مُقدِّمة
قبل البحث عن حياة أئمَّة المذاهب الأربعة لا بُدَّ من ذكر
أسباب نشأتها، وكيف تمَّ الالتزام بها دون غيرها من
المذاهب، حتى أصبح الوقوف عند قول إمام معيَّن لازمًا، ولا
يُمكن استنباط حُكم شرعي لأي أحد سوى أولئك القوم الذين
وقفت قافلة التشريع الإسلامي عندهم، فأصبحوا المصدر
للتشريع والمرجع الأعلى في الدِّين، حتى ادُّعي استحالة
الاجتهاد لمَن بعدهم، فأغلق بابه في وجوه المُسلمين.
وغلقُ باب الاجتهاد جمود للتشريع ووقف لتطوُّر حياة
الأمَّة، فتلك أمور يلزمنا النظر فيها، ولا نستطيع فهمها
إلا بعد أن ندرس الظروف التي تكوَّنت فيها فكرة التمذهب
بمذهب إمام معيَّن، ونبحث عن أسباب نشأتها وعوامل
انتشارها، فهل كانت دواعي الانتشار بسبب القيم العلمية
والروحيَّة؟ أم أنَّها استندت إلى السلطة التنفيذيَّة؟ وهل
كانت مُستقلة عن تأثير السلطة أم أنَّها كانت عرضة لذلك؟
وهل أخضعتها السلطة لمُتابعتها أم أنَّها خضعت باختيارها
لأغراض الولاة؟
وسيتَّضح لنا ذلك عندما نبحث عن نشأة المذاهب.
على أثر النجاح الذي أحرزته الجماعات التي تعمل في الخفاء
ضد النظام الأموي طلع نجم بني العباس، وكان لهم نشاط سياسي
في المجتمع، فهم في طليعة رجال حركة الانقلاب الذي أحدثته
الأمَّة لتحويل الحُكم من البيت الأموي إلى البيت العلوي،
وكان العباسيون أشد الناس حماسًا في إيقاد نار الثورة
انتقامًا من الأمويين لأبناء علي (عليه السلام)، وكان شعار
الثورة هو الدعوة إلى الرضا من آل محمد (عليهم السلام)،
وكانوا بذلك يتغلغلون في أوساط الناس، وبواسطة هذا الشعار
أوجدوا لأنفسهم مكانًا في قيادة تيار النقمة وتوجيه
الثورة، وهم في قرارة أنفسهم يستغلون شمولهم بتسمية أهل
البيت (عليهم السلام) وقد أخفوا نواياهم حتى حين، إذ ليس
من السهل أن يكاشفوا شيعة أهل البيت (عليهم السلام) أو أن
يُصرّحوا بعزمهم على العمل لأنفسهم كبيت عباسي مُستقل، ولو
فعلوا ذلك قبل نجاح الثورة فمن المُؤكد أنَّ جماعات الثوار
سترفضهم أو تتخذ ما يُناسب ذلك من المواقف، لأنَّ الأمر في
أذهان الناس لا يعدو آل محمد (عليهم السلام) ولا يتجاوز
البيت العلوي الذي كان قطب الرحى في المسيرة، وأي عمل يكشف
عن نوايا العباسيين المُبيَّتة سيُؤدِّي إلى ابتعاد كثير
من الثوار عنهم.
على هذا ثارت الأمَّة وانتظمت صفوفها التي نالت الانتصار
في تلك الحروب الدامية، ومُحيت أميَّة من صفحة الوجود،
ثُمَّ نال العباسيون ثمرة ذلك الغرس بمُسايرة الركب
ومُجاراة المشاعر، فتاقت نفوسهم إلى انتحال هذا الاسم عسى
أن يُوفَّقوا لإقناع الأمَّة بانطباقه عليهم فتكون لهم
حُكومة وراثية، وتمنحهم الأمَّة ثقتها التامَّة.
وبالطبع فإنَّ هذه
الفكرة
لا تلاقي كثير قبول عند العرب وخصوصًا في المدينة وفي
مكَّة في الخصوص، لذلك وجَّهوا عنايتهم إلى الموالي، فأهل
المدينة أعرف بآل محمد (عليهم السلام) وأدرى بنزول الآيات
فيهم، وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) ووصاياه في
آله، ولأنَّهم شاهدوا تلك الأعمال التي عامل الأمويون بها
آل محمد (عليهم السلام) وتألَّموا لها، فكان كل واحد منهم
يُنكر ذلك ويتمنَّى مُناصرتهم، فلا يُمكنهم أن يجعلوا
العباسيين هم آل محمد (عليهم السلام). وحذرًا من إنكار
العرب وانضمامهم لجانب العلويين اقتضت سياستهم أن يوجِّهوا
العناية إلى الموالي، وهم يأملون من وراء ذلك تثبيت قواعد
المملكة اليوم، والنقمة من العرب يومًا آخر.
