السنة السابعة / العدد التاسع عشر/ حزيران 2011 - رجب : 1432هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال =  أسباب النزول في الدراسات المعاصرة

3- الدراسات الشيعيّة

في مقال سابق([59]) تتبّعنا الحركة العلميّة لجهابذة علماء الشيعة والمفسرّين، فرأيناهم يتبعون المنهج المتعارف لديهم في مجال أسباب النزول، من عدم الفصل بينها وبين روايات التفسير المرويّة عن المعصومين، بناءًا على أنّ هذا الفصل كان حاجة سنيّة نتيجة بعض الظروف، أبرزها نقل الأسباب عن التابعين وليس عن أيّ معصوم أو شاهد للوحي، من هنا كان المتابع للدراسات الشيعيّة بشكل عامّ يلاحظ قلّة اهتمامها ببحث أسباب النزول كبحث مستقلّ عن بحث الروايات الواردة في تفسير القرآن، وبنظرة إلى أبحاثهم في التفسير وعلوم القرآن تطلّ حقيقة أنّ التحقيقات في مجال أسباب النزول نادرة للغاية.

ومن اللافت أنّ لجنة الباحثين في "مركز الثقافة والمعارف القرآنيّة"، خلال جمعهم آراء المفسّرين في مختلف علوم القرآن، لم تجد مفسّرًا شيعيًّا واحدًا تعرّض لمبحث أسباب النزول([60]) في مقدّمة تفسيره([61])!

وإنّهم وإن فاتهم بعض من تعرّض لذلك في مقدّمات التفسير، كالشيخ مغنيّة في "الكاشف"([62])، والسيّد السبزواريّ (قدس سره) في "مواهب الرحمن"([63])، ولكنّ ذلك لا يُفسد في الودّ قضيّة حيث أوردا كلامًا مختصرًا للغاية، واكتفيا بحكم عامّ عليها.

كما سبق أن ذكرنا في ما تقدّم أنّ طريقة المفسّرين الشيعة، كالشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي كانت الاكتفاء بالحديث عن حجيّة الخبر المفسّر للقرآن، من غير اعتناء زائد بأسباب النزول، وأشرنا أيضًا إلى ما قام به السيّد الخوئيّ  (قدس سره) في كتابه "البيان في تفسير القرآن" من حذف بحث أسباب النزول رأسًا، رغم تعرّضه لمعظم مسائل وأبحاث علوم القرآن، كما أنّ العلامة الطباطبائيّ قد قام بضمّ الأسباب المرويّة في أسباب النزول عن أهل البيت (عليهم السلام) إلى الروايات التفسيريّة ضمن عنوان واحد وهو البحث الروائيّ.

وتشكّل هذه الحقيقة امتدادًا لرأي ومنهج لدى هؤلاء العلماء في أسباب النزول، وواقع أنّه لا يفصلها فاصل معتبر عن روايات أهل البيت (عليهم السلام)، واعتقادهم بأنّ محلّها المناسب هو إلى جانب روايات التفسير، وذلك يعود إلى ما تقدّم من أنّه لم تعوزهم الحاجة -لا سيما من حيث السند والاعتبار وموارد الاستخدام- إلى إدراجها تحت عنوان مستقلّ يختصّ بها، هذا في الكلام حول أسباب النزول المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام).

وأمّا الأسباب الرائجة -وهي أسباب النزول المرويّة في كتب العامّة-، فقد أبدى بعضُ العلماء رأيهم بها في طيّات بحوثهم، وقد كان سلبيًّا([64])، ولذا لم يكونوا في وارد أن يكون لها حظوة واستقلال في مناهج تفسيرهم.

لكنّنا شهدنا في الآونة الأخيرة عددًا من الباحثين الشيعة الذين تناولوا باب أسباب النزول، تارة ببحث قضاياه النظريّة (على مستوى الدراية)، وأخرى بجمع روايات أهل البيت (عليهم السلام) المرتبطة بأسباب النزول (على مستوى الرواية)، معتقدين أنّ هذا العمل شأن لا بدّ من القيام به، وقدموا دراساتٍ متعدّدةً وبشكل مستقلّ، بما يحاكي الأبحاث المعقودة لدى علماء العامّة ضمن كتب علوم القرآن أو الكتب المختصّة بأسباب النزول.

