العدد الثاني / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تأثير اللغة العربية في لغات العالم

 د. حسن جعفر نور الدين*

 

العلاقات بين اللغات الإنسانية

لم تسلم ولن تسلم أية لغة في العالم من التأثير والتأثر في غيرها وبغيرها من اللغات، بحكم العلاقات والصلات المتنوعة، هذا في ما سبق من عصور، فكيف اليوم، وقد قطعت البشرية أشواطًا عظيمة في التقارب والتلاقي، فقرُبت المسافات، وانتشرت الوسائل السمعية والبصرية الحديثة التي يتخاطب فيها أبناء الكوكب الأرضي، ويتبادلون اللغات والخبرات والإمكانات.

فاللغة كالإنسان كائن حي، تنمو وتعيش وتتكاثر، ويموت من أولادها الألفاظ كثير عبر التاريخ، وتتهاوى كلمات لم تثبت، ولم تجد لها مكانًا دائمًا وقبولاً من المجتمع الذي تعيش فيه، وتدخل كلمات جديدة طبقًا لقواعد وأصول تحدد شروط الدخول أو عدمه.

ففي علم الأجناس أو الإنسان (الانتروبولوجيا)، نرى أنه ما من عرق بشري يسلم من التمازج مع العروق الأخرى، وما من نوع بشري نقي الدم تمامًا، إلا في ما ندر عند بعض السلالات المغلقة اجتماعيًا وإنسانيًا، والمتعصبة لنظمها الوراثية والعائلية.

وهذا يمكن أن ينطبق  على ما لها من رموز صوتية تشكل أُطر التفاهم والتخاطب فيما بينها، إذ لو قُيِّض لهذه المجموعات الصوتية، أن تبقى معزولة عما حولها، منقطعة الصلات باللغات المجاورة، أمكن أن تسلم لغتها من الألفاظ الدخيلة، وإن حصل هذا بالفعل، فإنه يدل على خمول هذه المجموعات وتعصبها الشديد للغتها، ورفضها للآخر، مما يرتب انعكاسات سلبية وخطيرة على مستقبل أفرادها، وعلى وجودها بالذات([1]).

علاقة العرب بغيرهم من الشعوب

وليس العرب من هذا القبيل، بل هم على العكس من ذلك تمامًا، كانوا وما زالوا منفتحين على جميع من حولهم، ولهم صلات تاريخية مع جيرانهم، كما أن لغتهم عريقة وذات تاريخ عريض ورسوخ لا خلاف عليه، فمنذ الجاهلية كان لهم صلات وعلاقات متينة مع الفرس عن طريق (المَناذرة)، ومع الروم عن طريق (الغساسنة)، وفي الجنوب عن طريق (الأحباش)، تحكم هذه العلاقات الحروب حينًا والهجرة ومصالح الجوار أحيانًا أخرى، زِدْ على ذلك علاقاتهم مع الهند والصين.

ولذلك فإنّ مساحة التبادل اللغوي واسعة متوافرة إلى أبعد حد، وقد أثبتَت الأيام أن كل لغة من لغات هذه الأمم عاشت مع العربية فأعطتها وأخذت منها، وكانت مكة المكرمة سوقًا تجاريًا تلتقي فيها جميع القبائل والقوافل القادمة من كل اتجاه، وهي علاوة على ذلك همزة وصل بين الشعوب المجاورة كافة، يستضيفهم عكاظها وكعبتها وأسواقها، وتتلاحم اللغات فيما بينها.

فمكة كانت منذ القديم المركز الديني والتجاري والثقافي والسياسي في قلب الجزيرة العربية، مما يهيئ الظروف وإمكانات التبادل اللغوي عبر المحاورة والجدال والتواصل والحاجة إلى فهم الآخر([2]).

نعم إنّ تبادل التأثر والتأثير بين اللغات أمر شائع وحتمي بين شعوب العالم كافة، علاوة على أنه أحد القوانين الاجتماعية والإنسانية العامة.

أسباب انتشار العربية

أسهم الإسلام العظيم وكتابه المشرق (القرآن الكريم) بإشاعة اللغة العربية عبر الانفتاح الإسلامي والتوسع الحميد في مناطق كثيرة ونائية من العالم، كما أثبتت الوقائع أن لغتنا قادرة على أن تعيش كل عصر وكل جيل، وكل حدث وتطور، لأن ما فيها من المميزات يؤهلها لأن تبقى تتناسل وتنجب من ثروتها ثروات جديدة، و مصطلحات شاملة تغني الحياة والوجود.

حتى أن مجمع اللغة العربية في القاهرة كان حكيمًا عندما وافق جميع أعضائه في سنة 1948م على جواز النحت عند الضرورة، لذلك لم يجدوا حرجًا من قول (درعمي) نسبة إلى دار العلوم، و(أنفمي) للصوت الذي يخرج من الأنف والفم معًا، إلى غير ذلك من الألفاظ الكثيرة([3]).

كما أن من أسباب انتشار العربية الواسع في الماضي واليوم - فضلاً عن أنها لغة الإسلام كما ذكرنا آنفًا- هو تفوُّقها اللغوي واتساع مدارجها الصوتية، وحيويتها وقوتها.

كما أنها واجهت الصعاب ولم تنحنِ وخرجت بعد سقوط بغداد أكثر إصراراً على البقاء، رغم فترة الانحطاط التي لم تحنِ هامتها، بل عادت من جديد لتواكب حركة الحياة بإصرار وفاعلية.