كانت المدينة المنورة مصدرًا للفتيا ترجع الأمَّة إلى
علمائها في مهمَّات التشريع الإسلامي لأنَّها مركز العلم
وفيها أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته
(عليهم السلام) والتابعين لهم بإحسان، وقد لاحظت الدولة
الأموية من قبل هذه المسألة، وهي اتجاه الأنظار إلى
المدينة لأنَّها الجامعة الإسلامية ويُخشى على الدولة
خطرها، فكانت تَحذرهم أشد الحذر، فاستمالت أكثر الفقهاء
بالعطاء والرجوع إليهم في المهمَّات، لتسدَّ بذلك ثغرة
الخطر على الدولة.
وفي العهد العباسي نشطت الحركة العلمية وكان طبيعيًا أن
تنتعش العلوم في ظل سلطانهم، لأنَّهم كانوا يجعلون حقَّهم
في الإمامة قائمًا على أنَّهم سلالة النبي (صلى الله عليه
وآله) ، وكانوا يقولون إنَّهم سيُشيِّدون نظامًا على
سُنَّة النبي (صلى الله عليه وآله) وأحكام الدِّين
الإلهي.
فنهض أهل البيت (عليهم السلام) وبقية العلماء لنشر العلم
إذ وجد المسلمون حرية الرأي، والتفّوا حول آل البيت (عليهم
السلام) لانتهال العلوم من موردهم العذب، وكان الإمام
الصادق (عليه السلام) هو الشخصية التي يتطلع إليها الناس
فحملوا عنه إلى سائر الأقطار، وقصده طلاب العلم من الأنحاء
القاصية، وفتحت مدرسته في تلك الفترة فكان المُنتمون إليها
أربعة آلاف طالب([1])،
وهذا النشاط العلمي لا يروق للدولة الفتيّة التي قامت على
أطلال الدولة الأموية بدون حق شرعي، وإنَّما هو في صالح
العلويين، وانضمام العباسيين إليهم كان بداعي الانتقام من
بني أمية التي جرَّعتهم كأس الغصص، فهم كسائر البيوتات
التي انضمت لهذه الدعوة، ولكنَّهم نشطوا بالحيلة،
وتغلَّبوا باصطناع المعروف لآل البيت (عليهم السلام)
فكانوا في حذر متواصل من العرب عامَّة ومن المدينة خاصَّة،
فأهل المدينة قد وقفوا على حقيقة البيعة وأنَّها لآل علي
(عليه السلام) دون بني العباس، كما أنَّهم كانوا في طليعة
مَن بايع محمد بن عبد الله بن الحسن وفي رقبة السَّفاح
والمنصور بيعته، فكيف يستقلان بالأمر وينقضان تلك البيعة؟
ولكنَّ السَّفاح استطاع بمهارته استجلاب قلوب الناس إليه
وتثبيت قواعد ملكه على أيدي الفرس، لأنَّه لا يأمن وثبة
العرب لجانب العلويين، فهم في نظر العباسيين أنصار بني علي
(عليه السلام) لا أنصار بني العباس، كذلك كان من سياستهم
في بدء الدعوة قتل كل مَن يتكلم بالعربية في بلاد فارس([2]).
ومضى السَّفاح وجاء المنصور، وهو ذلك الرجل الحديدي الذي
يقتحم مواقع الخطر، ولا يتهيَّب من إراقة الدماء، ولا يقف
أمامه حاجز ولا يردعه وازع ديني في سبيل تركيز دعائم ملكه،
إذ كان الخطر مُحيطًا به من كل الجهات وأمام غايته حواجز
لا يتخطَّاها إلا بالتجرُّد عن العاطفة، ففتك بأهل البيت
(عليهم السلام) وبكثير من العباسيين أنفسهم، وأبعد علماء
المدينة ونصر الموالي وأوجد تلك المعركة القوية، وهي معركة
أهل الحديث وأهل الرأي.
فقرَّب فقهاءَ العراق القائلين بالقياس، وأحاطهم بعنايته
ليُحوِّل أنظار الناس إليهم، وبذلك تقلّ قيمة علماء أهل
المدينة الذين كانت الأقطار الإسلامية عيالاً عليهم، إذ هم
حملة الحديث وأوثق الناس فيه.
وكان الحديث في العراق قليلاً ولكن انفتح فيه باب الرأي
والقياس، وقد عمل به حماد بن إبراهيم النخعي المتوفى سنة
95 هـ 713 م، وأبو حنيفة المتوفى سنة150هـ عن حماد، وكان
أهل الحديث يعيبون أهل الرأي لأنَّ عنايتهم بتحصيل وجه من
القياس والمعنى المُستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها،
وربَّما يُقدِّمون القياس الجلي على آحاد الأخبار،
وطريقتهم أنَّ للشريعة مصالح مقصودة التحصيل من أجلها
شُرِّعت، فجعلوا هذه المصالح أصلاً من أصول الأدلَّة إذا
لم يجدوا نصًا في الكتاب والسنة الصحيحة عندهم، وقد كانت
قليلة العدد لبُعد العراق عن موطن الحديث.
وأمَّا أهل الحديث فلم يجعلوا للقياس والرأي في استنباط
الأحكام هذا المحل، واتسعت شقَّة الخلاف واحتدم النزاع
وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين.
وبعد أن كان هذا النزاع علميًا محضًا أصبح ممتزجًا
بالسياسة أو التعصُّب، وتعددت فيه عوامل التفرقة لتستند
السلطة إلى أقوى الفريقين، واتسع نطاق الخلاف، فترى مالك
بن أنس يحط من كرامة العراقيين ويتحامل عليهم ويُعلن
بقوله: [أنزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا
تكذبوهم وقولوا آمنَّا بالذي أنزل إلينا وإليكم وإلهنا
وإلهكم واحد]([3]).
ودخل عليه محمد بن الحسن الشيباني فسمعه يقول هذه المقالة
ثُمَّ رفع رأسه فكأنَّه استحيى فقال: [يا أبا عبد الله
أكره أن تكون غيبة، كذلك أدركتُ أصحابنا يقولون، وكان يقرأ
إذا نظر إلى العراقيين
{تعرف في وجوه الذين كفروا المُنكر}...
]([4]).
وكان يُسمِّي الكوفة دار الضرب، يعني أنَّها تضع الأحاديث
كما تُخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال عطاء لأبي
حنيفة: من أين أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل
القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا([5]).
ومهما يكن من الأمر فقد تعصَّب كل فريق إلى بلده وتنابزوا،
وعُيَّر أهل المدينة بسماع الغناء، وأهل مكَّة بالمُتعة،
وأهل الكوفة بالنبيذ، واشتدت عصبية كل قوم لبلادهم،
وحملتهم على وضع الأخبار في مدح كل منهم قومه وبلده وذمِّ
مُقابله، وعظم الانشقاق بين الطائفتين، وبالطبع فإنَّ
الكوفة تضعف عن مُقابلة الحجاز، ولكنَّ السياسة الزمنية
اقتضت أن تكون إلى جانب أهل الرأي لا حُبًا بهم ولكن
بُغضًا بأهل المدينة، وأصبح لكل جانب أنصار ومُتعصبون فكان
مالك بن أنس في طليعة أهل الحديث، وأنصاره من الحجاز سفيان
الثوري وأصحابه، وزعيم أهل الرأي أبو حنيفة وأصحابه وكثير
من فقهاء العراق.
فالشافعي أخذ عن مالك وأصحابه، وأحمد المُتوفى سنة 241 هـ
820 م أخذ عن الشافعي المُتوفى سنة 204 هـ وأصحابه.
وإنَّما سُمُّوا أصحاب الحديث لأنَّ عنايتهم بتحصيل
الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، ولا
يرجعون إلى القياس.
يقول الشافعي: إذا ما وجدتم لي مذهبًا ووجدتم خبرًا على
خلاف مذهبي فاعلموا أنَّ مذهبي ذلك الخبر([6]).
وتبعه أصحابه، وهم: إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن
سليمان الجيزي، وحرملة بن يحيى، وأبو يعقوب البويطي، وابن
الصباح، وابن عبد الحكم المصري، وأبو ثور، وغيرهم.
وأما أصحاب الرأي، فهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت،
وأصحابه: محمد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي، وزفر
بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو مطيع البلخي،
وبشر المريسي، فهؤلاء عُرفوا بأهل الرأي وقالوا إنَّ
الشريعة معقولة المعنى ولها أصول يُرجع إليها، ولاقتناعهم
بمعقولية الشريعة وابتنائها على أصول مُحكمة فُهمت من
الكتاب والسنة كانوا لا يُحجمون عن الفتوى برأيهم ـ وأما
أصحاب الفريق الأول، فإنَّهم يقفون ولا يتعدون حدود النص ـ
وكان أصحاب الرأي يُحبون معرفة العلل والغايات التي من
أجلها شُرِّعت الأحكام، ورُبَّما ردُّوا بعض الأحاديث
لمُخالفتها لأصول الشريعة، ولا سيما إذا عارضها حديث آخر.
وبهذا افترقوا على فرقتين -كما قدّّمنا- أهل حديث وأهل
رأي، أو أهل المدينة وأهل الكوفة، مع العلم بأنَّ أهل
العراق لا يُقاسون بأهل المدينة في الحديث، فكان القياس
عندهم أكثر وعليه يبنون غالب فتاواهم، ونشط سير الحركة
العلمية في ذلك العصر.
أصبح النشاط العلمي واسع النطاق، فكان في كل بلد إمام له
مذهب يُنسب إليه، وكثرت المذاهب والمنتمون إليها، إلا أنَّ
أكثرها اعتراها الانقراض ولم يُكتب لها البقاء، وكان
لمُؤسسيها الذين كثر أتباعهم مكانة سامية، رُبَّما فاقوا
في نظر مُعاصريهم وذوي العلم منهم رؤساء المذاهب الذين
وقفت قافلة الفقه عندهم، واقتصر استنباط الأحكام عليهم،
ولكن عوامل انتشار مذاهبهم عجزت عن مُسايرة الظروف فلم
يُكتب لها البقاء، ومُحيت من صفحة الوجود ولم يبق لأبناء
السُّنة منها إلا الأربعة:
المالكي، والحنفي، والشافعي، والحنبلي، أمَّا المذاهب التي
انقرضت فهي كثيرة، نذكر منها:
1- مذهب عُمر بن عبد العزيز المُتوفى سنة 101 هـ 720 م.
2- مذهب الشعبي المُتوفى سنة 105 هـ 723 م.
3- مذهب الحسن البصري المُتوفى سنة 110 هـ .
4- مذهب الأعمش المُتوفى سنة 148 هـ 764 م.
5- مذهب الأوزاعي المُتوفى سنة 157 هـ 773 م.
6- مذهب سفيان الثوري المُتوفى سنة 161 هـ 777 م.
7- مذهب الليث المُتوفى سنة 175 هـ .
8 - مذهب سفيان بن عيينة المُتوفى سنة 198 هـ 814 م.
9- مذهب إسحاق المُتوفى سنة 238 هـ .
10- مذهب أبي ثور المُتوفى سنة 240 هـ 854 م.
11- مذهب داود الظاهري المُتوفى سنة 270 هـ 833 م.
12- مذهب محمد بن جرير المُتوفى سنة 310 هـ 923 م.
13- مذهب عبد الله بن أباض([7]).
وغيرها من مذاهب المسلمين التي تتفق أحيانًا وتفترق
أحيانًا أخرى في كثير من المسائل الشرعية، وهناك مَن جعل
في تعداد هذه المذاهب مذهب عائشة، مذهب ابن عُمر، مذهب ابن
مسعود ومذهب إبراهيم النخعي.
ولزيادة البيان نذكر طرفًا من حياة بعض أولئك العلماء
ورؤساء المذاهب :
أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي
المُتولد سنة 65 هـ وتوفي بالبصرة سنة 161 هـ متواريًا عن
السلطان، وعدَّه ابن قتيبة في عداد الشيعة، وهو أحد الأئمة
المُجتهدين، وله مذهب لم يطل العمل به لقلَّة أتباعه وعدم
مُؤازرة السلطة له، إذ كان طريدًا يخشى سطوتهم وهم يطلبونه
حتى مات مُتخفيًا عنهم، وهو أحد تلامذة الإمام الصادق
(عليه السلام) وخِرِّيج مدرسته، وكان إمامًا من أئمَّة
المُسلمين، وقيل روي عنه عشرون ألف حديث، وكان والده سعيد
بن مسروق من مُحدثي الكوفة ووثَّقه ابن معين وأبو حاتم
والعجلي.
نشأ الثوري في مسقط رأسه الكوفة نشأة صالحة وكان بيته
معروفًا وله مكانة في مُحيطه، فهو من فقهاء العراق الذين
تُشدُّ إليهم الرحال في طلب العلم، وأراد المنصور قتله فلم
يتمكن، ودُعي إلى القضاء فهرب، كان يتحرَّى مواقف الصدق في
مواجهة العباسيين ويعمل على الاستمساك بتعاليم الدِّين،
فلمَّا عزم المنصور على ابن أبي ذؤيب أن يقول رأيه فيه
واستعفاه ابن أبي ذؤيب وأصرَّ المنصور، قال ابن أبي ذؤيب:
[أشهد أنَّك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير
أهله، وأشهد أنَّ الظلم ببابك فاش]([8])،
فلمَّا انصرف لقيه سفيان الثوري فقال له: [يا أبا الحارث
لقد سرَّني ما خاطبتَ به هذا الجبَّار، ولكن ساءني قولك
له: ابنك المهدي، فقال: يغفر الله لك، يا أبا عبد الله،
كُلنا مهدي، كُلنا كُنَّا في المهد]([9]).
وبقي مذهبه معمولاً به إلى القرن الرابع.
أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، مولاهم -أي
مولى الهلاليين- الكوفي المُتوفى سنة 198 هـ كان إمامًا
عالمًا أخذ العلم عن الصادق (عليه السلام) والزهري وابن
دينار وأبي إسحاق وغيرهم، وروى عنه الشافعي وشعبة ابن
الحجاج وخلق كثير، قال الشافعي: [ما رأيتُ أحدًا فيه من
آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيتُ أكف عن الفتيا منه]([10])،
وكان ثقة العجلي والشافعي وغيرهم، وقال الشافعي: [لولا
مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز]([11])،
وله مذهب يُعمل به ولم يطل عمره فانقرض في القرن الرابع،
لقلَّة أتباعه وأنصاره وعدم مُلاءمته لسلطان عصره، ودُفن
ابن عيينة بمكَّة.
أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري المُتوفى سنة 110
هـ، كان من التابعين وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري
وأمُّه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)
.
نشأ بوادي القُرى، وكان من أجمل أهل البصرة حتى سقط عن
دابته فحدث بأنفه ما شوَّه خلقته، وكان مُؤازرًا لبني
مروان يشد أزرهم وله علاقة وثيقة مع الولاة والأمراء
ويُلاقي منهم الإكرام،
وكان لهم في ثغر البصرة بقوَّة الدفاع أعظم من الجيوش
المُدرَّبة في ساحات الحرب،
هكذا في الأصل
حتى قالوا: [لولا لسان الحسن وسيف الحجَّاج لوُئدت الدولة
المروانية في لحدها وأخذت من وكرها]([12])،
وكان مُدلِّسًا في حديثه كما نص عليه الحفاظ، ولم يطل
العمل بمذهبه.
كان الحسن البصري يتفق مع سياسة الدولة الأموية، ويروي عن
علي (عليه السلام)، فإذا حدَّث عنه قال: [قال أبو زينب ـ
يعني عليًا ـ([13])]
مُجاراةً للدولة التي اقتضت سياستها أن لا يظهر اسم علي
(عليه السلام)، ونُقل عنه أنَّه تكلم في علي (عليه السلام)
فقال له أبان بن عياش: [ما هذا الذي يُقال عنك أنَّك قُلته
في علي؟ فقال: يا ابن أخي أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة
ولولا ذلك لسالت بي الخشب([14])]
([15]).
وكان له مجلس علم حاشد بالعلماء لعظيم منزلته من الدولة،
وفي مجلسه نشأت فكرة [الاسم والحكم] التي كانت أساسًا
لمذهب الاعتزال.
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام الشاميين المُتوفى سنة
157 هـ .
انتشر مذهبه بالشام كما انتشر مذهب مالك في الحجاز ومذهب
أبي حنيفة في العراق، وعمل أهل الشام بمذهبه مدة من الزمن،
وانتشر بالأندلس ثُمَّ اندرس مذهبه وحلَّ محله مذهب
الشافعي، وعندما عُيِّن محمد بن عثمان الشافعي قاضيًا على
دمشق حكم بمذهب الشافعي، وهو أول مَن نشره هناك، وبقي مذهب
الأوزاعي إلى سنة 302 هـ .
وكانت للأوزاعي شخصية مرموقة في عصره، ولم يُعدم العناية
من السلطة، فقد كان في العهد الأموي مُحترمًا مُبجَّلاً
لأنَّه على شاكلتهم، ومن المُؤيدين لدولتهم، والمُناصرين
لهم، واتخذته السياسة رمزًا دينيًَّا لأغراضها الخاصة، وفي
العهد العباسي قرَّبوه لمكانته عند أهل الشام، فكانوا
يستميلونه ويُقرِّبون محله، وكان المنصور يُعظمه ويُراسله
لأنَّه عُرف عنه الانحراف عن آل محمد (عليهم السلام) كما
يتَّضح لنا ذلك من تتبع آرائه وأقواله، يروي الأوزاعي [بعث
إلي أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته،
فلمَّا وصلت إليه وسلَّمت عليه بالخلافة ردَّ علي
واستجلسني ثُمَّ قال لي: ما الذي أبطأ بك عنَّا يا أوزاعي؟
قال: قلتُ: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد
الأخذ عنكم والاقتباس منكم]([16]).
وأمَّا منزلته العلمية فلا تُنكر في عصره وبعد عصره، روى
ابن القطان عن مالك بن أنس أنَّه قال: [اجتمع عندي
الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة فقلتُ: أيهم أرجح؟ قال:
الأوزاعي]([17])،
ومات في خلوة في الحمام، وذلك أنَّ زوجته أوقدت له كانون
فحم وأغلقت الباب عليه فمات.
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد بن غالب الطبري،
المتولد سنة 224هـ بآمد الطبرستان، وتوفي ببغداد في 26
شوال سنة 310 هـ .
هو من المجتهدين فلم يُقلد أحدًا وله مذهب عُمل به مدة،
واعتنقه جماعة منهم أبو فرج المعافى بن زكريا النهرواني
المعروف بابن طراز.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: [ما أعلم على أديم الأرض أعلم
من محمد بن جرير]([18])،
وقال الخطيب البغدادي: [كان حافظًا لكتاب الله، عارفًا
بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن،
عالمًا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها،
عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومَن بعدهم...]([19]).
أبو سليمان داود بن علي بن خلف المعروف بالظاهري، ولد في
الكوفة سنة 202 هـ ونشأ ببغداد وتوفي فيها سنة 270 هـ وكان
له لون خاص في التشريع، لعمله في الظاهر.
استمر العمل بمذهب داود إلى القرن السابع الهجري، وكان من
أتباعه وأئمة مذهبه: عبد الحق بن عبد الرحمن الأشبيلي
المتوفى سنة 610 هـ، ومحمد بن الحسين المشهور بالميورقي
المتوفى منتصف القرن السادس، ومجد الدين عمرو بن حسن بن
علي بن محمد بن فرج المتوفى سنة 623 هـ وكان من
المُحدِّثين.
ومن أئمَّة هذا المذهب أيضًا أبو محمد بن حزم([20])
صاحب الفصل في الملل والنحل وصاحب المُحلَّى على قواعد
المذهب الظاهري.
قطع هذا المذهب شوطًا من الزمن بخُطىً ثقيلة، ولكنَّا نراه
يُسرع في خُطاه وينتشر بنطاق واسع عندما تولَّى المغرب
يعقوب بن يوسف بن عبد المُؤمن وأعلن تمسُّكه به، وأعرض عن
مذهب مالك الذي غمر المغرب بانتشاره، فعظم المذهب الظاهري
وكثر أتباعه، وانقطع علم الفروع وخاف الفقهاء سطوة السلطان
عندما فرض اعتناق هذا المذهب، وأمر بإحراق كتب مذهب مالك،
كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد،
والتهذيب للبردعي.
قال في المعجب: [ولقد شهدت منها وأنا يومئذٍ بمدينة فاس
يُؤتى منها بالأحمال فتوضع ويُطلق فيها النار]([21]).
واستمر المذهب وعدَّه المقدسي في [أحسن التقاسيم] من
المذاهب الفقهية([22]).
أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن المولود سنة 92 هـ
والمتوفى يوم الخميس أو الجمعة منتصف شعبان سنة 175 هـ
بمصر، وقد دفن بالقرافة الصغرى ويُعتبر قبره أحد المزارات
هناك، وله مكانة علمية ومذهب يُعمل به، كان يُقرن بمالك بن
أنس، يقول الشافعي: [الليث أفقه من مالك إلا أنَّ أصحابه
لم يقوموا به]([23])،
وكان ابن وهب تُقرأ عليه مسائل الليث فمرت به مسألة فقال
رجل من الغرباء: أحسن والله الليث كأنَّه كان يسمع مالكًا
يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع
الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا
أحدًا قط أفقه من الليث([24]).
وكان أهل مصر ينتقصون عثمان فنشأ فيهم الليث فحدَّثهم
بفضائل عثمان فكفُّوا، ولم يسعده الحظ بأنصار ينشرون مذهبه
فيُكتب له الخلود، وقد انقرض لمدة قليلة، يقول الأستاذ
أحمد أمين: [لو تعصَّب المصريون لمَن نبغ منهم لاحتفظوا
بمذهبه، ولكانوا أتباعه، ولكن زامر الحي لا يُطرب وأزهد في
عالم أهله]([25]).
وفي الواقع أنَّ عدم اشتهار مذهبه وانتشاره سببه عدم
امتزاجه بسلطان عصره، فقد طلبه المنصور للقضاء فأبى وقال:
إنِّي أضعف عن ذلك، ولم يكن من أصحابه مَن يتولاه، فالقضاء
هو عامل قوي لنمو المذاهب وبقائها.
وممَّا يُؤثر عنه أنَّه لقي الرشيد فسأله الرشيد: [ما صلاح
بلدكم؟ قال: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل
وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس
العين صفت السواقي، فقال: صدقت يا أبا الحارث]([26]).
وقال في النجوم الزاهرة([27]):
كان الليث كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير مَن بها في
عصره، بحيث أنَّ القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته، وكان
الشافعي يتأسف على فوات لقياه، وقد كتب بعض مَن غاظه ذلك
إلى المنصور:
أمير المؤمنين تلافَ مصرًا |
|
فإنَّ أميرها ليث بن سعد
|
عُمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، كان تابعيًا، روى
عن أنس بن مالك وغيره، ولا نعلم بالضبط الآخذين بمذهبه
والعاملين به، ولا نعلم مدة بقائه، وربما كانت له آراء
خاصَّة أخذها الناس عنه فعُدَّ في عداد المذاهب، ولا يخفى
أنَّ لمنزلته الدينية وفقهه أثرهما في الناس بعد أن استلم
الحُكم، والناس لا ترى من حُكام بني أمية إلا ثلاثة أوجه:
كره العلويين وظلم الناس واقتراف المُوبقات، ونُقل عنه
قوله: [ما سرَّني لو أنَّ أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)
لم يختلفوا، لأنَّهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة]([28]).
أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش مولى بني كاهل من ولد أسد
المعروف بالأعمش الكوفي المتوفى سنة 148هـ، كان ثقة
عالمًا، كان أبوه من سبي دنباوند وهي ناحية من رستاق الري
في الجبال، وكان يُقارن بالزهري في الحجاز، رأى أنس بن
مالك لكنَّه لم يسمع منه، ويروي عن أنس إرسالاً أخذه عن
أصحاب أنس، وروى عنه سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وكان
لطيف الخلق مزَّاحًا.
دخل أبو حنيفة يومًا لعيادته فطوَّل القعود عنده فلمَّا
عزم على القيام قال أبو حنيفة: ما كأنّي إلا ثقلت عليك،
فقال: والله إنَّك الثقيل عليَّ وأنت في بيتك([29]).
وعاده أيضًا جماعة وأطالوا الجلوس عنده فضجر منهم، فأخذ
وسادته وقام وقال: شفى الله مريضكم بالعافية([30]).
وُلد الأعمش سنة 60 هـ وقيل إنَّه وُلد يوم مقتل الحسين
(عليه السلام)، وعدَّه ابن قتيبة في كتاب المعارف من جملة
مَن حملت به أمه سبعة أشهر([31])،
وتوفي سنة 148 هـ أي في السنة التي توفي بها الإمام
الصادق(عليه السلام) ولم يكن لمذهبه ظهور وانتشار في
المجتمع، وانقرض بعد مدة قليلة.
عامر بن شراحيل الشعبي أبو عُمر الكوفي المتوفى سنة 105
هـ، سمع من جماعة من الصحابة وقال: أدركت خمسمائة منهم،
وكان قاضيًا لعُمر بن عبد العزيز ومُحدِّث الكوفة، يفتي
على ما صحَّ عنده من الأثر، وينقبض عن الفتوى إن لم يجد
نصًا ولا يقول برأيه، ونسبة المذهب إليه لما صدر عنه من
الفتوى، وإلا فلم يشتهر عنه ذلك، والعمل بمذهبه قليل.
الأسباب التي أدّت إلى محو بعض هذه المذاهب
هؤلاء بعض رؤساء المذاهب البائدة، وهي كثيرة تزيد على
الخمسين، إلا أنَّنا قصرنا الكلام على هؤلاء، لأن
الاستقصاء يخرجنا عن غاية بحثنا.
وليس لنا غرض في التعرف عليهم، ولكنَّ الغرض أن نعرف
الأسباب التي دعت إلى محو هذه المذاهب من صفحة الوجود
وإثبات المذاهب الأربعة، مع العلم أنَّ رؤساء المذاهب
البائدة لهم منزلة علمية، ونستطيع القول بأنَّ أكثرهم
كانوا أعلم من رؤساء المذاهب الأربعة، فسفيان الثوري
لقبّوه بأمير المؤمنين في الحديث وسيد الحفَّاظ وغير ذلك،
كما قاله شعبة وأبو عاصم وابن معين وغيرهم، وقال ابن
المبارك: [كتبتُ عن ألف ومائة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان]([32])،
وقال القطان: [الثوري أحب إليَّ من مالك]([33])
-إلى غير ذلك من أقوال علماء الرجال ممَّا لم نعثر على
مثلها لأبي حنيفة وغيره، نعم ما ورد من المدح في أئمة
المذاهب الأربعة من طرق أتباعهم تتعدى حد الحصر- واعطف
عليه سفيان بن عيينة وابن جريح والليث وغيرهم فإنَّهم
بمكانة من العلم، وقد رجع الناس إليهم في الفتيا مدة من
الزمن، واستمر العمل بمذاهبهم ثُمَّ انقرضت ولم يبقَ لأهل
السنة إلا المذاهب الأربعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي،
والحنبلي.
أمَّا أتباع آل البيت (عليهم السلام) فقد بقيت آراؤهم
ومعتقداتهم في الأصول والفروع وغيرهما أقوى من أن تلين
للسياسة وتدخلات الولاة والأمراء . . . وإذا شوهدوا في بعض
الأحيان يميلون إلى التقية وإلى تحاشي ضغائن الملوك فإنَّ
ذلك كان من عزم الأمور ودرء المهالك عن أنفسهم حين يرون
أنَّ دماءهم أحفظ للدين من إراقتها دون طائل.
فالحُكّام في العهدين الأموي والعباسي كانوا لا يتورعون عن
سفك الدماء الطاهرة ولا يتوقفون في ظلمهم لآل البيت (عليهم
السلام) عند حد، ولهذا كان الإمام الصادق (عليه السلام)
يرى في تعرض أهله من آل الحسن (عليه السلام) إلى تلك
المحنة والعذاب أمرًا يُجرِّئ الظالمين أكثر على انتهاك
حُرمات أهل البيت (عليهم السلام) ويصبح انتهاك حُرمات
الناس أبسط بكثير، فقال(عليه السلام) وهو يرى موكب آل
الرسول (عليهم السلام): [والله لا تُحفظ لله حُرمة بعد
هذا]([34]).
ولا يندرج المذهب الجعفري في سياق نشأة المذاهب لأمور
عدَّة، منها:
1ـ استقلال فقه أهل البيت (عليهم السلام) عن السلطة
الجائرة وتعلقه بالإمامة والسلطة الروحية.
2ـ في العهد الأموي -حيث لم تأخذ المذاهب صفتها الرسمية
ولم ترسُ على عدد معيَّن- كان الشيعة هم الخطر الحقيقي
الذي يُهدِّد بقاء الأمويين في كل حين، فكان الاعتقاد
بمذهب الشيعة استعدادًا للموت والتضحية.
3ـ في العهد العباسي، حيث أرست الدولة المذاهب بأربعة، لم
يكن الشيعة جزءًا من السلطة، بل استمروا على العمل بقاعدة
مُقاطعة الظالمين، فيما كان وجودهم الفقهي والعلمي يتسع
وينتشر برغم إرادة العباسيين، وقد شيَّدوا بناءهم الفكري
بعيدًا عن مؤثرات السلطة وعلى الضد من رغبات الحُكام.
يتبع=
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
|