تمهيــــد
بعد الجولة العامّة على أسباب النزول؛
انطلاقًا من انعقادها في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)
()،
مرورًا بعصر الصحابة()
ثمّ التابعين()،
وصولاً إلى زمان التصنيف فيها بشكل مستقلّ()،
لا يكتمل المشهد من غير أن نُلقي ضوءًا على وضعيّة أسباب
النزول في تاريخنا المعاصر.
من هنا كان لا بدّ من هذه الإطلالة على
الدراسات المعاصرة التي اعتنت بأسباب النزول، سواءً على
مستوى الدراية أم على مستوى الرواية.
ولتتبيّن الصورة بكامل جوانبها، لا بدّ أن
نبيّنها ضمن ثلاثة محاور:
1- الدراسات العامّة.
2- الدراسات المثيرة للجدل.
3- الدراسات الشيعيّة.
1- الدراسات العامّة
على مستوى الرواية
رغم أنّ الواحدي صنّف كتابه حرصًا على
تنقية أسباب النزول من الإفك والكذب الذي تداخلها -كما
يقول()-،
فإنّ كتابه احتاج إلى مزيد من التهذيب والتشذيب -تصحيحًا
واستدراكًا- على مدى قرون متطاولة، بدءًا من الجعبريّ وابن
حجر والسيوطيّ، ولم يخرج المصنّفون في عصرنا الحاليّ عن
هذا المنحى، حيث تناولت الدراسات والمقالات والكتب كتاب
الواحديّ وما جُمع من أسبابٍ للنزول، وقاموا بإعادة جمع
هذه الأسباب وفق معطياتٍ أعادوا رسمها وتحديدها من جديد.
إلا أنّنا ما دمنا نتحدّث عن جمع الروايات
فطبيعة البحث لا تحتمل الكثير من الإبداع؛ "إذ لا سبيل إلى
الاجتهاد في ذلك سوى في التبويب والاختيار وتسهيل العرض"()،
هكذا كان نصيب كتاب السيوطيّ، فلم يكن في ما صنّفه "حظّ من
التميّز ما به يُفارق المؤلّفات السابقة في هذا الباب"()،
وهذا الأمر استمرّ عقودًا من الزمن، إذ انشغل الباحثون
إمّا في اختيار الصحيح والمقبول والحجّة من أسباب النزول
كما في كتاب مقبل الوادعيّ: "الصحيح المسند من أسباب
النزول"، وكما في "المصنّف الحديث في أسباب النزول" من
تصنيف: عبد الله إسماعيل عمّار، الذي جعل لكتابه أساسًا
وهو "أن أُثبت فيه ما صحّ من الرواية، وأن أبتعد عن الضعيف
والغريب والمنقطع من الأحاديث ما أمكن"()...
وإمّا في استدراك ما يمكن أن يكون قد فات
الواحدي أو السيوطيّ: كما في كتاب: "نهاية السول فيما
استدرك على الواحدي والسيوطيّ من أسباب النزول"، من تأليف
د. أبو عمر نادى بن محمود الأزهريّ، وكتاب: "جامع النقول
في أسباب النزول وشرح آياتها" لعليوى خليفة عليوى، كذلك
كتاب: "الاستيعاب فيما نزل من الأسباب"...
وهنا نورد ملاحظتين وربما استغرابين:
- رغم كلّ الحديث عن التهذيب والتشذيب في
روايات أسباب النزول، منذ عهد الواحدي وحتى يومنا هذا، أي
ما يزيد عن الألف عام، مع ذلك فما يزال حديث امتلاء الكتب
التي جمعت أسباب النزول بالأحاديث الموضوعة يثير صخبًا
وجدلاً كبيرين في الساحة الفكريّة والثقافيّة، بحيث ما زال
يعتقد كثير من الدارسين عدم إمكان الركون إلى مثل هذه
الكتب.
- وما يُثير الاستغراب أكثر، أنّه مع كلّ
المحاولات في هذه الدراسات الحديثة، والتي جرت على أساس
ومبدأ الترقيّ في مجال جمع روايات أسباب النزول، فإنّ
"العلماء يعتمدون كتاب الواحدي ويرون أنّه خير كتاب
وأشهرها في هذا المعنى"()!!..
وخلاصة القول أنّ البحث على مستوى الرواية
-حديثًا- ظلّ يتمحور حول ما ألّفه القدامى من غير جديد
يُذكر.
على مستوى الدراية
وأمّا على مستوى الدراية، فإذا كان
السيوطيّ
-في كتابه الإتقان في علوم القرآن- قد
اكتفى بنقل وتوضيح وتهذيب ما ذكره الزركشيّ،
من غير أن يضيف شيئًا ذا خطر على هذا العلم إذ: "لم يقدّم
شيئًا علميًّا إضافيًّا، وكان يمكن أن يصنّف مثله أيّ
عربيّ يتمتّع بالحدّ الأدنى من القراءة والكتابة"()،
بحيث "جاء التشابه بين الكتابين]
البرهان والإتقان[
واضحًا محتوى ومنهجًا في التأليف"()،
وإذا كانت المصنّفات الجامعة لعلوم القرآن قديمًا قد نحت
هذا المنحى، فإنّها وإن كانت: "من الوفرة والكثرة ما لا
يخفى على العيان، إلا أنّ هذا التعدّد لا يعكس دائمًا
تغيّرًا في النظرة إلى مباحث علوم القرآن، أو تطوّرًا
مطّردًا في مناحي التفكير من ناحية، ومناهج المقاربة من
ناحية أخرى"().
إذا كان الأمر كذلك في زمن عَزَّ فيه
التأليف واستنساخ الكتب، فلك أن تتخيّل في القرن العشرين
وعصر ثورة الطباعة، حيث تُطبع كلّ الأمور صحيحها وسقيمها
بدون ميزان واضح، ما حصل في هذا المجال، فما لاحظناه بعد
تتبّع الدراسات المعاصرة الكثيرة هو ندرة البحوث التي
تناولت هذا العلم بنحو جادّ وبعيدًا عن التقليد.
وقد انتقد كثير من الباحثين الاجترار
والعمل المدرسيّ الذي غلب على الدراسات الحديثة، فاكتفى
"عديد الدارسين العرب المحدثين بترديد آراء القدامى من
مفسّرين وعلماء قرآن في مبحث أسباب النزول، والتسليم
بصحّتها، ومن ثمّ غاب عند أصحاب هذا الموقف الحسّ النقديّ
في أعمالهم، وانعدمت الجدة فيها انعدامًا كليًّا أو كادت"()،
"ولم يزد التالون على ما كتبه السابقون شيئًا كثيرًا، بل
إنّ آفّة النقل كانت أمرًا مشتركًا بين المتأخّرين"()،
وجاءت معظم الدراسات والتصنيفات الحديثة "فاقدة لأيّ نوع
من الطرح العلميّ، ومن الترتيب المنطقيّ"().
وشملت شكواهم حتّى مثل كتاب الزرقانيّ:
"مناهل العرفان في علوم القرآن"، الذي كان يؤمّل "أن يشفي
غليل الباحثين ويطفئ ظمأ العطشى من الدارسين"، إلا أنّه
"شغل بالجمع ولم يشغل بالتمحيص، فأبقى الشوائب دون تنقية"().
كذلك كانوا يؤمّلون من د. صبحي الصالح في
كتابه: "مباحث في علوم القرآن" أن يكسر جليد الاجترار
والتقليد، ولكن بدا أنّ ما كان يعتقده جديدًا في معالجة
الموضوع، فإنّه "عند الفحص أوهم بالتجديد"()
فحسب، وما يأخذه على القدماء لا يتعدّى كونه: "مآخذ شكليّة
على منهجهم القديم"().
والأكثر إيلامًا في هذا المجال ما فعله
بعضهم عندما نقل بحوث العلماء القدامى، من غير أن يُصرّح
بالمصدر الذي أخذ عنه، كما في "مفتاح السعادة ومفتاح
السيادة"()،
و"المدخل"()،
و"تاريخ التفسير"()،
و"أسباب النزول عن الصحابة والمفسّرين"()،
على ما ينقل عبد الحكيم أنس في مقدّمة كتاب "العجاب في
بيان الأسباب" لابن حجر().
والخلاصة أنّه "في مجال الدراسات العربيّة
الحديثة طغت القراءة التمجيديّة على ما سواها من القراءات؛
إذ اكتفى ممثّلوها بإعادة إنتاج علماء القرآن والمفسّرين
القدامى"()،
وبالتالي لم تكن تُنبئ هذه الدراسات بأيّ أفقٍ فسيح، بعد
أن خلص أغلب هؤلاء: "إلى المواقف نفسها بقطع النظر عن
التكوين العلميّ والمعرفيّ الذي تلقّاه أصحاب هذه
المؤلّفات، يستوي في ذلك الشيخ الأزهريّ أو الزيتونيّ،
والمدرّس بكليّة الآداب أو كليّة الشريعة وأصول الدين"().
أمّا تفسير ذلك فقد ذكر البعض أنّه لـ :
"اكتفاء هؤلاء بما انتهى إليه السلف من نتائج في الموضوع،
والتهيّب من مراجعة مواقفهم مراجعةً جوهريّةً متجاوزة لكلّ
ضروب النقد الشكليّ"()،
وردّها آخرون إلى أنّ "أغلبها قد ألّفها أصحابها لطلابهم،
وأحسب أنّ هذا يؤدّي إلى الإجمال في الحديث وتيسير
المادّة، وعدم الخوض في دقائق المسائل ووعر المسالك،
واختيار السبيل الأسهل والأيسر"().
فالنتيجة أنّ كثرة التأليف في باب أسباب
النزول في عصرنا الحالي، لم يكن يعني أيّ تطوّر مطّرد لهذا
الباب، بل نادرًا ما وجدنا دراسةً انطلقت بجرأة في معالجة
حقائق هذا الباب، أو فتحت فيه آفاقًا جديدة.
نعم، يمكن الإشارة إلى بعض الدراسات، من
قبيل دراسة بسام الجمل()،
وعماد الدين الرشيد()،
حيث تميّزت بالجديّة إضافةً إلى الجِدّة، على أنّنا لا
يمكن أن نوافقها نتائجها كلّها، كما أنّها تمثّل كوّة في
الجدار الصامت تحتاج إلى مزيد من الجهد لتصل إلى النتائج
الكاملة المرجوّة!
وفي إطار الخروج عن تقليد آراء القدامى،
وجدنا ثمّة ملاحظات لبعض الباحثين خرجت عن المألوف بشكل
كبير، وأثارت كثيرًا من الجدل في الساحة الفكرية
والثقافيّة، وهذه الملاحظات لم تكن دراسات متكاملة في مجال
أسباب النزول، ونتعرّض لها في الفقرة الآتية.
2- الدراسات المثيرة للجدل
أثارت مجموعة من الدراسات المعاصرة جدلاً
كبيرًا في الوسط الثقافيّ والدينيّ، وما زالت تداعياتها،
أخذًا وردًّا، نقاشًا وشتائمَ، تتفاعل حتّى يومنا هذا،
وممّا سطّرته هذه الدراسات بعض ملاحظاتٍ في مجال أسباب
النزول، سنلقي ضوءًا على أبرزها.
في البداية لا بدّ أن نشير إلى أنّ التعرّض
لأسباب النزول في هذه الدراسات قد ورد في إطار نظريّات
أصحابها حول مواضيع أعمّ من أسباب النزول بل من علوم
القرآن، والتي ترتبط بمجمل التراث الإسلاميّ وإعادة النظر
فيه، لذا لم يتعدَّ البحث في أسباب النزول إطار الملاحظات
أو الإشارات العامّة، من غير أن تتحوّل إلى بحوثٍ تحقيقيّة
تعالِج مختلف جوانب هذا الباب، وعليه فما يدفعنا إلى
التعرّض لهذه الملاحظات هو ما فرضته من جدال في الساحة
الثقافيّة، أكثر ممّا تضمّنته من محتوى يرتبط بأسباب
النزول، وسنركّز كلامنا في مجال أسباب النزول، مع إشارة
إلى أساس النظرية لكي تتّضح الفكرة، وهدفنا هو خصوص ما
يتعلّق بأسباب النزول، وليس التعرّض لمناقشة أفكار هؤلاء
الكتّاب...
أ - ملاحظات نصر حامد أبو زيد
تقوم نظريّة نصر حامد أبو زيد، في كتابه:
"مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن"()،
على أساس الاعتقاد بالعلاقة الجدليّة بين النصّ والواقع،
بناءً على أنّ: "ألوهيّة مصدر النصّ لا تنفي واقعيّة
محتواه، ولا تنفي من ثمّ انتماءه إلى ثقافة البشر"()،
ويعتبر في هذا المجال أنّ: "علم أسباب النزول من أهمّ
العلوم الدالّة والكاشفة عن علاقة النصّ بالواقع وجدله"()،
من هنا تعرّض لملاحظات حول هذا الباب.
وأولى الملاحظات التي أبداها، تأكيده كثرة
الآيات المرتبطة بأسباب النزول، بحيث كانت الآيات النازلة
ابتداءً نادرة، يقول: "الحقائق الإمبريقيّة المعطاة عن
النصّ (...) تؤكّد (...) أنّ كلّ آية أو مجموعة من الآيات
نزلت عند سبب خاصّ استوجب إنزالها، وأنّ الآيات التي نزلت
ابتداءً -أي بدون علّة خارجيّة- قليلةً جدًّا"().
أمّا الملاحظة الثانية فتقوم على أساس
اكتشاف أسباب النزول من خلال نفس النصّ القرآني، من غير
العودة إلى الروايات، فبعد أن تساءل: "ماذا نفعل حين لا
نستطيع تحديد أسباب النزول تحديدًا حاسمًا جازمًا؟"، ذكر
أنّ: "أسباب النزول ليست سوى السياق الاجتماعيّ للنصوص،
وهذه الأسباب كما يمكن الوصول إليها من خارج النصّ، يمكن
كذلك الوصول إليها من داخل النص"()،
وأنّ "معضلة القدماء أنّهم لم يجدوا وسيلة للوصول إلى
"أسباب النزول" إلا الاستناد إلى الواقع الخارجيّ والترجيح
بين المرويّات، ولم يتنبّهوا إلى أنّ في النصّ دائمًا
دوالاً يمكن أن يكشف تحليلها عن ما هو خارج النصّ"().
التعليق
فيما يتعلّق بملاحظته الأولى وحديثه عن
ندرة الآيات التي نزلت ابتداءًا، فهذا موضوع عالجناه حيث
تعرّضنا بالتفصيل إلى بحث كثرة أسباب النزول في مقال سابق()،
وما يمكن أن نقوله هنا أنّ تعبيره: "قليلةً جدًّا" يستدعي
التوقّف ويحتاج إلى توضيح ودقّة أكثر ليكون أكثر موضوعيّةً
وعلميّةً، على أنّه قد تبيّن لنا -في المقال المذكور- أنّ
جلّ آيات القرآن نزلت وفق أسباب نزول، وذلك على خلاف الرأي
السائد عند الدارسين لعلوم القرآن وأسباب النزول؛ من ندرة
الآيات النازلة وفق أسباب، وكنّا قد أيّدنا ذلك بالشواهد
والأدلّة، وهو ما لم يفعله أبو زيد!
على أنّ اعتقادنا بكثرة الأسباب لا يعني
التسليم بالنتيجة التي يريد أن يخلص إليها أبو زيد ودعواه
في مسألة العلاقة الجدليّة بين النصّ والواقع بشكلها
المغلق، بل مرّ في الأبحاث أنّ القرآن يجري كما تجري الشمس
والقمر، وأنّه لو ماتت الآية بموت القوم الذين نزلت فيهم
لما بقي من القرآن شيء، لكنّ القرآن يجري أوّله على آخره
ما دامت السماوات والأرض، وقد تعرّض العلماء لهذا المبحث
تحت عنوان: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" أو
"المورد لا يُخصّص الوارد".
وأمّا حديثه عن استكشاف الأسباب من داخل
النصّ، فهو وإن كان كلامًا منمّقًا ومفاجئًا، إلا أنّه لا
يتعدّى الدعوى إلى إقامة الدليل، فصحيح أنّ النصّ يكشف
عمّا وراءه من التحليل، ولكن هل يكشف ذلك عن الحادثة
التاريخيّة التي نزل بسببها؟!، فبين الأمرين بَوْن شاسع،
وقد رأينا أنّ نصر أبو زيد نفسه لم يستطع أن يكون وفيًّا
لهذا المبدأ عندما تعرّض لنموذج هذه الدعوى().
ب - ملاحظات د. محمّد شحرور([38])
لدى د. محمّد شحرور فكرة رئيسة ترتبط
بالكتاب المقدّس، حيث يعتبر أنّ هذا الكتاب بما أنّه كتاب:
"هداية للناس وآخر الكتب فوجب أيضًا أن يحمل طابع النسبيّة
في الفهم الإنسانيّ له"()،
لذا يعتبر أنّ الصياغة القرآنيّة تتميّز بطابعها الخاصّ من
حيث إنّها: "تحتوي المطلق الإلهيّ في المحتوى، والنسبيّة
الإنسانيّة في فهم هذا المحتوى، وهذا ما نعبّر عنه بثبات
الصيغة اللغويّة (النصّ) وحركة المحتوى"()،
وكما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد قام بالتفاعل
الأوّل وحوّل في عصره، المطلق إلى نسبيّ بما يوافق ذلك
العصر، فـ "هذه هي سنّته على مرّ العصور والتي وجب علينا
التقيّد بها، وهي تحويل المطلق إلى نسبيّ"().
من هنا انطلق د. شحرور إلى القول بأنّه:
"ليس للقرآن أسباب نزول"()،
بما يبدو موقف النقيض تمامًا لما ذكره نصر حامد أبو زيد،
بحيث يبدو كلّ منهما يجرّ النار إلى قرصه كيفما يشاء!
يبدو أنّ عبارة د. شحرور عن أنّه ""ليس
للقرآن أسباب نزول"، قد خدعت كثيرين، حتّى بعض الباحثين
الجادّين، حيث ظنّ أنّ مقصوده كلّ آيات الكتاب()،
ولذا قامت قيامته.
والحال أنّ الأمر يرتبط باصطلاحات خاصّة
وضعها د. شحرور بنفسه -لنفسه!()-،
فهو يفرّق بين التعبيرات المعروفة عن آيات الكتاب، ويتبنّى
"أنّ هناك فرقًا جوهريًّا بين الكتاب والقرآن والفرقان
والذكر"()،
ومصطلح القرآن من بينها يُعبّر عن قسم خاصّ من الآيات وهي
"آيات العقيدة" فحسب().
فالنتيجة أنّ د. شحرور يعتقد بأنّه ليس
للآيات المرتبطة بالعقائد أسبابُ نزولٍ توضحها وتفسّرها،
بحيث يعوَّل عليها في شرحها، ليتسنّى له بالتالي الحديث عن
نسبيّة الفهم لآيات العقائد وخضوعها للمعرفة النسبيّة()،
في المقابل يعتبر أنّه لو سلّم بنزول آيات العقائد وفق
أسباب خاصّة يُحتكم إليها في فهمها، فهذا سيخدش استنتاجه
بأنّها تحمل طابع الفهم المرحليّ النسبيّ.
حملة على المؤلّف
وقد حمل البعض على المؤلّف في رأيهِ عدمَ
وجود أسباب نزول للقرآن، بالتساؤل باستغراب: "هل يُعقل أن
يكون نزول هذا المعجز الإلهيّ عبثًا بلا سبب؟!"، فـ: "إنّ
فقدان السبب يعني فقدان الغاية والهدف، وهذا يعني أنّ
القرآن نزل عبثًا!"، ثمّ يعتبر أنّ تصديق الرسالة، والقيام
بمهمّة الحراسة والحماية من الوضع والرفع والتحوير، هو سبب
نزول هذه الآيات.
وفي هذا الجواب
خلط بين السبب العامّ لنزول آيات القرآن، وهو الموجود في
جميع الآيات، ألا وهو هداية الناس وتثبيتهم، وبين أسباب
النزول المصطلحة، وهي الموارد والوقائع الخاصّة التي نزلت
فيها آيات قرآنيّة، مع العلم أنّ المصنّفين في كتب علوم
القرآن قد لفتوا إلى هذا الفارق بين السبب العام لنزول
القرآن وأسباب النزول الخاصّة بالآيات، حتّى لا يحصل هذا
الخلط().
التعليق على ملاحظة د. شحرور
والصحيح أنّ دعوى د. شحرور، لا تخلو من
صواب وفق التعريف المتداول والمعروف لأسباب النزول()،
ولكنّها تعاني من تعميم مخلّ في المقام لا سيّما في مقام
البحث العلميّ، فمسألة عدم وجود أسباب نزول لآيات العقائد
بشكل عامّ، وإن ذكره عدد من العلماء()،
ولكن ماذا يفعل شحرور بأسباب النزول التي وردت في آيات
العقيدة، وخاصّة التي وردت إثر سؤال وقع في عهد النبيّ
(صلى الله عليه وآله)، حيث يشمله تعريف أسباب النزول، كما
في قضيّة سؤال اليهود عن ذي القرنين والروح؟!، فبما أنّ
هذا العلم قائم على مراجعة الوثائق والروايات الواردة فيه
-كما هو متّفق عليه- فخلوصه إلى التعميم كان مخلاً من هذه
الناحية.
كما سبق وذكرنا لن ندخل في نقاش مع د.
شحرور حول رأيه في نسبيّة فهم القرآن حتّى لا نشتّت البحث،
لكنّنا نشير باختصار إلى أنّ هذه الفكرة رغم حلاوة وجِدَة
القوالب التي صبّها فيها، وطراوة الكلام التي عبّر بها،
لكنّها تفقد قيمتها ما دامت غير مشفوعة بالدليل والبرهان،
فغاية ما قام به د. شحرور في دعواه أنّه ذهب بعيدًا في
إبطال المسلّمات، التي قام علماء الإسلام بإثباتها وبيان
حدودها في كتبهم الأصوليّة والمنطقيّة، وأقاموا عليها
الدليل القاطع والبرهان الساطع، فالفهم النسبيّ للقرآن
يتناقض مع أبسط الأصول المعتمدة والبراهين القائمة على
ظهور الألفاظ وما تحويه من دلالات.
وهو من ناحية أخرى تحرّر "من كلّ قيد لفهم
كتاب الله -ونعني هنا مصطلح المسلمين: وهو القرآن الكريم-
عندما أنكر أنّ السنة النبويّة وحي من الله سبحانه وتعالى"()،
فالسنّة حالة ناطقة تبيّن المراد من الآيات سواء نزلت لسبب
خاصّ أم لم تنزل كذلك، مع أنّ هذا المعنى -بيان السنّة لما
نزل من القرآن- قد رسمه القرآن نفسه؛ حيث يقول تعالى:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ
يُوحَى}()،
هذا بالنسبة للسنّة النبويّة.
أضف إلى ذلك: حدَّثَنا القرآنُ الكريم عن
الراسخين في العلم والمطهّرين العارفين بحقيقة القرآن
وتأويل آياته، وأنّهم الفئة الموكل إليها بيان آياته
المختلفة -سواء نزلت لسبب خاص أم لم تكن كذلك!-، يقول
تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ}()،
وبيّن من هم في آية أخرى حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}()،
وقد أكّدت الشريعة هذا المعنى تواترًا على لسان الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله) -الذي لا ينطق عن الهوى-
عندما جعلت روايات المعصومين (عليهم السلام) الثقل الموازي
لكتاب الله والقرآن الناطق!
وفق هذه القواعد، التي بذل العلماء في سبيل
إثباتها الغالي والرخيص إقامةً للدليل المنطقيّ والبرهان
العقليّ والنقليّ، ليس هناك من معنى للتحدّث عن نسبيّة
فهم القرآن، يستوي في ذلك الآيات التي نزلت لسبب خاصّ
والآيات النازلة ابتداءًا، وبذلك يظهر وهن هذه الدعوى التي
لم تقم على أساس معتبر.
ولسنا هنا في مورد مناقشة د. شحرور في
آرائه الغريبة، لذا نكتفي بهذه الإشارات، ويمكن مراجعة
التفاصيل في الكتب المختصّة.
ج - ملاحظات حسن حنفي
في كتابه "الوحي والواقع"، يرى الكاتب حسن
حنفي أنّه لا توجد آيات نزلت ابتداءًا، بل آيات القرآن
كلّها نزلت لأسباب()،
وقد كان ذلك يخدم هدفه في محاولة كشف صلة الوحي بالواقع().
كما أنّه يُبدي رأيًا آخر بالنسبة لأخبار
أسباب النزول، حيث ينقلها من غير تمحيص وتثبّت من
اعتبارها، ويعتبر أنّ ذلك ليس من مهامّ الباحث المعاصر!().
التعليق
غريبٌ من حنفي حديثه عن نزول آيات القرآن
كلّها وفق أسباب خاصّة بلا إقامة الدليل الشافي والبرهان،
مع كون الواقع ينفيها!!
نعم سبق أن ذكرنا روايات أهل البيت (عليهم
السلام) التي تؤكّد نزول أغلب الآيات وفق أسباب نزول، وهو
ما يخالف الرأي السائد في كتب علوم القرآن لدى العامّة().
وأمّا رأيه في مهامّ الباحث المعاصر وأنّه
يحقّ له نقل الغثّ والسمين من غير تحقيق، فهو أغرب؛ فإنّ
الباحثَ المعاصرَ إذا أراد أن يكون موضوعيًّا وأن يقدّم
شيئًا تستفيد منه الأجيال، مطالبٌ أكثر من غيره بالتدقيق
في الوثائق التاريخيّة التي يريد أن يركن إليها، وبالتالي
فإنّ عليه أن يتجنّب البحث الذي لا يستقيم على أساس ثابت.
هذا خلاصة ما يمكن أن نذكره حول ملاحظات
بعض الكتاب المعاصرين وآراءهم حول أسباب النزول.
يبقى الحديث عن الدراسات الشيعيّة في مجال
أسباب النزول في تاريخنا المعاصر، هل ما زالت هذه الدراسات
وفيّة للرأي الأساسي والمبدأيّ لعلمائها من عدم حاجتهم إلى
فصل هذا الباب عن روايات التفسير ما دام مرويًّا عندهم عن
المعصوم، ومشاركًا في تفسير القرآن؟! أو أنّ هنالك
جديدًا؟!
يتبع=
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
|