ومن
العناوين البارزة
في كتاب الكافي والتي كانت مَثار جدلٍ وبحثٍ وردٍ حول
موضوع التحريف، هو ما ذكره الشيخ الكليني في كتاب الحجة
-أيضًا- تحت عنوان: (باب فيه نكت ونتف من التنزيل في
الولاية)([1])،
وهذا الباب يُعتبر من الأبواب الطويلة، لاشتماله على ما
يناهز المائة حديث، ولو سبرنا جميع الأحاديث فيه لوجدناها
تنقسم إلى عدة أقسام:
فمنها: ما
هو من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه:
مثل الحديث
رقم1: رواه بإسناده عن سالم الحناط، قال: (قلت لأبي جعفر
عليه السلام: أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى {نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}؟ قال: هي
الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام).
ومثل الحديث
رقم2: رواه بإسناده عن إسحاق بن عمار، عن رجل، عن أبي عبد
الله عليه السلام في قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً
جَهُولاً}، قال: (هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام).
وكما في
حديث رقم 3 و4 و5 و6 و7 و9 و10 و11 و12 و13 وغيرها كثير
كلها بهذا المعنى.
ومنها: ما
هو ظاهر في التحريف، ولكن بالمعنى الثاني أو الثالث من
المعاني المتقدمة للتحريف، والتي أشرتُ فيما تقدم إلى وقوع
التحريف بهذين المعنيين، وعدم منافاتهما الاعتقاد بأنّ
القرآن الذي نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو
ما بين الدفتين من دون زيادة أو نقيصة فيه، كما في حديث: 8
و23 و31 و32 و47، وغيرها.
ومنها: ما
لا علاقة له بأي معنى من معاني التحريف أصلاً.
ومن جملة
ما استندوا إليه لإثبات مُدّعاهم جملة روايات أوردها الشيخ
الكليني (رحمه الله) في كتاب فضل القرآن في باب النوادر([2])كحديث
رقم 2 و12 و13 و16 و23 و28، وفي بابين من النوادر في كتاب
الحجة([3])باب
45 حديث 2 وباب 108 ح3 و 4.
وباب
النوادر في كُتب الحديث خُصّص للروايات التي فيها خلل في
سندها أو متنها، وبملاحظة المعنى اللغوي لكلمة (النوادر)
الذي هو بمعنى : "سَقَطَ، وشَذَّ، وخرج عن المعتاد"([4])،
يتضّح المراد ويندفع الإيراد.
ومما يدلّ
على استعمال المحدِّثين لهذه الكلمة بهذا المعنى ما قاله
الشيخ المفيد (رحمه الله): "وأما ما تعلّق به أصحاب العدد
في أن شهر رمضان لا يكون أقلّ من ثلاثين يومًا، فهي أحاديث
شاذّة قد طعن نقَّاد الآثار من الشيعة في سندها، وهي
مُثبَتة في كتب الصيام في أبواب النوادر، والنوادر هي التي
لا عمل عليها"([5]).
وقد تمسّك
جماعة ممن يتتبّعون السَقَطات، ويبحثون عن الزلات، سالكين
غير طريق الإنصاف، وهمَّهم إشاعة الخلاف، منهم إحسان إلهي
ظهير([6])
ومحمد مال الله([7])
وعلي بن عمر فريج([8])،
تمسّكوا بحديث هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: (إن القرآن الذي جاء به جبرائيل "عليه
السلام" إلى محمد "صلى الله عليه وآله" سبعة عشر ألف آية)([9]).
مع أن
الموجود في القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ السبعة آلاف
آية.
أقول:
أولاً: إن
هذا الحديث أورده الشيخ الكليني في باب (النوادر) التي
تقدم ذكرها آنفًا.
ثانيا: إن
نُسخ الكافي مختلفة في لفظ هذا الحديث، ففي بعضها كما
تقدم، وفي نسخ أُخر (سبعة آلاف آية) كالتي كانت عند صاحب
الوافي المولى محمد محسن "الفيض الكاشاني"، وقد جزم
المحقّق الخبير المولى أبو الحسن الشعراني في تعليقته على
شرح الكافي للمولى صالح المازندراني بأن لفظة (عشر) من
زيادة النُسّاخ أو الرّواة، وحينئذٍ يكون ظاهر الحديث غير
ناظر إلى إحصاء عدد الآيات، بل يكون ذلك من باب إطلاق
العدد التام المتناسب مع الواقع بعد حذف الكسور أو تتميمها
كما هي العادة والمتعارف في الاستعمال من باب التسامح بعد
عدم تعلق الغرض بذكر الكسر الناقص أو الزائد([10]).
