القضاء
في الإسلام منطلقًا وأهدافًا:
إن الإسلام اشترط في
القاضي، والمقضي فيه، والمقضي عليه، وفي نفس المواد
القضائية، شروطًا كثيرة تهدف إلى تهذيب النفس وتربية الروح
ونشر العدل وإحقاق الحقّ، أكثر مما تهدف به إلى الجوانب
المادّية الأخرى، حيث لم يهملها كليًا أيضًا، وإنما اهتمّ
بها إلى حدّ معقول يساعد على ترجمة ما يبتغيه من القضاء
ترجمة صحيحة، فالإسلام في كلّ تشريعاته الفقهية وأُسسه
العقائدية وباقي نظمه، يحاول أن يُوجد إنسانًا جديرًا
بخلافة الله في الأرض، يملؤه وازع ديني وأخلاقي وعقائدي،
يكون بمثابة الشرطي الضابط لضميره ودخيلة نفسه، ويكون هو
الدافع والموجّه له في أعماله وأقواله، بل وحتى في نيّته
وما توسوس به نفسه، نحو الخير والسلام وحفظ المصالح
العامّة والخاصة، دون أن يكتفي بوضع مراقبين على أعماله
وتصرّفاته من الخارج، وسنّ قوانين جافّة لردع جموحه
وشهواته ونزواته التي تتغلّب في كثير من الأحيان على عقله
وفكره وضميره السليم.
فالإسلام يربّي في
الإنسان العقل والرّوح والضمير، كي يشعر دائمًا في قرارة
نفسه أنه مسؤول ومحاسب على كلّ كبيرة أو صغيرة تصدر منه،
من قِبل الله المطّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
والإسلام بهذه التربية،
يجعل من الإنسان المسلم ضابطًا ومراقبًا وحصنًا تتحصّن به
نفسه وضميره، ورادعًا له عن كل سلوك وتصرّف يخالف به الشرع
الشريف والقوانين الإلهية، وبهذه التربية تسير الأمور
وتستقيم في المجتمع المسلم، حيث لا تعقيد ولا انحراف، ولا
تجاوز أو تعدٍّ على حقوق الآخرين وكراماتهم.
ولقد دلّت التجارب
الكثيرة على أن سنَّ القوانين وحدها، ووضع المراقبين من
الخارج على سلوك النَّاس وتصرّفاتهم، لم تكفِ في الحدّ من
الفجائع والظلم الذي يكاد يستوعب البشرية بأسرها، ويكفيك
ما ترى فضلاً عمّا تسمع من الويلات والآفات الأخلاقية
والاجتماعية التي تعاني منها أرقى البلاد في تشريعاتها
الوضعية، وذلك لأنها تركت تعاليم السماء، وهي في أحسن
حالاتها استنزلت الربّ من السماء إلى الأرض وجعلته بشرًا.
إن الإنسان الذي لم
يتربّ في نفسه رادع أو وازع من الله يردعه ويحاسبه على
أعماله وعلى كل صغيرة وكبيرة تصدر منه، لا تردعه القوانين
الوضعية، بل لا يردعه شيء قط عن الإقدام على كل شيء يُشبع
شهواته ونزواته، وتمليه عليه مآربه ومصالحه الخاصّة، نعم
هو في أحسن حالاته يسعى لستر أعماله الشائنة المخالفة، كي
لا يفتضح أمره ويؤاخذه القانون، وكثيرًا ما لا تُعرف خفايا
أعماله، وتبقى تبعاتها وبالاً على المجتمع، بل حتى واضع
القانون نفسه طالما خالف ما وضَعَهُ، إلا أن يكون له دِين
يدفع وجدانه نحو الاستقامة، بل طالما أقدم واضع القانون
على وضع قوانين تُشرِّع الظلم واستعباد الناس، ولذا ترى
الدّول الاستعمارية ترتكب الجرائم والمآسي اللاإنسانية، ثم
تشرّع في قوانينها الوضعية تبرير هاتيك الجرائم واستعمار
الشعوب وخنق حرّياتها، وتسمّي ما تفعله حضارة تارة، وعدالة
أخرى، والدفاع عن حقوق الإنسان رابعة، ومحاربة الإرهاب
خامسة.
من هنا حاول الإسلام -
كما عرفت - أن يربّي في روح الإنسان ونفسه وازعًا يمنعه عن
الانحراف وارتكاب الجرائم والمآثم، قبل أن يحاول وضع
مراقبين على أعماله من الخارج، لأن ذلك أفعل في استئصال
الشرّ والفساد من الجذور، وتربية الإنسان على حبّ الخير
والاستقامة في أقواله وأفعاله.
والحاصل: هو أن الإسلام
ومشرّع الإسلام سبحانه، اعتمد وشرّع أُسسًا خاصة تُعنى
بتربية الضمير والوجدان قبل عنايته بالرقيب الخارجي، وتوقظ
فيه الرّوح والشعور بالمسؤولية أمام الله سبحانه، ليقوم
بعمله وواجباته مع الآخرين - مهما كانوا - بإنسانية صادقة.
ومن هنا اشترط الفقهاء
في القاضي "العدالة" كي تُحفظ بها حقوق الناس
وأنفسهم من الجَور والظلم في القضاء، وعدم التعدّي على
الأموال والأنفس والدماء، وغضّ الطرف عن الأعراض
والنواميس.
وهذان الشرطان الأخيران
لهما مدلولهما الرّوحي الخاص في الضبط والنزاهة والورع عن
كثير من الانحرافات التي تصيب القضاة والقضاء.
وفي هذا الزمن الذي
تمرّ فيه البلاد الإسلامية بتجربة لتطبيق الإسلام، نشعر
بإلحاح أكثر من ذي قبل بضرورة تجديد المعالم الإسلامية
وإحيائها في مختلف المستويات وبمختلف الأشكال العلميّة، من
الدّرس والتدريس والتنقيب والكتابة والتأليف ونشر المؤلفات
القيّمة من آثار أعلامنا الماضين، أعلى الله درجاتهم ورفع
مقاماتهم، إذ لا تتركّز دعائم الإسلام أو دولته إلا ببثّ
معارفه الخالصة عن الشوائب في المجتمع، فإنّ بثَّ هذه
المعارف الإسلامية، هو الوسيلة الأنجع لتربية مسلمين
مؤمنين مُركَّزي الإيمان، يقفون سدودًا منيعة أمام الزيغ
والكفر والانحلال، لا تؤثر فيهم عواصف التيارات الوافدة من
وراء بلاد المسلمين .
القضاء الشرعي روحًا وشروطًا:
إذا كانت مناسبات الحكم
والموضوع، وسياق القضايا والكلام يشكّلان قرائن هامّة في
تشخيص مداليل القضايا والكلام بمقتضى العقل النظري، فإن
القضاء بشقّيه يشكّل الترجمة الإدارية والقانونية بمقتضى
العقل العملي، سيّما القضاء التحكيمي الذي يكاد يُمارَس
وحده في المحافل المحلية والإقليمية والدولية.
وإذا كان - كما يقال -
"العدل أساس الملك" بمقتضى العقل النظري، فإن
القضاء هو الترجمة القانونية لهذا العدل بمقتضى العقل
العملي.
من هنا رأيت الكتابة في
هذا الموضوع مُوزّعًا ذلك في مسائل مهمّة فيه بحسب مباني
الفقه الإسلامي، وسوف أعالج هذه المسائل بشكل موجز غير
مُمِلّ تاركًا التطويل إلى محله:
القضاء في الشريعة:
والقضاء فيها واجب
كفائي، وهو منصب جليل لا يليق إلا بالعالم الورع خوفًا أن
يتطفّل إليه من ليس أهلاً للعلم ولا أمينًا على الدين.
وحكم القاضي نافذ على
المختصمين، ولا يجوز نقضه حتى من قِبَل قاضٍ آخر، إلا في
فرض فقدان القاضي الأول للشروط المعتبرة في القاضي، أو فرض
مخالفة حكمه لما ثبت بنحو القطع من الكتاب وسُنَّة المعصوم
الشريفين.
والقاضي على ضربين:
القاضي المنصوب، وقاضي التحكيم، وحكم كليهما نافذ.
والمستند في ذلك:
أما بالنسبة إلى نفس
القضاء فلأن المعروف عند المتقدمين تحديد القضاء بالولاية
على الحكم شرعًا بين المتخاصمين لفصل الخصومة، والمعروف
عند المتأخرين بأنه: الحكم بين المتخاصمين لرفع الخصومة،
دون مجرد الولاية.
ولعله يمكن الجمع بين
القولين بأنه الحكم لفصل الخصومة بين المتخاصمين من قِبَل
مَن له الولاية على ذلك شرعًا، حيث إن مفهوم القضاء عند
المتشرعة هو هذا، وليس مجرد الحكم، ولا مجرد الولاية.
وقد يُستأنس لذلك بقوله
تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}([1])،
وأحسب أن هذا المقدار كافٍ في بيان هذه المفردة، لعدم ترتب
ثمرة عليها.
ومن الواضح أن حكم
القاضي يختلف عن فتوى المجتهد، فإن فتوى المجتهد بيان
لأحكام كليّة بحسب ما يؤدي إليه نظر المجتهد، بينما حكم
القاضي هو تطبيق لتلك الأحكام الكلية على الواقع، ولذا
قلنا إن القضاء هو الترجمة القانونية لتلك الأحكام بمقتضى
العقل العملي، ويقال في لغة الأصول: إن قضاء القاضي في طول
فتوى المجتهد لأنه متفرع عنها.
وكذلك تختلف الفتوى عن
القضاء في أن القضاء ينفذ في حق الجميع، بينما فتوى
المجتهد إنما تكون حجة في حق مقلِّدي هذا المجتهد.
وقد يُذكر فرق آخر: وهو
أن فتوى المجتهد تكون مُحكّمة في بيان الحكم الكلي بقطع
النظر عن تطبيقه على مصاديقه، إذ إن ذلك من وظائف المقلد،
بينما في القضاء يرجع التطبيق إلى القاضي حيث إن هذه
وظيفته.
وأما مسألة كون
القضاء واجبًا:
فلتوقف حفظ النظام عليه، إذ ما يتوقف عليه حفظ الواجب هو
واجب لا محالة، ناهيك عن أنه من مقدمات تحقيق المعروف ودفع
المنكر.
وأما مسألة كونه
كفائيًا:
فلأن هذا الغرض الواجب الذي هو حفظ النظام، إنما يتحقّق
بتصدّي من يملك كفاءة القضاء دون سواه.
وأما مسألة كون
القضاء منصبًا خطيرًا وجليلاً:
فذلك لأنه منصب الأنبياء، كما يُفهم من قوله تعالى: {يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}([2])،
ويكفي فيه أن يكون منصب سيد الأنبياء والمرسلين محمد(صلى
الله عليه وآله)كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن
لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا}([3])،
وهو منصب الأئمة الطاهرين عليهم السلام.
والحاصل:
أن القضاء هو من جملة وظائف المعصوم، ففي الرواية عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه
السلام) لشريح القاضي: يا شريح قد جلست مجلسًا ما جلسه إلا
نبي أو وصي نبي أو شقي). ورواه الصدوق مرسلاً، وكذا رواه
في المقنع، وروى الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى،
مثله([4]).
وكذلك فإن منصب القضاء
لمن وصفه المعصوم بـ"العالم" وأمر أن نجعله قاضيًا، كما في
صحيحة أبي خديجة: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): انظروا
إلى رجل منكم يعلم شيئًا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد
جعلته قاضيًا فتحاكموا إليه)([5]).
وأما مسألة كونه منصبًا
خطيرًا، فإنه فضلاً عن كونه منصبًا من وظائف المعصوم، أو
من نصّبه من العلماء، فقد ورد من طرقنا عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) أنه قال: (لسان القاضي بين جمرتين من نار
حتى يقضيَ بين الناس، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار)([6]).
كما ورد في حديث آخر: (من جُعل قاضيًا فقد ذُبح بغير سكين)([7])،
وفي رواية ثالثة: (إن النواويس شَكَت إلى الله عز وجل شدة
حرّها، فقال لها عز وجل: اسكتي، فإن مواضع القضاة أشد
حرًّا منك)([8]).
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــ
([3])
سورة النساء الآية 105
([4])
الوسائل ج18 ب3 صفات القاضي ح2-3 ص7.
([5])
الوسائل ج18 ب1 صفات القاضي ص4 ح 5 .
([6])
الوسائل ج18 ب12 ح2.
([8])
النواويس موضع في جهنم. الوسائل ج18 ب16 ح4 ص 160.
|