قال ابن كثير في تفسيره, تعليقا
على قوله تعالى
{فمن كان منكم مريضا أو على سفر..},
وأنها كانت في ابتداء الإسلام, قال: (إن المريض والمسافر
لا يصومان في حال المرض والسفر, لما في ذلك من المشقة
عليهما, بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر, وأما
الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام
وبين الاطعام, إن شاء صام, وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم
مسكينا), ثم نسختها آية
{فمن
شهد منكم الشهر فليصمه},(
فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح, ورخص فيه للمريض
والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام).
وهذا في الحقيقة من غريب الكلام
وعجيبه, فإن النسخ على فرضه لا بد وأن يكون بين آيتين أو
آيات نزلت في مناسبتين مختلفتين, وزمانين مختلفين, لحكمة
معينة, بخلاف المقام فإن سياق الآيات يكشف عن نزولها دفعة
واحدة, وأنها آبية عن قبول دعوى النسخ هذه, فإن قوله تعالى
{شهر
رمضان} مرتبط بالآيتين السابقتين, لأنه إما
بدل من الصيام في الآية الأولى, بناء على قراءة الرفع, أو
بدل من
{أياما
معدودات} في الآية الثانية, بناء على قراءة
النصب, والآية الثانية ظاهرة الاتصال بالآية الأولى, إذ هي
تبدأ بقوله تعالى
{أياما}
المنصوب على الظرفية من الفعل كتب, وعليه فليس النسخ
المزعوم سوى إخراج للقرآن الكريم عن الحكمة والواقعية,
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والظاهر أن الذي ألجأهم إلى هذا
الزعم هو محاولة الجمع بين دلالة الآيات الظاهرة في
الوجوب, وهو ما فهمه الطبري والفخر الرازي, كما أشرنا
إليه, وبين ما ذهب إليه أكثر فقهاء اهل السنة. مع أن قول
الفقهاء ينبغي أن يستند إلى القرآن نفسه, وما خالفه لا
قيمة له, بل يجب أن يطرح كما لا يخفى.
ثم ما معنى النسخ في حكم المريض
والمسافر وعدمه في الشيخ, والجميع واقع في نفس السياق, فقد
روى ابن كثير في تفسيره عددا من الروايات عن الصحابة عدم
نسخها.
مع أن التزامهم بوجوب الإفطار
في الآية الأولى يقتضي وجوبه في الثانية لاستعمال نفس
الألفاظ في الآيتين, فإما أن يلتزموا بالرخصة في كليهما,
أو بالوجوب كذلك, كما هو ظاهر الآيات.
وأما استظهار الوجوب من
إحداهما, والرخصة من الأخرى, من دون نصب قرينة عليهما فهو
تحكم صريح, ولا معنى له إلا التلاعب بالقرآن الكريم.
ومن القرائن المدعاة قوله
تعالى:
{وأن
تصوموا خير لكم},
حيث دلت على أن الصيام أفضل من الإفطار, وإن كان الإفطار
جائزا لهم.
وهذا موقوف على أن يكون المراد
بالخطاب خصوص المعذورين, أي المريض والمسافر والشيخ
الكبير, وهو غير ظاهر من الآية الشريفة.
بيان ذلك:
أن في الآية الشريفة وجوها ثلاثة: أحدها: أن تكون خطابا مع
الذين يطيقونه فقط,وهو ما قاله النسفي في تفسير الآية().
فعلى هذا يكون التقدير: وأن
تصوموا أيها المطيقون خير لكم من الفدية.
الثاني: أن تكون خطابا مع جميع
ذوي الأعذار الذين تقدم ذكرهم, أي المريض والمسافر والذين
يطيقونه. وعليه يكون التقدير: إن الصوم خير لكم من الإفطار
وإن كان جائزا أيها المعذورون.
الثالث: أن تكون خطابا مع جميع
المكلفين الذين توجه إليهم خطاب التكليف بالصوم, وتكون
عطفا على أول الآية. وعليه يكون التقدير:كتب عليكم الصيام
وأن تصوموا خير لكم. وهذا الوجه ذكره الفخر الرازي دون
تعليق عليه.
لقد اعتبر الرازي القول الثاني
هو الصحيح, قال ما لفظه: (وهذا –أي القول الثاني – أولى
لأن اللفظ عام, ولا يلزم من اتصاله بقوله (وعلى الذين
يطيقونه) أن يكون حكمه مختصا بهم, لأن اللفظ عام ولا
منافاة في رجوعه إلى الكل, فوجب الحكم بذلك().
ومثله قال في تفسير الخازن().
ويشترك في هذه العلة الوجه
الثاني والوجه الثالث, بل إن حملها على الثالث أولى كما هو
ظاهر, لأن جميع المكلفين بالصيام أعم وأشمل من الثلاثة
المذكورة, فيتعين حملها عليهم للعلة نفسها.
يضاف إلى ذلك أن إرادة
المعذورين منها موقوف على دلالة الآية على الترخيص في
الإفطار والصيام أولا, وتبين عدم دلالتها عليه, بل هي دالة
على وجوب الإفطار, وموقوف على ذكر طرفي التخيير قبلها
ثانيا, ليكون قوله
{وأن تصوموا خير لكم}
بيانا لترجيح طرف الصوم على الإفطار, وهو ما لم يذكر فعلا,
فلا مجال لاستفادة هذا الترجيح.
هذا مع أن مناسبة الخطاب تقتضي
تعين الاحتمال الثالث, لتناسب الضمائر فيهما, بخلاف
الثاني, فإن الضمائر بناء عليه متخالفة, إذ ضمائر
{فمن
كان منكم مريضا
الخ..}
ضمائر الغيبة, بخلاف الضمائر في قوله
{وأن
تصوموا}
وقوله
{كتب عليكم}
فإنها ضمائر المخاطب, وهذا ظاهر, ولا تصح دعوى الإلتفات في
المقام, لورود كلا النوعين من الضمائر في نفس الآية.
ولعل الذي ألجأ الرازي وغيره
إلى ترجيح الاحتمال الثاني هو ما ذكره في ذيل الفقرة
المذكورة من كلامه المتقدم (وعند هذا يتبين أنه لا بد من
الاضمار في قوله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر) وأن التقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر.
ولكنه قد تقدم أنه لا سبيل إلى
هذا الإضمار, لأنه خلاف الأصل ولا قرينة عليه. والقول بأن
هذه الفقرة بنفسها قرينة, تمسك بمحل النزاع كما لا يخفى,
خصوصا مع صحة حملها على الاحتمال الثالث.
وقد يقال أن قوله تعالى (فمن
تطوّع خيرا فهو خير له) هي القرينة, لارتباطها بها مباشرة,
بدعوى أنها تحدثت عن التطوع, وهو عبارة عن الاستحباب
والندب, فيكون المعنى أن من تطوع بدفع زيادة عن طعام مسكين
فهو أفضل, سواء قلنا أنه خاص بالشيخ الهرم وشبهه, أم قلنا
بأنها شاملة لذوي الأعذار جميعا.
ولكنه احتمال ساقط أيضا, لأن
التطوّع تفعّل من الطوع, وهو الإتيان بالفعل عن رضا وقبول,
ومعنى باب التفعل الأخذ والقبول, فمعنى التطوع إتيان الفعل
عن رغبة ورضا, وهو أعم من الفعل الإلزامي وغيره, وليس فيها
دلالة على معنى الندب بالخصوص, كما يفترضه الاحتمال
المذكور, وغلبة استعماله في الندب متأخرة عن نزول القرآن,
من جهة أن الفعل الذي يؤتى به عن رغبة وطوع هو المندوب
بحسب العادة, وأما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام فيه().
فمعنى الآية –والله أعلم- أن
الصوم كتب عليكم وفيه خير لكم, بل كله خير, فاتوا به عن
طوع ورغبة, ولا تأتوا به مكرهين, فلا تشكل الفقرة المذكورة
قرينة على المدعى, لعدم كون التطوع بمعنى زيادة الاطعام عن
مسكين كما فسروه.
كما أنه ليس لها ارتباط بقوله
تعالى
{وأن
تصوموا خير لكم},
بل إن إحداهما متممة للأخرى في بيان كتابة الصوم عليهم,
وليس استعمال كلمة (خير) في المقام للدلالة على التفضيل,
وإنما هي مستعملة بمعنى اسم الجنس, فالمعنى المتحصل: كتب
عليكم الصيام وكله خير لكم فصوموا طوعا بلا كراهية.
ومما يدل على ذلك, قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا
فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }()
حيث وقع التطوع في سياق الوجوب.
يتبع =
،ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|