إن مسألة جواز الإفطار أو وجوبه
في السفر, من المسائل الهامة, التي وقع الخلاف فيها بين
المسلمين, فقد أجمع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على
وجوب الإفطار, وعدم جواز الصيام, وتبعهم على ذلك كافة
شيعتهم بلا خلاف بينهم.
وأما مدرسة أهل السنة فقد اختلف
أتباعها بين قائل بوجوب الإفطار, كما يقول به شيعة أهل
البيت, وبين مخالف لهم, قائل بجواز كل من الإفطار والصيام.
وقد استدل كلا الفريقين لمذهبه
بالقرآن الكريم, والسنة النبوية الشريفة:
أما من القرآن الكريم, فقد قال
تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}().
فقد ذهب أكثر علماء أهل السنة
إلى أن الآيات الشريفة تدل على جواز الصيام في السفر, وعلى
جواز الإفطار, والتزم كافة الشيعة تبعا لأئمة الهدى (عليهم
السلام) إلى وجوب الإفطار في حالتي المرض والسفر.
وأبرز القائلون بالرخصة عدة
قرائن للاستدلال على مذهبهم, بعضها من الآيات, وبعضها من
الحديث الشريف, وهي قرائن لا تدل على مدعاهم, بل هي على
خلافه أدل, كما سيظهر, فنقول:
لا إشكال ولا خلاف بين أحد من
المسلمين أن الآيات الشريفة قد نزلت لتشريع فريضة الصوم في
شهر رمضان المبارك, فإن مقتضى قوله تعالى
{كتب عليكم}
هو الوجوب, لأن الكتابة يكنى بها عن الفرض والجزم, والقضاء
الحتم, كما في قوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْس}().
وقوله تعالى:
{
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}().
وهذا يقتضي أن يكون قوله تعالى
{فعدة}
تشريعا لحكم المريض والمسافر والشيخ الذي يطيق الصوم,
والاطاقة هي القدرة مع بالغ الجهد والمشقة, وما دام في
مقام التشريع فإن مقابلته بأصل إيجاب الصوم تعني إيجاب
الإفطار لهؤلاء, ذلك أنها (أي فعدة) قرئت بالرفع وبالنصب,
فبناء على قراءة الرفع يكون معناها (فعليه عدة), وأما على
قراءة النصب يكون المعنى (فليصم عدة), وظاهر أن كلا
الصيغتين تدلان على وجوب الإفطار , وهذا ما فهمه كل من
الفخر الرازي والطبري في تفسيريهما.
وقال مجوّزو الصيام والإفطار أن
في الكلام تقديرا, فمعنى الآية على ذلك (فمن كان مريضا أو
مسافرا فأفطر فعدة ...) وهذه الصيغة لا تدل على أكثر من
الجواز.
ومن الواضح أن التقدير خلاف
الأصل, كما صرح به علماء العربية, لا يصار إليه إلا مع
وجود قرينة تدل عليه, ولا قرينة في المقام.
والظاهر أن الفخر الرازي التفت
إلى هذا الإشكال, فراح يبرر جواز الإضمار في القرآن الكريم
ويستدل له, مع أنه لا خلاف فيه إن وجدت القرينة الدالة
عليه, وإنما الكلام مع عدم القرينة, فليلاحظ.
ولو سلمت دلالتها على الرخصة,
فهي الرخصة بالمعنى الأعم, أي ما يشمل الوجوب والاستحباب
والإباحة, أي أن الإفطار لا يقع معصية, مع الغض عن كونه
جائزا أو واجبا, ولهذا استند الفخر الرازي في جواز الصيام,
بعد تسليمه دلالة هذه الآية المباركة على وجوب الإفطار,
إلى الآية الثانية, حيث قال: (فالاعتماد في
إثبات
المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية {وَأَن تَصُومُواْ
خَيْرٌ لَّكُمْ}
()).
ويمكن أن يستدل للجواز بآية قصر
الصلاة, وهي قوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ}()
.
بدعوى أن عدم الجناح يعني عدم
التبعة والإثم, وهي ملازمة للجواز لا للوجوب, ولا إشكال في
التلازم بين قصر الصلاة وبين حال السفر في الحكم.
ولكنه كسابقه, يراد به الجواز
بالمعنى الأعم, أي عدم الحرمة, أما أن هذا الجواز هل هو
على نحو الوجوب أو الإباحة فلا تدل الصيغة المذكورة عليه,
بدليل ورودها في القرآن الكريم في مورد الوجوب, وهو قوله
تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(),
ولم يدع أحد من المسلمين عدم وجوب السعي بين الصفا والمروة
في الحج.
ومن جملة القرائن التي ذكروا
أنها تدل على أن الإفطار من باب الرخصة لا العزيمة, قوله
تعالى:
{وعلى
الذين يطيقونه فدية طعام مسكين},
حيث زعموا أنها قيد للمريض والمسافر والشيخ وغيرهم من ذوي
الأعذار, فيكون المعنى في الآية الشريفة أن المريض
والمسافر والشيخ إن امكنهم الصوم مع الجهد والمشقة وأفطروا
فعليهم الفدية.
بل ذهب بعضهم إلى أنها بينت حكم
الصوم في أول الإسلام, وهو أن الذين يطيقون الصوم كانوا
مخيرين بين الصيام وبين الإفطار والفدية.
وعلى هذا فالآية بينت قسمين من
أحكام المريض والمسافر, أحدهما أن من لا يطيق الصوم فليس
عليه سوى القضاء إن أفطر, والآخر وهم الذين يطيقونه إن
أفطروا فعليهم الفدية.
وقال آخرون أنها أوجبت الفدية
على الذين يطيقون الصوم من جميع الأصناف, أعني المريض
والمسافر والمقيم, بدعوى أن المسلمين لم يكونوا متعودين
على الصوم في بداية الأمر, ثم نسخت بالآية التالية
{فمن
شهد منكم الشهر فليصمه},
حيث أطلقت وجوب الصوم على مطلق المقيم, وأبقت الحكم كما هو
بالنسبة للشيخ الهرم.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|