ونحن في هذا المجال نلقي الضوء على أبرز هذه الدراسات الشيعيّة.

أوّلاً: على مستوى الدراية

دراسة السيّد محمّد باقر الصدر  (قدس سره)

ساهم السيّد الصدر  (قدس سره) في بحث أسباب النزول، وذلك في إطار دروسه حول علوم القرآن، والتي نُشرت في كتاب: "المدرسة القرآنيّة"([65]).

وقد شرع السيّد الصدر ببيان "فوائد نزول القرآن وفق أسباب النزول"([66])، ثمّ قام بـ "تعريفه" وبيان الأقسام التي يشملها هذا التعريف، وبالتالي بيان دائرة الآيات التي يكون لها أسباب للنزول([67])، تلا ذلك كلامه حول: "الفائدة في معرفة السبب"([68])، وهنا أعاد صياغة ما ذكره علماء القرآن باختصار، تحدّث بعدها عن مطلب "تعدّد السبب والمنزل واحد" و"تعدّد نزول آيات لسبب واحد"([69])، لينهي البحث بالحديث عن كون "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، مبيّنًا الرأي المشهور بين الأصوليّين في هذا البحث، ثمّ شفعه بتأييده وتعزيزه بما جاء من نصوص أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ([70]).

وعلى العموم مباحث هذا الباب مختصرة، وعدا قليل من التغييرات الشكليّة وبعض اللفتات الفنيّة التي عوّدنا عليها السيّد الصدر، فإنّه يصعب أن تجد فيه نظرةً جديدةً لأسباب النزول، أو محاولة تكييفه في العمق مع المنظومة الشيعيّة، بل تُعدّ هذه الدراسة خلاصة ما ذكره الزركشيّ والسيوطيّ في دراية هذا الباب، ولذا تحسب نفسك عند قراءته أنّك تقرأ البرهان أو الإتقان بلغة عصريّة.

ونشير إلى أنّ السيّد محمّد باقر الحكيم في كتابه "علوم القرآن"، عند وصوله إلى بحث "أسباب النزول"، قد اكتفى بنقل البحث الذي قدّمه أستاذه السيّد الصدر، مشيرًا في الهامش إلى المصدر([71]).

دراسة الشيخ محمّد هادي معرفة

خصّ الشيخ معرفة "أسباب النزول" ببحث خاصّ، في موسوعته في علوم القرآن، فعرضها تحت عنوان: "معرفة أسباب النزول"([72])، وذكر عدّة مسائل ترتبط بهذا الموضوع:

فقد بحث أوّلاً قيمة هذه المعرفة([73])، وحذا في ذلك حذو ما ذكره الواحديّ والزركشيّ والسيوطيّ، ناقلاً نفس الشواهد التي اعتمدوها، وربما أضاف رواية في نفس المعنى عن أهل البيت (عليهم السلام) أو مثالاً عن مجمع البيان لا أكثر.

ثمّ تعرّض لـ: "الطريق إلى معرفة أسباب النزول"([74])، فحدّثنا عن الطابع الغالب لأسباب النزول من الضعف والوهن، وقد أورد صفحات عديدة في الشواهد على ذلك، وبالتأكيد فهو قصد من ذلك الأسباب الرائجة المرويّة في كتب العامّة، من غير أن يشير إلى هذا التقسيم والفرق بينها وبين الروايات المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام) في أسباب النزول.

بعدها بحث الضابطةَ في اعتبار "أسباب النزول"، واختار وسيلة "لعلّها أدقّ وأوفق للاعتبار وأكثر اطّرادًا مع ضوابط التاريخ"([75]) كما ذكر، والبحث في ضابطة اعتبار "أسباب النزول" مهمّة جدًا من ناحية الاعتماد على أسباب النزول، وتمثّل لبّ هذا المطلب، وإذا وُفّقنا فسنبحثها في مقال مستقلّ مفصّلين الكلام عن الاعتبار في تلك الأسباب المرويّة عن التابعين، مقابل الروايات المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام).

