العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = حكم الصوم في السفر

وهكذا يظهر أن الآيات الشريفة تدل على وجوب الإفطار في السفر, كما هو مذهب شيعة أهل البيت (عليهم السلام), وعليه بعض الصحابة والتابعين.

وأما الاستدلال على حكم الصوم في السفر بالسنة:

فالأخبار الدالة على وجوب الإفطار متواترة من طريق أهل البيت (عليهم السلام), لا تحتاج إلى بيان متونها, ولأن اجماع الشيعة قائم عليه, بلا مخالف.

وأما من طرق أهل السنة: فقد ورد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ليس من البر الصيام في السفر), وعن كعب بن عاصم الأشعري مثله, وصححه الحاكم.

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر).

وعنه: (الإفطار في السفر عزمة).

وعن محرز بن أبي هريرة أنه كان في سفر فصام رمضان, فلما رجع أمره أبو هريرة أن يقضيه. وليس ذلك إلا لأن الصيام وقع باطلا.

ومثله فعل عمر بن الخطاب, فقد ورد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن عمر أمر رجلا صام رمضان في السفر أن يعيد.

وقال ابن عمر: (الإفطار في السفر صدقة تصدق الله بها على عباده), وليس معنى ذلك التخيير بينه وبين الصيام, كما ربما يبدو, فإن ابن عمر نفسه قد فسره عندما سئل عن الصوم في السفر, فقال: (لو تصدقت بصدقة فردت ألم تكن تغضب, إنما هو صدقة صدقها الله عليكم).

ويشهد لصحة فهم ابن عمر هذا ما أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك عن رجل من كعب قال: (أغارت علينا خيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله), فانتهيت إليه وهو يأكل, فقال اجلس فأصب من طعامنا هذا. فقلت يا رسول الله إني صائم. قال: اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصوم: إن الله عز وجل وضع شطر الصلاة عن المسافر ووضع الصوم عن المسافر والمريض والحامل).

وعن أنس بن مالك القشبيري أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع).

وعن عائشة قالت: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن الله تصدق بفطر رمضان على مريض أمتي ومسافرها).

وقال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصيام في السفر, فقال ابن عمر إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة).

وعن أبي الدرداء ووائلة بن الأسقع وأبي أمامة وأنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه).

وهذه الأحاديث قرينة على عدم التخيير بين الصوم والإفطار, وأن كلام ابن عمر عندما سئل عن الصوم في السفر قال (رخصة نزلت من السماء, فإن شئتم فردوها) غير ناظر إلى الجواز, إذ كيف يجتمع الجواز مع تحمل الإثم ما تحمله جبال عرفة.

إلا أنه توجد روايات أخرى من طرق أهل السنة, يظهر منها جواز كل من الإفطار والصيام, فلا بد من ملاحظة ما إذا كانت معارضة لما تقدم, وما إذا أمكن الجمع بينها على فرض ثبوت التعارض فعلا, وإن لم يمكن الجمع فهل الحكم هو التساقط, كما تقتضيه قواعد التعارض المستحكم, والرجوع بالتالي إلى الآيات القرآنية, أم أنه يؤخذ بالروايات الموافقة للقرآن وتطرح المخالفة له, لعدم اعتبارها في نفسها. وعلى كلا التقديرين فالنتيجة واحد, وهي وجوب الإفطار.

ينبغي أولا استعراض عدد من هذه الروايات:

ويمكن تقسيمها إلى طائفتين: الأولى: ما دل على جواز الإفطار والصيام في السفر بنحو مطلق:

منها: ما روته عائشة قالت: (كل ذلك قد فعل النبي (صلى الله عليه وآله), قد صام وأفطر, وأتم وقصر في السفر).

ومنها: ما ورد عن سعيد بن المسيّب وعامر (أنهما اتفقا أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا يسافرون في رمضان فيصوم الصائم ويفطر المفطر, فلا يعيب المفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر.

ومنها: ما عن أنس بن مالك قال: (سافرنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رمضان فصام بعضنا وأفطر بعضنا, فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).

ومنها: ما عن البختري قال: (كان ابن عباس يقول من شاء صام ومن شاء أفطر).

