نفوذ حكم القاضي:
وأما مسألة كون حكم
القاضي نافذًا، ولا يجوز نقضه حتى من قِبَل حاكم آخر: فقد
ذكر لذلك وجهان:
الوجه
الأول: هو التمسك بمقبولة عمر بن حنظلة: (سألت أبا
عبد الله (عليه السلام)عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة
في دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ
ذلك؟ قال (عليه السلام): من تحاكم إليهم في حق أو باطل
فإنما تحاكم إلى الطاغوت.. قلت: فكيف يصنعان؟ قال (عليه
السلام): ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في
حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَمًا، فإني
قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه،
فإنما استخف بحكم الله.. وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ
على الله، وهو على حدّ الشرك بالله)([1]).
فهو فضلاً عن أنه فيما
قبل الذيل يدفع إلى التحاكم عند الفقهاء الذين هم القدر
المتيقن ممن روى أحاديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف
أحكامهم، فإنه فضلاً عن ذلك يدل بوضوح على أن الحكم إذا
صدر على طبق القواعد، فعدم قبوله هو استخفاف بحكم الله
تعالى.
والتأمّل المشهور في
سند هذه المقبولة من جهة ابن حنظلة حيث لم يُوثّق ، فقد
تكفّل مبحث حجية الخبر في علم الأصول تحقيق المباني في علم
الرجال وما هو الصحيح منها، هذا أولاً..
وأما ثانيًا: فإنه يمكن
التساهل في أمر ابن حنظلة حيث إن صفوان الذي هو أحد الصحاح
الثلاثة يروي عنه، بناء على كفاية ذلك في إثبات الوثاقة.
هذا مضافًا إلى رواية
يزيد بن خليفة عنه، إذ قد روى :(قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد
الله (عليه السلام): إذن لا يكذب علينا)([2]).
ومن المعلوم أن يزيد بن
خليفة هو وإن لم يوثق، ولكن روى عنه يونس الذي هو من أصحاب
الإجماع، بناءً على كفاية ذلك في قبول الرواية.
وقد يضاف إلى ذلك، أن
تلقّي الأصحاب للرواية قد يورث للفقيه الوثوق بصدورها.
الوجه
الثاني: أن القضاء شُرّع لفصل الخصومة، فلا بد من
نفوذه، وإلا يلزم منه نقض الغرض، لكن هذا إذا لم يفترض حلّ
الخصومة بيمين المدّعى عليه، طبقًا لصحيحة عبد الله بن أبي
يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إذا رضي صاحب الحق
بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قِبَله،
ذهبت اليمين بحقّ المدعي فلا دعوى له، قلت له: وإن كانت
عليه بيّنة عادلة؟ قال (عليه السلام): نعم وإن أقام بعدما
استحلفه بالله خمسين قسامة، ما كان له، وكانت اليمين قد
أبطلت كل ما ادّعاه قِبَله مما قد استحلفه عليه)([3]).
وقد يُستظهر من
الاستثناء في تحديد وظيفة القضاء، أنه إذا لم تكن الشروط
متوفرّة في القاضي، إذن، فلا يكون منصوبًا من قبل المعصوم
(عليه السلام)، أو كان الحكم على خلاف الموازين الشرعية،
كالحكم بلا بيّنة، أو من دون علم الحاكم، إذ حينئذٍ لا
يصدق أن الحاكم قد حكم بحكم المعصوم (عليه السلام)، ومعه
لا يكون عدم قبوله استخفافًا بحكم الله تعالى، إذن فالحكم
على خلاف الموازين الشرعية هو كلا حكم.
وأما اعتبار أن تكون
المخالفة مخالفة لما ثبت اعتباره بنحو القطع، فلأنه بدون
ذلك يكون الحكم مشمولاً لقوله (عليه السلام): (فإذا حكم
بحكمنا).. إذ من الواضح أن المراد منه هو الحكم على طبق
الموازين الشرعية عند من توفّرت فيه شروط القضاء السابقة.
وأما مسألة المراد
من القاضي المنصوب وقاضي التحكيم:
فيظهر أن المقصود من الأول، من كان منصوبًا للقضاء من
قبلهم (عليهم السلام)، كما في رواية ابن حنظلة المتقدمة
حيث قال (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكمًا)،
وكذلك صحيحة أبي خديجة المتقدمة حيث قال (عليه السلام):
(انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئًا من قضايانا فاجعلوه
بينكم، فإني قد جعلته قاضيًا فتحاكموا إليه).
وكذلك فقد يُعضد ذلك
بفكرة حفظ النظام، وذلك بتقريب: أن مقتضى حفظ النظام لزوم
نصب القاضي المجتهد، فإن مقتضى الأصل هو عدم نفوذ حكم أحد
على غيره، والقدر المتيقن الخارج عن الأصل المزبور هو
المجتهد.
ويظهر أن المقصود من
الثاني: أي قاضي التحكيم، هو من كان منصوبًا من قبلهم
(عليهم السلام) بعد تراضي المتخاصمين عليه. ويمكن أن
يُتمسك له بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم
بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}([4])،
حيث إنه بإطلاقه يشمل قاضي التحكيم، بل يدل على نفوذ حكمه
بالعدل، حتى لو صدر من غير المجتهد المنصوب، وكذلك يمكن
التمسك بصحيحة الحلبي: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء
فيتراضيان برجل منّا، فقال (عليه السلام): ليس هو ذاك،
إنما هو الذي يُجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط)([5])،
ودلالة هذه الصحيحة واضحة في المطلوب .
أخذ
الأجرة على القضاء:
وفي جواز أخذ الأجرة
على القضاء خلاف: فقيل بعدم جواز أخذ الأجرة على القضاء،
إما لأنه واجب، وحيثية الوجوب نفسها تمنع من أخذ الأجرة،
وإما لأن حيثية القضاء بخصوصها تمنع من ذلك.
أما المنع بالحيثية
الأولى:
فقد ذُكرَت له عدة تقريبات، ذُكر بعضها في بحث الإجارة،
عند البحث عن جواز الإجارة على الواجبات، حيث اتضح هناك
عدم المنع بهذه الحيثية الأولى.
وأما المنع بالحيثية
الثانية:
فيمكن إثباته من خلال صحيحة عمار بن مروان: (قال أبو عبد
الله (عليه السلام): كل شيء غُلّ من الإمام فهو سحت،
والسحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة،
ومنها أجور القضاة، وأجور الفواجر وثمن الخمر والنبيذ
والمسكر)([6]).
وقد يقال: إنها ناظرة
إلى القضاة المنصوبين من قبل الظلمة، بقرينة التعبير بكلمة
"منها"، أي "ومن جملة ما أصيب من أعمال ولاة الظلمة، أجور
القضاة"، والقرينة على رجوع ضمير "منها" إلى ما ذكر، وليس
إلى كلمة "أنواع كثيرة"، هي عدم تكرار كلمة "منها" مع
البقية.
وأجيب عنه: بدعوى أن
المناسب - لو كان ذلك هو المراد - هو التعبير بكلمة "منه"،
بدل "منها".
وعلى أيّ حال: فإن
إعمال مثل هذه التدقيقات، وتحميلها على الروايات هو أمر
زائد على طاقة الراوي، حيث إنه ينقل بالمعنى، ولا يلتفت
إلى مثل هذه الدقائق، وعليه، فالتمسك بالصحيحة المذكورة
غير تام.
وقد يضاف إلى ما تقدم:
أنه قد عُلم من مذاق الشارع إرادته صدور القضاء والإفتاء
بنحو المجانية، لأنهما من شؤون تبليغ الرسالة، حيث قال
تعالى {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا}([7]).
ثم إن المنع من أخذ
الأجرة على القضاء، لا يمنع من جواز ارتزاق القاضي من بيت
المال، لأنه معدّ لمصالح المسلمين، ومما يؤكد جواز
الارتزاق، تأكيد أمير المؤمنين (عليه السلام)في عهده إلى
مالك الأشتر عند تعرّضه للقضاء والقاضي: (.. وأَكثِر تعاهد
قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علته، وتقلّ معه حاجته
إلى الناس)([8]).
حكم
الرشوة:
الرشوة محرَّمة على
الراشي والمرتشي بلا خلاف، وحرمة الرشوة من الضروريات، وقد
دلّ على حرمتها قوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا
إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}([9]).
وفي الروايات عن الإمام
الصادق (عليه السلام)قال: (الرُّشا في الحكم، هو الكفر
بالله تعالى)([10])،
وقد رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد.
كما روي عن الباقر
(عليه السلام) :(إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعن من
نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، ورجلاً خان أخاه في امرأته،
ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه في الدين، فسألهم الرشوة)([11])،
وكذلك فقد روى العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام)
قال:(من أكْلِ السّحت: الرشوة في الحكم)([12]).
هذا ما كان على نحو
الإيجاز، والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على محمد وآله
الطاهرين.
انتهى
ـــــــــــــــــــــــــ
([1])
الوسائل ج18 ب11 ص99 ح1.
([3])
الوسائل ج18 ب9 ح1 ص179، ورواه الشيخ بإسناده عن
علي بن إبراهيم.
([4])
سورة النساء من الآية 58.
([5])
الوسائل ج18 ب1 ح8 ص5.
([6])
الوسائل ج12 ب5 ص64 حديث 1.
([7])
الشورى من الآية 23.
([8])
الوسائل ج18 باب 8 ص163 حديث 9.
([10])
الوسائل ج18 ب 8 ص 162 حديث 3.
([11])
الوسائل ج18 ب8 ص163 ح5.
([12])
الوسائل ج18 ب8 ص163 حديث 7.
|