بعد ذلك بحث الشيخ معرفة الفرقَ بين "سبب النزول" و"شأن النزول"([76])، وأشار إلى ما ذكره الزركشيّ في هذا المجال، ثمّ أورد ما اعترض به السيوطيّ على الواحديّ فيما يرتبط بهذه النقطة، مبديًا عدم موافقته لما ذهب إليه السيوطيّ([77]).

ثمّ جرّه الحديث إلى مطلب "التنزيل والتأويل" في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وما ذكروه من ظهور وبطون الآيات([78])، ليضفيَ إلى مطلب "عموم اللفظ وخصوص السبب" المبحوث في بطون كتب علوم القرآن -وغيرها- جنبةً روائيّة، وقد وُفّق في ذلك إلى حدٍّ كبير، إلا أنّه جعل بحث "عموم اللفظ وخصوص السبب" بحثًا مستقلاً عنه، واكتفى فيه بعرض ما هو معروف من إثارات علماء العامّة في هذا الموضوع([79])، من غير أن يجمع بين المطلبين!

وفي بحث آخر نقل عن الواحديّ كلامَه في لزوم حضور ناقل السبب ومشاهدته بنفسه وعلّق على الأمر([80])، توسعةً وتضييقًا، من غير أن ينفذ إلى عمق هذا المطلب.

وفي الختام ذكر مطلبين عامّين يرتبطان بالتفسير أكثر من ارتباطهما ببحث "أسباب النزول": أحدهما: نزول القرآن بصيغة: "إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة"، كما ورد في الرواية([81])، والثاني: في "كيف الاهتداء إلى معالم القرآن؟"([82]).

زبدة المقال

على العموم، فإنّ دراسة الشيخ معرفة حاولت هي الأخرى فتح باب الحديث حول أسباب النزول وفق نظريّة أهل البيت (عليهم السلام)، إلا أنّها لم تقدّم الكثير في عمق هذا المطلب، فضلاً عن أنّ أكثر الأبحاث فيها لم تُعالَج وفق نظرة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، بالإضافة إلى عدم استيفاء أهمّ أبحاث أسباب النزول فجاءت مبتورة إلى حدٍّ بعيد.

ومن اللافت أنّ هذه الدراسة قد افتقدت الترتيب المنهجيّ وتسلسل الأبحاث، على خلاف عادة سماحة الشيخ معرفة.

دراسة السيّد محمّد رضا الجلاليّ

قدّم السيّد الجلاليّ دراسة حول أسباب النزول، نشرتها مجلّة تراثنا في العدد الرابع([83])، وهي في الوقت عينه مقدّمة كتاب له:

شرع السيّد في هذه الدراسة بالحديث عن أهميّة أسباب النزول، فكرّر في البداية ما ذكره علماء العامّة في كتبهم، فيعود بك إلى كتاب البرهان أو الإتقان مستخدمًا عباراته الخاصّة، لكنّه أضاف لاحقًا عددًا من الإشكالات الواردة على أهميّة هذا البحث، وأجاب عنها بما ذكره علماء القرآن، مشفوعًا بروايات أهل البيت (عليهم السلام).

ثمّ تحدّث عن طرق إثبات أسباب النزول، وهو ما دعاه أوّلاً إلى تعريف أسباب النزول، حيث قام بتوسعة التعريف المتداول.

بعدها بيّن ما ذكره علماء القرآن من اشتراط كون أخبار أسباب النزول منحصرة بمن شاهد الوحي.

وتعرّض في المقام اللاحق إلى بحث حجيّة أسباب النزول، ولم يخرج في ذلك عن دائرة ما سلكه العامّة من تقييم للأسباب الرائجة وكيفيّة إيجاد مخرج لمأزق اعتبارها كونها مرويّة عن التابعين لا عن المعصومين ولا عن شاهدي الوحي.

وأخيرًا ذكر مسردًا للكتب الشيعيّة المصنّفة في أسباب النزول، وقد وُفّق كثيرًا في الإشارة إلى عدد كبير من الكتب الشيعيّة التي ورد في طيّاتها روايات وأحاديث أسباب النزول، سواء أفردتها ببحث مستقلّ أم لم تفعل -وهي الأغلب-!.