وقد كانت العربية لغة الأدب والشعر والعلوم والطب والفلسفة وغير ذلك كثير في القرون الوسطى، كما أنها أسهمت في نقل العلوم العربية إلى اللغات الأخرى، وكانت لغة الحكّام العرب واللغة الرسمية في الإدارة، ولغة التجار العرب أيضًا، لذلك لم يكن من العسير استبدال العربية مكان شقيقتها الآرامية في فلسطين وسوريا والرافدين، وبقاء العربية في مالطة إلى اليوم رغم استيلاء النورمانديين عليها سنة 1090م - ورغم مجاورتها لإيطاليا- دليل حيوية هذه اللغة وقدرتها، ونقائها، لغة دين وتجارة وأدب وسماحة وفكر وحب وأخلاق([4]).

لكل تلك الأسباب التي ذكرنا، تُعتبر اللغة العربية أكثر اللغات تأثيرًا وانتشارًا، رغم أن اليونانية واللاتينية أقدم من العربية، وقد برز منهما أدباء وشعراء كثيرون قبل بزوغ فجر العربية، كما أن الفرنسية والإنكليزية -وهما من أشدّ اللغات تأثيرًا في أَلسن الشعوب المتمدنة- لم يتجاوز تأثيرهما في العالم حدود تأثير اليونانية واللاتينية، وعلى عكس ذلك نرى اللغة العربية، رغم تعرضها لمؤثرات شتى، منها حقبة الانحطاط، أنها ذات تأثير كبير في أكثر من مئة من اللغات واللهجات العالمية، خاصة في أنحاء أوروبا وأميركا وأستراليا، وفي نحو خمسين من شعوب آسيا وأفريقيا([5]).

إنّ هذا الجاه والعزّ المختصين بلغة الضاد حِرز من عند الله، ودليل على أهمية هذه اللغة وقداستها، وقد تعلمت الشعوب - خاصة الإسلامية غير العربية - هذه اللغة وأتقنتها بغية الدخول إلى حرم القرآن الكريم، واقتطاف معانيه الجليلة وتعاليمه السمحاء وأوامره ونواهيه، ثم إن كثرة فتوحات العرب في جميع أنحاء العالم نقل اللغة إلى كل مكان، خاصة قارات أسيا وأوروبا وأميركا وأفريقيا، ولو عُدنا قليلاً إلى الوراء، لوجدنا أنه بعد هجرة الرسول  بستة عشر عامًا فقط، فتح العرب المسلمون فلسطين وسوريا ولبنان سنة 638م، ثم مصر سنة 639م، وطرابلس الغرب سنة 647م، وتونس 680، ، والجزائر سنة 683م، والمغرب سنة 684م، ومالطة سنة 870م([6]).

وقد تجاوزت فتوحات العرب حدود العالم العربي، ففتحوا الهند في القرن السابع الميلادي، وإيران سنة 652م، واستولوا بعد ابتداء القرن التاسع على تركستان، ونشروا الإسلام في كل أنحائها، ودخلت أفغانستان هذا الدين في النصف الأول من القرن الثامن، ثم نشره تجار عرب وإيرانيون في جزيرة جاوه سنة 1200م، أما الجزائر الفيليبنية فالعرب من أهم عناصر شعبها، مع الهنود والصينيين والأوروبيين، هكذا انتشر الإسلام وامتد نفوذ العربية في كثير من دول العالم([7]).

أما التَتَر الذين دخل الأتراك منهم في الإسلام فقد فتحوا سنة 1226م أهم مدن روسيا، وظلوا مستولين عليها إلى سنة 1380م.

مجموعة اللغات التي تأثرت بالعربية

ولو أحصينا اللغات العالمية ذات الحروف العربية في آسيا مثلا، لوجدنا أكثر من ست وعشرين لغة:

منها: التركية، والإيرانية، والأذربيجانية، والكردية، والأفغانية، والهندستانية في (الهند الشمالية)، والبالوتشية جنوب أفغانستان، والداخينية لغة المسلمين في الهند الغربية والجنوبية، والكشميرية والكورانية في كشمير، والبنجابية والملتانية في البنجاب، والسندية في الإقليم الشمالي من ولاية بومباي في الهند، والتاميلية جنوب الهند وجزيرة سيلان، والأُزبكية في تركستان، والكرغيزية في تركستان الصينية، وآسية الروسية وسيبيريا الغربية، والمليالامية في الهند الجنوبية الغربية، والجاكاتائية في تركمنستان الروسية، والكشغرية في تركستان الصينية والجاوية في جزيرة جاوه، والسندانية في جاوة الغربية، والمالائية في عدة أقطار من ماليزيا، والسولوئية في جزائر سولو من الجزر الفيليبنية([8]).

 يتبع =

أــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية في صيدا.

([1]) مجلة التراث العربي العددان 71-72 - تموز 1998- ص64 و65.

([2]) المصدر نفسه ص 64 و65.

([3]) الأمير مصطفى الشهابي - المصطلحات العلمية في اللغة العربية- محاضرات ألقيت سنة 1955م - ص 15.

د. صبحي الصالح - دراسات في فقه اللغة - دار العلم للملايين - ط6 -1976م - ص 273.

د. حسن جعفر نور الدين - الموسوعات والمعاجم ببين الماضي والحاضر- دار شهاب برس- بيروت- ط1-2003م - ص 13-17.

د. إميل يعقوب- المعاجم اللغوية العربية- دار العلم للملايين- 1981م- ص 32-35.

([4]) د.يعقوب بكر- مكتبة بيروت-ط1 -1976م- ص 16-20.

([5]) الأب رفائيل نخلة اليسوعي- غرائب اللغة العربية- المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1909م - ص 119.

([6]) تاريخ الدولة العربية تأليف الدكتور عبد العزيز سالم/مكتبة النهضة العربية-بيروت 1971: ص483 إلى ص494.

([7]) غرائب اللغة العربية ص 124.

([8]) المصدر نفسه - ص 125.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية