تمهيد: في بيان مبادئ الاجتهاد:
الاجتهاد في
اللغة والعرف العام شيء، وفي اصطلاح فقهاء الشيعة الجعفرية
شيء آخر، ولكن المفهومين يلتقيان حتمًا، ويكون المفهوم
اللغوي والعرفي داخلين في المفهوم الفقهي.
اعلم أن بعض
العلوم قد تترتب طوليًا، ترتبًا منهجيًا، من حيث توقف
معرفة بعضها على معرفة بعضها الآخر، بمعنى أنه لا يجوز
الشروع في دراسة المتأخر قبل الانتهاء من دراسة المتقدم،
لأنه لا يمكن فهم المتأخر منها فهمًا كاملاً قبل فهم
المتقدم، ولأجل ذلك كانت
مترتبة.
وبعض العلوم
قد لا تكون كذلك، لعدم ارتباط أحدها بالآخر.
ففي النوع
الأول من العلوم، لا يجوز الدخول في العلم المتأخر قبل
الإحاطة الإجمالية في المتقدم رتبةً، بخلاف الثاني، فإن
الطالب مخير بالابتداء بأي واحد منها شاء.
ولا ريب أن
علم الفقه الإسلامي متأخر رتبة عن جملة من العلوم العقلية
والنقلية، لتوقفه عليها، فمن العبث محاولة معرفته قبل
معرفتها.
أما تأخره
عن العلوم المتعلقة باللغة العربية فواضح، لأن الكتاب
والسنة عربيان، وهما المصدر الأصيل للفقه، وهذا مما لا يشك
فيه أحد من الناس، فضلا عن المسلمين، ولا ريب أن معرفة
الكتاب والسنة كلاً أو بعضًا، معرفة كاملة متوقفة على
الإحاطة بشؤون اللغة العربية.
والعلوم
العربية كثيرة، منها النحو والصرف، والمعاني والبيان،
والبديع ومعرفة معاني مفردات الألفاظ العربية.
فمن العبث
إذن أن نتكلم مع شخص في الفقه الإسلامي، مستندين إلى
الكتاب والسنة، إذا لم يكن له إحاطة بهذه العلوم.
* * *
وعلم الفقه
الإسلامي متأخر أيضًا عن العلوم المتعلقة بالحديث: كعلم
الدراية ونعني به العلم الذي يبحث فيه عن جملة أمور
يعتمدها الحديث، أهمها الجرح والتعديل وشؤونهما، وأقسام
الخبر، بل وطبقات الرواة.
وكعلم
الرجال: ونعني به مزاولة الكتب التي يبحث فيها عن أحوال
الرواة من حيث العدالة والوثاقة والطبقة، وعن كيفية تمييز
الراوي عمن يشاركه في الاسم، والتمييز يحصل بملاحظة عصره
ومن عاصره ومن يأخذ منه ومن يأخذ عنه، وأحيانًا قد لا
يتميز فيطعن بالرواية بأن راويها مشترك، هذا إذا كان في
جملة المشاركين في الاسم شخص لم تثبت وثاقته.
وهو متأخر
أيضًا عن علم الأصول بقسميه، ونعني بالأصول الأصول اللفظية
والأصول العملية.
والأصول
اللفظية: فلسفة لغوية عالية، تفيض بالسمو الفكري، وتتجلى
فيها أسرار اللغة العربية، وتوسّع
آفاق
الذهن وتشحذه وتزيده مضاءً ورهفًا، ويستطيع أن يلمس ذلك كل
متعلم إذا مرَّ وفهم القليل منها فضلاً عما إذا فهمها
فهمًا كاملاً.
وأما الأصول
العملية: فهي قطب رحى الاجتهاد، وهي في الوقت نفسه حلبة
تتجارى فيها أفكار عظماء الفقهاء، وكلما مهر الفقيه فيها
تجلّت مقدرته وارتفع اسمه وتبلورت نظرياته.
والأصول
العملية اسم لمباحث كثيرة، يجمعها ثلاثة فصول بل أربعة:
1- مباحث
القطع، وهو مبحث فلسفي محض.
2- مباحث
الظنون، وهو مبحث فلسفي، بل هو مبحث عقلي نقلي.
3- مباحث
الشك وهي كثيرة جدًا، وأهمها الأصول الأربعة: البراءة
والاشتغال والاستصحاب والتخيير، وإنما كانت أهم لأنها لا
تختص في باب من أبواب الفقه ولأنها تتضمن قواعد كثيرة
سيّالة يصعب حصرها في مثل ما نحن فيه، وأما مباحث الشك
الأخرى فهي قواعد مهمة تختلف سعة وضيقًا ولكنها لا تطرد في
جميع أبواب الفقه، بل قد يختص بعضها بباب منه أو فصل، وقد
يشترك فيها عدة أبواب([i]).
4- مباحث
التعادل والتراجيح، وهو محاكمة رفيعة للظنون المتعارضة
والأصول المتداخلة.
وقد تشتمل
كتب الأصول أو مباحث الأصول اللفظية والعملية على قواعد
أخرى يتعرضون لها في أثناء البحث عن مسألةٍ، لتوقف معرفتها
عليها، وقد يفردونها تحت عنوانها المختص بها، وإنما انفصلت
عن هذا الموكب لأنها تدور في أفق من آفاق الفقه الضيقة،
فقاعدة الحل وقاعدة الطهارة لها حقل يخصها، وقد يستوحى من
عنوانها، ومثلها قاعدة نفي الحرج والضرر.
وللأصول
لغته واصطلاحاته التي لا يمكن تجرده منها، وهو من هذه
الناحية كسائر العلوم التي لها اصطلاحاتها ورموزها، وهذه
كتب الهندسة والحساب والطب والهيئة والمنطق والفلسفة وعلم
الاجتماع وعلم النفس وجملة من العلوم الحديثة، كل منها
يحتفظ بلغته واصطلاحاته وأسلوبه ورموزه الخاصة به.
والسبب في
اعتماد العلوم على هذه الاصطلاحات هو تقريب المسافة في
مقام الاستدلال والتمثيل، وتسهيل الوصول إلى النتائج
بالتعبير القليل، فلو أراد الرياضي أن يشرح مسألة واحدة
مجردة عن مصطلحاتها لمن لا يعرف تلك المصطلحات، لأجهد نفسه
وأجهد من يستمع منه، ومع ذلك لا يمكن عادة أن يستفيد
الفائدة المطلوبة، وهكذا بقية المسائل من بقية تلك العلوم.
والأصول
كغيره، له ما لها من مصطلحات تخصه، وتبِعه الفقه بطبيعة
الحال، ولكن كثيرًا من الناس، ويصح أن أقول الناس السذج،
يطالبون الفقهاء بتجريد الفقه والأصول من مصطلحاتهما لأنهم
لا يفهمونها، وهو طلب غير عادل، ولست أدري لماذا يطالبوننا
ولا يطالبون أرباب المختصين بسائر العلوم بمثله.
والحقيقة
والواقع أن المصطلحات العلمية بمنزلة أصول موضوعة، تعبر عن
الشيء الكثير بكلمة أو كلمتين ينتهي إليها البرهان، وتنقطع
عندها الخصومة، ويستعملها العلماء كآلة سريعة تقطع مسافات
الخلافات الطويلة.
ولقائل أن
يقول أيضًا، إذا كان غير العرب من الأمم في حاجة إلى دراسة
اللغة العربية لأجل التمكن من فهم الكتاب والسنة وسائر
التراث الأدبي العربي القديم، فالعربي الأصيل والمستعرب
الذي عاش في البلاد العربية ليس كذلك، لأن العربية لغته
ولغة آبائه وأجداده ولغة المحيط الذي عاش فيه، وهو يفهم
العربية ويتذوقها ويشعر بأحاسيسها بفطرته وطبيعته ووراثته.
ألا ترى
أننا نحن العرب الموجودين
في هذا العصر نستطيع النطق بجميع الحروف العربية! فالنطق
بالضاد والظاء والطاء والثاء والعين والغين سهل علينا
كالنطق بسائر الحروف، أما غيرنا من أبناء اللغات غير
العربية فلا يستطيعون النطق بجملة من حروف اللغة العربية.
وهذا
الاعتراض ليس كالاعتراض السابق في البساطة، والجواب عنه
ليس بتلك السهولة، لوجود الفوارق الواضحة بين العربي
الموجود في هذا العصر وبين غيره، بالنسبة للقدرة على النطق
بجميع حروف اللغة العربية، وبالنسبة لإدراك كثير من شؤون
اللغة العربية الخفية، فإن عربي اليوم يستطيع النطق
بحروفها ويميّز كثيرًا من أسرارها بفطرته، وغيره لا يستطيع
النطق ولا يقوى على إدراك تلك الأحاسيس إلا بالتعلم
والدراسة، ولكن هذا المقدار لا يسوغ لنا مثل هذه الدعوى
التي يكذبها الوجدان.
يتبع =
([i])
وإليك أمثلة لذلك بنبذة من القواعد، فمن تلك
القواعد : قاعدة الإستيفاء، وقاعدة الإتلاف،
وقاعدة على اليد، وقاعدة الغرور، وقاعدة ما يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده، التي هي كضابط لمجموعة قواعد
كلها تسمى أسباب الضمان، وبعضها يختص بالأموال،
وبعضها يطرد في الأموال والنفوس.
ومنها
قاعدة نفي الحرج،
وقاعدة نفي الضرر والضرار،
فإن الأولى
تختص بالعبادات والأخرى تطرد في جميع أبواب الفقه.
ومنها قاعدة الإقرار،
وقاعدة من
ملك شيئًا ملك الإقرار به،
وقاعدة من
كان له الغُنم
فعليه الغُرم،
وقاعدة تلف المبيع قبل قبضه،
وقاعدة
الحدود تدرأ بالشبهات،
وقاعدة
التجاوز والفراغ،
وقاعدة الصحة في المعاملات،
وقاعدة
الصحة في فعل المسلم،
وقاعدة
الرضاع لُحمة
كلُحمة
النسب،
وقاعدة
الطهارة،
وقاعدة الحل،
وقاعدة
الحرية.
وقد ألّف
جملة من العلماء في جملة
من هذه
القواعد وغيرها،
كما
إنني
ألّفت
كتابا سمّيته
قواعد الفقيه،
خرج منه جزء يحتوي نحو ثمان وأربعين قاعدة،
يشتمل
بعضها على
عدة قواعد سيالة، أكثر القواعد
التي
ذكرناها غير موجودة فيه،
وقد ألف عدد من العلماء عددًا من الرسائل في عدد
من هذه القواعد لأهميتها العلمية،
ولأنها مطرح الأنظار.
|