تقييم دراسة السيّد الجلاليّ

إنّ دراسة السيّد الجلاليّ على أهميّتها وكثرة فوائدها وتنظيمها من حيث تسلسل المطالب، وتقديمها لمسرد مهمّ في عالم كتابة أسباب النزول، تحوم حولها مجموعة من الملاحظات:

إنّ هذه الدراسة، وإن مثّلت في بعض جوانبها -التعريف والمسرد- شيئًا من النظرة الشيعيّة لأسباب النزول، إلا أنّها لا تلبث أن تعود إلى أحضان دراسات أهل العامّة في هذا المجال، ولا سيّما في الخطوط العامّة للمطلب، حيث تقع في فخّ التقليد لما أورده العامّة، ولا شكّ أنّ ذلك يعود إلى عدم وجود دراسات لدى علمائنا السابقين حول هذا الباب بشكل مستقلّ.

كما أنّ السيّد، وإنْ وُفّق إلى حدٍّ بعيد في الالتزام بتوسعة التعريف، إلا أنّ السبيل الذي سلكه لا يفي بالمطلوب، وهذا أيضًا مطلب شائك نسأل الله أن يوفّقنا لدراسته في القادم من البحوث.

على أنّ الباحث قد اكتفى ببحث حجيّة واعتبار أسباب النزول المرويّة عن التابعين، ممّا يشير إلى أنّ اهتمامه قد وقع على الأسباب الرائجة المرويّة في كتب العامّة دون روايات أهل البيت (عليهم السلام)، من غير أن يُشير أو يُلاحظ هذا التقسيم!

أمّا المسرد فعلى أهميّته إلا أنّه لا بدّ من الإشارة إلى ملاحظات حوله:

1- ذكر السيّد الجلاليّ في هذا المسرد الكتبَ التي تتناسب مع التوسعة التي أضافها إلى التعريف المتداول، ولذلك فإنّه أورد كتبًا تُعتبر من كتب الفضائل.

2- أورد بعض الكتب التي لم يثبت أنّها من كتب أسباب النزول، ككتابي التنزيل للعيّاشي والمدينيّ، من غير أن يُحقّق في ذلك.

3- لم يتعرّض إلى تحليل معلومات مسرده هذا، فبقيَ جامدًا بلا حراك.

4- لا ينسجم مسرده كثيرًا مع ما ذكره في بحث الحجيّة والاعتبار، حيث بدا هناك أنّه يبحث الأسباب الرائجة ومشكلة اعتبارها وأنّ جلّ اهتمامه ينصبّ عليها -كما تقدّم-، فيما القسم الأكبر من مسرده هو من نوع روايات أهل البيت (عليهم السلام)، التي لم يتعرّض لها أصلاً في ذلك البحث.

وأخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه ينقص هذه الدراسة مباحث شيعيّة ضروريّة وهامّة لا غنىً عنها في مجال أسباب النزول.

دراسة السيّد محمّد باقر حجّتي

قدّم السيّد حجّتي دراسة في أسباب النزول في مصنّف مستقلّ([84])، واعتمد في هذه الدراسة على متن "الإتقان" للسيوطيّ مترجمًا إلى الفارسيّة، وليكون متمايزًا عنه وعد بمناقشته في مختلف القضايا، وبرفع مختلف الإشكالات الواردة عليه، بعدما وجد كثيرًا من الهفوات وعدم الوضوح فيه، فضلاً عن حاجة آراء السيوطيّ إلى نقد وتحليل([85])، كما شرط المصنّف على نفسه أن يستفيد في دراسته من المنابع والمصادر الشيعيّة التي تزخر بمطالب علوم القرآن، ليعكس كتابه نظريّة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) علاوة على ذكر آراء أهل السنّة، بحيث يشبع حاجات الفريقين، ويجيب على أسئلتهما([86]).

ولكنّ الناظر في هذا الكتاب، يجد أنّ التعليق على النظريّات جاء نادرًا وغير مؤثّر، فكان بحثه من هذه الجهة مناسبًا للمدرسة السنيّة إلى حدّ كبير، فيما استغرقه جهدُ مناقشةِ بعض أسباب النزول المرويّة في كتب أسباب النزول، والتي تُعدّ خلافيّة وشائكة، فاحتلّ قسمًا كبيرًا من دراسته، والحقّ أنّه أفاد كثيرًا وأجاد في هذا المجال، ولكنّ ذلك أخرج كتابه عن الغاية والهدف الذي كُتب لأجله.

ولذا فمن ناحية دراية علم أسباب النزول لم يُقدّم هذا الكتاب شيئًا جديدًا، بعد أن صبّ المصنّف جهده في نقاش ما نُقل من أسباب نزول خلافيّة، شائكة وحسّاسة.

من هنا فالكتاب المذكور، على أهميّته، لا يشفي الغليل في بيان حقيقة هذا العلم، وبيان النظريّة الشيعيّة في أسباب النزول.

وقد ذكر بعضهم مجموعة أخرى من الإيجابيّات والسلبيّات عند عمليّة تقييم عمله، فذكروا في الإيجابيّات: تنوّع مطالبه، والرجوع إلى المنابع الأصليّة، فيما أخذوا عليه ذِكْرَ الأقوال بلا تحليل -بخلاف ما وعد في هذا الكتاب-، وفقدان البحث المتكامل، وتطويل المطالب([87]).

ثانيًا: على مستوى الرواية

دراسة السيّد مجيب جواد الرفيعيّ

جمع السيّد الرفيعيّ روايات أهل البيت (عليهم السلام) الواردة في مجال أسباب النزول، في كتاب بعنوان: "أسباب النزول في ضوء روايات أهل البيت (عليهم السلام)"([88]).

وهذه المحاولة هي المحاولة الشيعيّة الوحيدة بين أيدينا على مستوى الجمع الروائيّ المستقلّ لأسباب النزول المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أشار المصنّف بنفسه إلى ذلك في المقدّمة، قال: "...بما أنّ المطبوع وفق روايات أهل البيت مفقود ونادر، لذلك أحببت أن أُشارك حدّ الاستطاعة في سدّ ولو جزء يسير من هذا الفراغ"([89]).

ونحن ربما نوافقه الرأي بجمع روايات أسباب النزول عن أهل البيت (عليهم السلام) بشكل مستقلّ عن روايات التفسير، حتى ولو لم تكتمل النظريّة في جعل هذا الباب والعلم مستقلاً وفق روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك بعد أصبح هذا الأمر واقعًا يرغب به الباحثون، ولو من باب محاكاة ومقارنة أسباب النزول الواردة لدى العامّة، بعد أن فُرضت في الساحة بابًا مستقلاً نتيجة الحاجة لدى تلك المدرسة([90]).

إلا أنّ دراسته هذه يشوبها الكثير من الثغرات:

يعاني هذا الكتاب من عدم وضوح المنهج بل ضعفه:

فتارة يعرّف أسباب النزول بأنّها: "ما نزلت الآية، أو الآيات، متحدّثة عنه أو مبيّنة لسببه"([91])، في تقسيم يشمل كلّ الآيات القرآنيّة!!، فأيّ آية في القرآن ستخلو من الحديث عن شيء أو تبيين سبب شيء؟!

وأخرى يتبنّى التعريف والتقسيم المتداول في مجال أسباب النزول، من أنّ الآيات على قسمين؛ بعضها مرتبط بسبب نزول خاصّ، وبعضها نزل ابتداءً، وما هو مرتبط بسبب النزول، هو تلك الآيات التي نزلت عقب حادثة مهمّة ولافتة في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو عقب سؤال وُجّه إليه (صلوات الله عليه)، أو نزلت لبيان موقفٍ معيّن عند تعرّض المسلمين في تلك الفترة لظرف معيّن تقتضي ذلك الموقف([92])، فهذا يشمل قسمًا خاصًّا من آيات القرآن، حيث تخرج الآيات "التي تحكي تأريخ ووقائع الأمم الماضية"([93]) ما لم تنزل إثر سؤال المسلمين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) عنها، وكذلك "الآيات والسور القرآنيّة التي تحكي أخبار الغيب وتصوير آفاق عالم البرزخ، والجنّة والنار، وأحوال يوم القيامة..."([94]).

وبذلك يكون هذا التعريف أخصّ من التعريف الأوّل الذي ذكره، وهو التعريف الذي ذكره العامّة في هذا المجال، وقد أورده بلا نقاش أو تمحيص وتدقيق.

والأهمّ أنّه وعد بأن يجمع الروايات التي ترتبط بالأسباب الخاصّة التي تحدّث عنها في التعريف الأخير([95])، لكنّه وقع في الخلط أثناء التطبيق، حيث لم يفِ بوعده بعدم إيراد الآيات التي لا ترتبط بسبب خاصّ -حسب تعريفه-، فأورد ما كان من التاريخ، مع أنّه صرّح بأنّها خارجة؛ كما في ما أورده في قضيّة إبراهيم مع إسماعيل (صلى الله عليه وآله) وهاجر([96])، وكما ورد من أنّ الجاهليّ كان يقول: "كان أبي، وكان أبي"([97])، وحال القوم الذين توفّاهم الله ثمّ أماتهم في غابر الأزمان([98])...

وأورد آيات في الأحكام والأخلاق، لا ترتبط هي الأخرى بسبب خاصّ؛ كما في الآيتين 204-205 من سورة البقرة، واللتين نزلتا في المرائي([99])، والآية 229 من نفس السورة التي نزلت في الخُلع([100])، وما نزل في آكل مال اليتيم من الآية 10 في سورة النساء([101])، والآية 24 منها التي نزلت في المتعة([102])...

هذا بالإضافة إلى أنّه أورد روايات غير منسوبة إلى أهل البيت (عليهم السلام)، كالذي نقله عن ابن عبّاس في الآية 125 من سورة البقرة([103])، وعن ابن عمر في الآية 261 منها([104])، وعن أبي إسحاق في الآية274 من نفس السورة([105])، وعن عبد الرحمن بن تميم الدوسي، في الآية 135 من سورة آل عمران([106])...، وأورد أيضًا ما لم يُعلم نسبته إليهم (عليهم السلام)، كما ورد في مجمل كتابه نقلاً عن عليّ بن إبراهيم، أو عن مجمع البيان بعنوان: "قيل: نزلت...".

كلّ ذلك جعل الاستفادة من جمعه تفقد رونقها، وكان حَريًّا به أن يُقدّم دراسة شيعيّة متكاملة على مستوى البحث الدرائيّ النظريّ، ليتمّ تطبيقها بدقّة حين الجمع، ولو قام بذلك، لجمع الكمال إلى جمال كلمات أهل البيت (عليهم السلام) التي قام بإيرادها في كتابه (جزاه الله خير الجزاء).

الخلاصة

عانت أغلب الدراسات الحديثة في أسباب النزول من عدوى الاجترار والتقليد، فلم يفلح الدارسون لهذا الباب في أن يتقدّموا به خطوات إلى الأمام، فقد يغترّ المراجعُ بكثرة التصنيف فيه، ولكن عند التحقيق يهوله ما يجده من تكرار مملّ ومخلّ.

أمّا بالنسبة للدراسات الشيعيّة، فلا نلحظ التصنيف في هذا العلم إلا من قِبَل عدد من الباحثين الذين لا يتجاوزون أصابع اليد، بما ينسجم مع تاريخ الشيعة على طول الخطّ، حيث لم يروا حاجة لفصل باب أسباب النزول عن باقي الروايات التفسيريّة.

على أنّ الدراسات التي تعرّضت لهذا الباب، قد ارتمت كثيرًا في أحضان الدراسات السنيّة، عدا ملاحظات معدودة.

لذا ينتظر هذا البابُ الكثيرَ ليتكيّف مع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) إذا ما رغب الباحثون الشيعة بمجاراة أهل السنّة في فصل روايات أسباب النزول ببحث مستقلّ عن روايات التفسير المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام)، رغم عدم الحاجة الملحّة لذلك، وعدم القيمة العلميّة الحقيقيّة له.

 انتهى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([59]) راجع مجلة رسالة النجف، العدد17.

([60]) عنونوا البحث بـ: "فوائد أسباب النزول"، ولكن يظهر أنّهم أرادوا الأعمّ، بعد ملاحظة ما أوردوه تحت هذا العنوان، فضلاً عن عدم وجود بحث آخر في هذا المجال (راجع: مركز الثقافة والمعارف الإسلاميّة: علوم القرآن عند المفسّرين، مكتب الإعلام الإسلاميّ، ط1، ج3 ص369-384).

([61]) وهو الملاحظ حتّى في التفاسير القديمة؛ حيث اكتفى الشيخ الطوسيّ والطبرسيّ مثلاً، بالإشارة إلى الخبر المعتمد في تفسير القرآن.

([62]) الشيخ محمّد جواد مغنيّة: تفسير الكاشف، لاحظ المقدّمة.

([63]) السيّد عبد الأعلى السبزواريّ (قده) : مواهب الرحمن، مؤسسة المنار، ص7.

([64]) وأكثر ذلك وقع في متون التفاسير، وفي طيّ بيان تفسير الآيات، حيث أبدوا الرأي فيها بشكل عامّ، وظاهر الحكم المذكور فيها -وإن كان يشمل ما يكون روايات عن أهل البيت (ع)- إلا أنّ نظرهم كان إلى الأسباب الرائجة فحسب، وسبب ذلك ما سبق أن نبّهنا إليه من أنّها المرتكزة في الأذهان بهذا العنوان بحيث ينصرف الكلام والبحث إليها عند التحقيق.

([65]) تمّت أخيرًا طباعة الكتاب طبعةً جديدة، وتولّى الأمر: مؤسسة الهدى الدولية للنشر والتوزيع، ضمن مجموعة تراث الشهيد الصدر، راجع البحث: 227-232.

([66]) السيد محمّد باقر الصدر: م.س،  ص227.

([67]) م.ن،  ص227-229.

([68]) م.ن،  ص 229.

([69]) م.ن،  ص230-232.

([70]) م.ن،  ص232.

([71]) السيّد محمّد باقر الحكيم: علوم القرآن، مجمع الفكر الإسلاميّ، ط4، ص37-43.

([72]) الشيخ محمّد هادي معرفة: التمهيد في علوم القرآن، مؤسسة النشر الإسلاميّ، ط1 ج1 ص237-267.

([73]) م.ن.: ج1 ص241.

([74]) م.ن.: 1 ص245.

([75]) م.ن.: 1 ص245.

([76]) سيأتي أنّ كلامه في ذلك لم يخلُ من تشويش، وخروج عن المصطلح!

([77]) م.ن.: 1 ص254.

([78]) م.ن. ج1 ص255.

([79]) م.ن، ج1 ص261.

([80]) م.ن. ج1 ص260.

([81]) م.ن. ج1 ص263.

([82]) م.ن. ج1 ص264.

([83]) مجلة تراثنا، العدد الرابع، ص 16-69.

([84]) وقد طبع تحت عنوان: "أسباب النزول"، وتولى أمر نشره: دفتر نشر فرهنك إسلامي-إيران، ونلفت النظر إلى أنّ دراسته مصنّفة باللغة الفارسيّة.

([85]) لاحظ النصّ الفارسيّ: د. السيّد محمّد باقر حجّتي: م.س،  ص11-12.

([86]) م.ن، ص11-13.

([87]) محمّد بهرامي-سيّد إبراهيم سجّادي: مجلة بزوهشهاي قرآنى، نقد وبررسي كتابهاى أسباب نزول، ص150-151.

([88]) وقد قام بنشره: انتشارات دار الغدير، قم-إيران.

([89]) السيّد مجيب الرفيعي: م.س، ص7.

([90]) تحدثنا عن ذلك مطوّلاً في مقال: "استقلال أسباب النزول بين مدرستين" المنشور في مجلة رسالة النجف، العدد 17.

([91]) م.ن، ص7.

([92]) م.ن، ص9.

([93]) م.ن، ص9.

([94]) م.ن، ص9-10.

([95]) م.ن، ص10.

([96]) م.ن، ص15-17.

([97]) م.ن، ص23-24.

([98]) م.ن، ص 28.

([99]) م.ن، ص24.

([100]) م.ن، ص27.

([101]) م.ن، ص49.

([102]) م.ن، ص50.

([103]) م.ن، ص15.

([104]) م.ن، ص29.

([105]) م.ن، ص31.

([106]) م.ن، ص38.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع عشر