والحاصل من
جميع ما تقدم: أن من ادّعى تحريف القرآن في الكافي، فقد
اعتمد إما على روايات غير صريحة بل غير ظاهرة، وإما لا
دلالة فيها أصلاً على المدَّعى، وإما هي من باب التفسير أو
التأويل، أو بيان شأن النزول، أو تعيّن مصداق من أبرز
المصاديق وأجلاها للآية، أو أنه من باب الشرح المزجي الذي
كان متعارفًا عند السلف قديمًا لتوضيح بعض الآيات التي
تحتاج إلى ذلك.
وإما أوردها
الشيخ الكليني (رحمه الله) في أبواب (النوادر) إيرادًا لها
فقط لا اعتقادًا بها.
وإما
التحريف فيها بالمعنى الثاني أو الثالث من المعاني
المتقدمة له أو ما يشبههما.
وإما لا
اعتبار بها سندًا لوجود راوٍ أو أكثر ممن نصّ أصحاب الجرح
والتعديل على ضعفه وذمّه، وأكثر تلك الروايات التي ذكروها
وتمسّكوا بها لإثبات ادَّعاءاتهم ضعيفة السند.
ثم صحيحٌ أن
الشيخ الكليني (رحمه الله) أورد هذه الروايات ولم يُعلّق
عليها بشيء، ولكن ممّا تقدّم ومن الاطّلاع على طريقة الشيخ
الكليني من عدم تعليقه على الأحاديث إلا نادرًا جدًّا، ومن
ملاحظة ما قاله في المقدمة، يتضح مقصوده ويتبين مراده.
قال في خطبة
كتابه الكافي: ".. فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يَسع
أحدًا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم
السلام برأيه إلا على ما أطلقه العالِم بقوله عليه السلام:
"اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عز وجل فخذوه،
وما خالف كتاب الله فردّوه"... وقوله عليه السلام: "خذوا
بالمُجمع عليه ، فإن المُجمع عليه لا ريب فيه" ونحن لا
نعرف من جميع ذلك إلا أقلّه، ولا نجد شيئًا أحوط ولا أوسع
من ردّ علم ذلك كله إلى العالِم (عليه السلام) وقبول ما
وُسِّع من الأمر فيه بقوله (عليه السلام): "بأيّما أخذتم
من باب التسليم وسعكم" ) ([11])
.
فما دام
مذهبه (رحمه الله) هو عرض الروايات المختلفة على كتاب الله
تبارك وتعالى فيأخذ بالموافق، ويردّ المخالف، ويعتمد هذا
القول بشكل مطلق، ويدعو إليه السائل ومِن ورائه مَن كتب
الكافي لهم طيلة عشرين سنة، فكيف يتجرّأ ذو لبّ أو من لديه
شيء من الإنصاف وينسب إليه التحريف، وهل يلتقي القول
بالتحريف مع العرض على القرآن الكريم؟! {فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ}([12])
.
وأختم
بكلامٍ مهمّ نقله الشيخ محمد هادي معرفة عن السيد
الشهرستاني الكبير (رحمه الله) في رسالة له وضعها دحضًا
لشبهة القائل بالتحريف، قال:
"إنّما
تستقيم نسبة عقيدة التحريف إلى هؤلاء الأجلاء إذا ما
تجمّعت هناك مقدّمات أربعة ضرورية:
أُولاها:
تعهّد صاحب الكتاب بصحة ما يرويه على الإطلاق تعهدًا
صريحًا وشاملاً.
ثانيتها:
ظهور تِلكُم الأحاديث في التحريف ظهورًا بيّنًا بحيث لا
يحتمل تأويلاً أو محامل أُخر معتمدة على شواهد من عقل أو
نقل متواتر .
ثالثتها:
عدم وجود معارض لها بحيث يترجَّح عليها حسب نظر صاحب
الكتاب.
رابعتها:
حجية خبر الواحد عند صاحب الكتاب كما هو حجة عند
الأخباريين في مسائل الأصول والفروع على السواء"([13]).
انتهى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])
المصدر السابق 1/ 412 كتاب الحجة ب 109.
([2])
الكافي 2/627 كتاب فضل القرآن ب 14(النوادر).
([3])
المصدر السابق1/256و412.
([4])
ينظر : الصحاح2/825، والعين 8/21، ولسان
العرب5/199.
([5])
جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية المطبوع ضمن
سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد:9/19، ولمزيد من
الاطلاع على هذا الموضوع يراجع كتاب "بحوث حول
روايات الكافي" ص94 فما بعد.
([6])
الشيعة والقرآن ص31، والشيعة والسنة ص 80.
([7])
الشيعة وتحريف القرآن ص 63.
([8])
الشيعة في التصور القرآني ص24.
([9])
الكافي 2/634 كتاب فضل القرآن باب 14 ح28.
([10])
نقلا عن كتاب صيانة القرآن من التحريف : ص 264
(بتصرف يسير).
([13])
صيانة القرآن من التحريف : ص 104.
|