ومن الظاهر أن هذه الطائفة لا تنهض لمعارضة الروايات الدالة على وجوب الإفطار في السفر, لأنها غير ظاهرة الدلالة على جواز الصيام, إذ من المحتمل قويا أن تكون ناظرة إلى تكليف كل فرد منهم, فمن كان مسافرا فعليه الإفطار, ومن لم يكن مسافرا فعليه الصيام, وذلك لأن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكونوا جميعهم من منطقة واحدة, فيتعدد الحكم بتعدد حالاتهم.

هذا مضافا إلى أنها واردة لبيان حال الصحابة, وأنهم لم يعيبوا على بعضهم بعضا, دون أن تبين ما اذا كان ذلك ناشئا عن مرض أو تلبس بحال السفر فعلا للجميع أم لم يكن.

كما أن عمل الصحابة كثيرا ما كان ينشأ من نظر اجتهادي منهم, دون أن يستند إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله), بقرينة ما رواه خيثمة, قال: (سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر, فقال يصوم, قلت فأين هذه الآية (فعدة من أيام أخر) قال: إنها نزلت يوم نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع, واليوم نرتحل شباعا وننزل على شبع([12])).

وهي صريحة في أن أنسا قد اجتهد برأيه, لم ينقل كلامه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولا يخفى ما فيها من دلالة على ارتكاز معنى الآية وعدم جواز الصوم في ذهن السائل, ولذلك استشكل في كلام أنس, وأنه مخالف دلالتها, فجاء جوابه تبريريا.

ومن المحتمل أن يكون منشأ هذه الاجتهادات عدم اتفاقهم على تحديد مسافة السفر المعتبرة في الافطار, وهو ما يظهره عدم اتفاق فقهائهم على تحديدها, بعد اتفاقهم على أصل المعنى اللغوي للسفر, وهو الكشف, فهو يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم, قال الأزهري: وسمي المسافر مسافرا لكشف قناع السكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء([13]).

فقد ذهب داود الظاهري إلى أن الرخصة حاصلة في كل سفر ولو كان فرسخا, متمسكا بأن الحكم فيه معلق على كونه مسافرا.

وقدره الشافعي بستة عشر فرسخا ولا يحسب فيه مسافة الإياب, وتمسك له بما رواه الشافعي نفسه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان, ويقول أهل اللغة أن كل بريد أربعة فراسخ فيكون المجموع ستة عشر فرسخا.

وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري إلى أنه لا يشرع الإفطار إلا إذا سافر أربعة وعشرين فرسخا, تمسكا بما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: (يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن), فالمسافر يمسح ثلاثة أيام ولا يكون كذلك حتى تقدر مسافة السفر ثلاثة أيام.

وقال الأوزاعي: السفر المبيح مسافة يوم, معللا ذلك بأن أقل من هذا القدر قد يتفق للمقيم([14]).

فقد يكون فعل هؤلاء الصحابة, لو سلم عدم تحقق المرض عند بعضهم وعدم السفر عند بعض آخر, أن يكون اختلاف حالهم في الإفطار والصيام ناشئا من اختلافهم في تقدير المسافة.

وعليه تحمل الرواية الواردة من طريق عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد صام وأفطر, وأتم وقصر في السفر, حيث لم يظهر منها تقدير معين للمسافة المعتبرة, فيكون ذلك من باب الاشتباه في تطبيق المفهوم على مصداقه, فظنت أن الرحلة التي أتم فيها وصام كانت سفرا شرعيا, مع أنها لم تكن كذلك في الواقع.

ولا يبعد أن يكون قد أتم وصام في رحلة, وقصر وأفطر في أخرى, إذ لم تبين أن كل ذلك كان في رحلة واحدة أو أكثر, كما لم تبين مقصده (صلى الله عليه وآله) في ذلك السفر, وهل قطع المسافة المعتبرة أم لم يقطعها, فتكون الرواية مجملة من هذه الجهة, ولا تنهض للدلالة على المدعى.

الطائفة الثانية: ما ينسب كلا الحكمين صراحة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله):

منها: ما روته عائشة (أن حمزة الأسلمي سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الصوم في السفر, فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر).

ومنها: ما أخرجه الدارقطني عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: (يا رسول الله إني أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هي رخصة من الله تعالى, من أخذ بها محسن, وإن أحب أن يصوم فلا جناح عليه).

ومنها: ما رواه عبد بن حميد عن أبي عياض, قال: (خرج النبي (صلى الله عليه وآله) مسافرا في رمضان, فنودي في الناس: من شاء صام ومن شاء أفطر. فقيل لأبي عياض: كيف فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: صام وكان أحقهم بذلك).

وهذه الطائفة غير صالحة لمعارضة روايات وجوب الإفطار هي الأخرى, وذلك:

1-أما رواية أبي عياض – واسمه زيد بن عياض - فهي ضعيفة السند من جهتين:الأولى أنها مرسلة, فلم يبين أبو عياض عمن نقلها, فهو لم يكن من الصحابة. الثانية: أنه ضعيف في نفسه([15]) فلا يمكن الاعتماد على رواياته.

2-وأما روايتا عائشة وحمزة الأسلمي فهما تتحدثان عن حالة خاصة, وليستا في مقام بيان حكم عام, ذلك أن قوله (صلى الله عليه وآله) لحمزة الأسلمي  (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر), بحسب نص عائشة ناظرة –والله العالم – إلى أن حمزة نفسه لم يكن مكلفا بالصيام ولا بالإفطار حينها, إذ الحديث فيها خارج عن الجعل التشريعي العام.

فقد قال ابن حجر العسقلاني في ترجمته أنه مات سنة إحدى وتسعين, ونسبه الى ابن سعد وغيره, وهو ابن احدى وسبعين, وقيل بلغ الثمانين([16]), ومن الظاهر أنه على ذلك لا يكون من الصحابة, لأنه بناء على أحد القولين يكون قد ولد سنة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله), وعلى الاحتمال الآخر تكون ولادته بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) بعشر سنوات.

ولعله لهذا السبب لم يترجمه في كتاب الإصابة, وعليه فتكون كلا الروايتين ساقطتين عن الاعتبار.

ولكن المذكور في طبقات ابن سعد المطبوع, أنه مات سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن احدى وسبعين سنة, وقد روى عن أبي بكر وعمر([17]), وعلى هذا يكون عمره حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) عشرين سنة.

إلا أن عدم تعرض ابن سعد لروايته عن النبي (صلى الله عليه وآله), واقتصاره على ذكر روايته عن أبي بكر وعمر, يبعّد احتمال ان يكون من الصحابة ولم يرو عن النبي (صلى الله عليه وآله), وان نقل عن محمد بن عمر أنه كان مع النبي (صلى الله عليه وآله) في تبوك.

ومهما يكن من أمر فمن المحتمل ان يكون في النسخة المطبوعة من الطبقات تصحيف, أو خطأ من النساخ لتقارب رسم كلمة ستين وسبعين وتسعين قبل الإعجام.

ولو فرض قبول روايته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله), فلم يتبين من حال الرواية متى حصل السؤال والجواب عن الحكم, إذ من المحتمل قويا أن يكون قد سأله قبل بلوغه سن التكليف, كما يظهر من جوابه (صلى الله عليه وآله) بحسب رواية عائشة (صم إن شئت وأفطر إن شئت), وسؤال حمزة في رواية الدارقطني الذي صرح فيه (إني أجد قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح).

 ولا يخفى على فرض قبولها أن الحكم بالإفطار هو الأفضل، خلافا لما أفتى به بعضهم, بقرينة التعبير بـ(محسن), وأما مقابله فعبر عنه بعدم الجناح.

وعلى كل حال, فالاضطراب ظاهر في هذه الطائفة من الروايات, فلا يمكن الاعتماد عليها, وبالتالي فلا تصلح لمعارضة الروايات الآمرة بالإفطار في حال السفر, فضلا عن معارضتها للآيات القرآنية المباركة.

فالمتحصل من مجموع ما تقدم: أن القول بالرخصة والتخيير بين الصيام والإفطار مما لا يمكن الالتزام به, ولا العمل به, وأن الحكم الشرعي هو وجوب الإفطار في حال السفر،

والحمد لله رب العالمين .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([12]) الدر المنثور ج1 ص346 .

([13]) تفسير الفخر الرازي ج5 ص74 .

([14]) تفسير الرازي ج5 ص74-75 .

([15]) لسان الميزان ج2 ص509 -510 .

([16]) تهذيب التهذيب ج2 ص22.

([17]) الطبقات الكبرى ج4 ص475 .

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية