كان يقيم في المدينة قسم من المسلمين, والباقون موزعون في المناطق المحيطة بها وكان الذين أسلموا قبل سنة ثمان ثلة من الناس, لا يصل عددها إلى بضعة آلاف.. أكثرهم ضعيف الإيمان, أو منافق, أو لا يبالي بأمر الدين والإيمان, أو من الهمج الرعاع الذين يميلون مع كل داع, وفق مصالحهم وأهوائهم..

أما بعد فتح مكة، أو قبله بقليل فقد أقبل الناس على إعلان دخولهم في الإسلام, وصارت القبائل في سنة تسع، وعشر ترسل وفودها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليبلغوه ذلك, فدخل في الإسلام في هذه الفترة عشرات، بل مئات الألوف بما فيهم مكة, وما والاها.

ويقال لمن أسلم من أهل المدينة: الأنصار, ولمن أسلم وهاجر إليها يقال: المهاجرون..

وكان المهاجرون والقرشيون منهم بالخصوص هم الذين يناؤون عليًا(عليه السلام)، ويسعون في إبطال أمره، وهم وإن كان عددهم لا يزيد على بضع مئات كانوا يعيشون في المدينة, ولكن كان فيهم رجال مجربون وعلى درجة كبيرة من الحنكة والدهاء, ولا شك في أن بضع عشرات منهم قد ذهبوا إلى الحج في سنة عشر, وهم الذين واجهوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عرفة كما أسلفنا, معتمدين في ذلك على من حضر ذلك الموقف من أنصارهم ومحبيهم في مكة وما والاها..

على أن من الواضح: أن جميع المسلمين لم يذهبوا إلى الحج، إذ لا يعقل أن يترك جميع الناس مواشيهم وزراعتهم، وبيوتهم وديارهم خالية من كل أحد، كما أن في المهاجرين من كان من أنصار علي (عليه السلام) ومحبيه، وإن كان الفريق الآخر هو الأقوى, والأكثر.. وها هو قد شغب رسول الله (صلى الله عليه وآله), وأثار من الضجيج والصخب ما أصم من حضر من الناس ..  ولم يتمكن (صلى الله عليه وآله) من إبلاغ ما أمره الله  بإبلاغه..

إلى غدير خم:

وبعد أن فعلوا فعلتهم الشنيعة هذه، وظنوا أنهم قد ربحوا معركتهم ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بادر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الخروج من مكة فور انتهاء مراسم الحج، ومن دون تفويت ساعة واحدة، فنفر في اليوم الثالث عشر من منى بعد الزوال..([4]) وطاف بالبيت وخرج من مكة..([5]).

وذلك: لأن أي تعلل، أو تأخير، سيكون معناه أن يخرج أشتات من الناس إلى بلادهم، ولا يتمكن النبي(صلى الله عليه وآله) من إبلاغ ما يريد إبلاغه إليهم.

ومن الطبيعي: أن يتقيد الناس في مسيرهم بمسير رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والكون في ركبه، وتحت رايته طلبًا لليسر والأمن، والبركة، والفوز بسماع تعاليمه (صلى الله عليه وآله) والاستفادة من توجيهاته.

وقد قطع (صلى الله عليه وآله) المسافة ما بين مكة والجحفة، حيث غدير خم، وهي عشرات الأميال في أربعة أيام فقط، حيث نصب عليًا هناك ليبايعه الناس إمامًا للأمة، وقد بايعه هناك نفس أولئك المعترضين على النبي (صلى الله عليه وآله) في عرفات، ولم يجرؤا على التفوه ببنت شفة إلا همسًا..

لأن الله هددهم بالعودة إلى حربهم، كما حاربهم في بدر وأحد، وحنين، لأنه سيعتبر أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يصنع شيئًا، وأنه قد عاد إلى نقطة الصفر: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}([6]).

يتبع ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([4]) السيرة الحلبية ج3 ص306 ط سنة 1391 هـ.

([5]) المصدر السابق ج3 ص307.

([6]) الآية 67 من سورة المائدة.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية