حرق مكتبة الشيخ الطّوسيّ
وهو من مواليد طوس، شيخ الطائفة الشيعيّة أبو جعفر محمد بن
الحسن بن علي
الطوسيّ (385هـ-460هـ)، وعند بلوغه الثالثة عشرة من عمره
هاجرَ إلى بغداد، حيث
كانت الزعامة الفكرية للشيعة الإماميّة قد أُسندت
إلى الشيخ المفيد، وهو رائد
العلوم العقليّة والنّقليّة والحديث والرجال
والأدب، لازم الشيخ الطوسي المفيد
وتلمّذ له واستفاد من آرائه ومناظراته الكلاميّة،
وبعد وفاة الشيخ المفيد (413هـ) انتقلت الزّعامة الدينيّة
عند الإماميّة إلى الشريف المرتضى (355-436هـ) لما
امتاز به من مقدرة علميّة فذّة ونتاجات في مختلف
العلوم كالفقه والتفسير والحديث
وعلم الكلام والأدب، قال عنه تلميذه الشيخ الطوسي
"متوحّد في علوم كثيرة، مجمع على
فضله"()،
وكانت للسيد الشريف المرتضى مكتبة كبيرة تحتوي على أصناف
العلوم
والمعارف، "ضمّت أكثر من ثمانين ألف مجلد"، بعد أن ضمّ
إليه ما بقي من مكتبة سابور
بعد احتراقها سنة 447هـ وقد نهل الشيخ الطوسيّ من علومه
وتلمذ له،"وبقي ملازمًا له
طيلة ثلاثة وعشرين عامًا" حتى وفاته سنة 436هـ.
وبعد وفاة السيد المرتضى استقلّ
الشيخ الطوسيّ بالزعامة الشيعيّة في بغداد،
واستمرّت زعامته مدّة اثني عشر
عامًا (436-448هـ)، وتقاطر عليه العلماء من مختلف
المذاهب الإسلاميّة لحضور مجلسه،
فكانت له مكانة عند كافة المسلمين، حتى أنّ السبكيّ
الشافعيّ نسبه إلى المذهب، قال: "كان ينتمي إلى مذهب
الشافعيّ وتفقّه عليه"()
والأمر ليس كذلك؛ بلغ عدد تلاميذه
أكثر من ثلاث مئة تلميذ، وبلغ الأمر من الاعتناء به
وإكباره أن جعل له الخليفة
العبّاسيّ القائم بأمر الله()
كرسيّ الكلام والإفادة، ولم يُعطَ هذا الكرسيُّ إلا
لقليلين من كبار العلماء، أو لمن كان وحيد عصره، أو
مَنْ برزَ في علومه، وبزَّ
أقرانَه، وعمل الخليفة العباسيّ يدلّ على تفوّق
وبلوغ المدرسة الفكرية الإماميّة
مرتبة عالية حتى اعترف بها رسميًّا، وأصبح الشيخ
الطوسيّ عميدَ هذه المدرسة في
بغداد، فحازَ الثقة الكبرى في طبقات الشيعة جمعاء
في رواية الحديث وتحليله وتعليله،
وأمّا في التصنيف فقد كان الشيخ من المصنّفين
الأجلاء، ففي كتابه الفهرست()
ترجم
لنفسه، وذكر كتبه فاستغرقت منه صفحتين
.
ومنذ أن ملك البويهيّون الأمر في بغداد عام(334هـ) ازدادتِ
العلاقة بين
السُّنّة والشّيعة توترًا، ففي العاشر من محرّم من
سنة(352هـ) "أمرَ معزّ الدولة بن
بويه أن تُغلقَ الأسواقُ، وأن تلبس النساء المسوح من
الشَّعْر، وأن يخرجنَ في
الأسواق حاسراتٍ عن وجوههنّ، ناشراتٍ شعورهن، يلطمنَ
وجوههنّ، وينحنَ على الحسين بن
علي بن أبي طالب(عليهما السّلام)، ولم يمكن أهل
السُّنّة منع ذلك لكثرة الشّيعة،
وظهورهم وكون السّلطان معهم، وفي عشر()
ذي الحجة منها أمرَ معزُّ الدولة بن بويه
بإظهار الزينة في بغداد، وأن تفتح الأسواق بالليل،
كما في الأعياد، وأن تُضرب
الدّبادبُ والبوقاتُ، وأن تشعل النيران في أبواب
الأمراء وعند الشُّرط فرحًا بعيد
الغدير غدير خم، فكان وقتًا عجيبًا مشهودًا وبدعةً
شنيعةً ظاهرةً منكرةً"()،
وفي
العاشر من محرّم من سنة 353هـ " عملت الرافضةُ عزاءَ
الحسين، كما تقدم في السنة
الماضية، فاقتتل الروافض وأهلُ السُّنّة في هذا اليوم
قتالاً شديدًا، وانتهبت
الأموال"()،
وهكذا كان يتكرّرُ الأمر نفسه في السنوات اللاحقة،
والسّببُ دومًا،
كما قرأت، غدير خمِ الإمام علي (عليه السلام)، وعاشوراء
ابنه الحسين بن علي بن أبي طالب، فلا
حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
وقبل أن أعرض لما حلّ بكُتب ومكتبة الشيخ الطوسي في بغداد
أعرّجُ إلى خرسان
لأتناول ما فعله محمود بن سبكتكين (388-421هـ) أو (محمود
الغزنوي) بالبويهيين الشيعة
وكتبهم هناك، حيث أزال سلطانهم من الرّي وبلاد الجبل حين
كان فيها مجد الدولة
البويهي، "ولما ملك محمود الرّي كتب إلى الخليفة
القادر بالله يذكر أنّه وجد لمجد
الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين
امرأة،.. وصلب من أصحابه الباطنيّة
خلقًا كثيرًا، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق
كُتُبَ الفلسفة ومذاهب الإعتزال
والنجوم، وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مئة حمل"().
ونعودُ إلى بغداد سنة 447هـ حيث دخلها السّلاجقة،
فاستخدموا أبشعَ الأساليب
للقضاء على الحريّات الفكريّة والاجتهاد العقليّ، ولم يكن
لهم من همٍّ سوى أن
يحرقوا تراثًا كاملاً ما دام يمثّلُ فكرًا مُخالفًا
لمعتقداتهم كما حدث ذلك لمكتبة
سابور بن أردشير التي مرّ ذكرها، وقد تمثّلت سياسة
السّلاجقة بإذكاء العصبيات
المذهبيّة، وخلْق وتغذية الانقسامات الاجتماعية
والدّينيّة في المجتمع العراقي،
وخاصةً أن بذورها كان قد بُذرت منذ منتصف القرن
الرابع الهجري، فتحوّلت الخلافات
الفكريّة بين المذاهب الإسلاميّة من خلافات فكريّة
نافعة إلى معارك دمويّة مدمّرة،
استفاد منها السّلاجقة الغرباء، فكثرت بذلك
المنازعات والإنقسامات والفتن في العراق
عامّةً، وفي بغداد خاصةً، وشهدت الفترة الواقعة ما
بين 447هـ حتى سنة 571هـ ما يُقارب من ستّ عشرة حادثةَ
نزاعٍ مذهبيٍّ وطائفيٍّ،
وبالأخص في بغداد، وما صَاحَب ذلك من عمليات قتل
ونهب وإحراق وتدهور في الأوضاع
السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية، وكان السلاجقة
قد "دخلوا الإسلام على المذهب
السُّنيّ، فأنشأوا المدارس النّظاميّة، وأوقفوا
التطور الفكريّ الذي اتّجه إليه
الشّيعة والمعتزلة وغيرهم ممّن يأخذون بالنّزعة
العقليّة"، وعلى الرّغم من جهود
السّلاجقة الحثيثة لإضعاف الفكر الشّيعيّ الإماميّ
وتفتيت قوّة الشّيعة العلميّة في
العراق فإنّ جهودهم باءت بالفشل، لأنّ نشاط علماء
الشيعة ومفكّريهم وكثرة أنصارهم
وما خلّفوه من تراث فكريّ كبير كلّه دلّ على أنّ
الفكر الإماميّ لم تنطمس آثاره كما
كان مخططا له، وفي مثل هذا الجوّ الملبّد والمفعم
بالحقد والكراهية أصبحت حياة الشيخ
الطوسيّ مهدّدةً، مما دعاه إلى مغادرة بغداد سنة
(448هـ) والرّحلة إلى النجف من أجل
إحياء مدرسته وبناء دعائمها من جديد
.
سكن الشيخ الطوسيّ جانب الكرخ من بغداد، وهو مكان تجمُّع
الشيعة أتباع أهل
البيت (عليهم السلام)، وبعد دخول السّلاجقة بغداد صارت
مسرحًا لأنواع الفتن، واشتدَّ عنفها
سنة(448هـ) "وفيها أُلزم الروافض بترك الآذان بـ(حيّ على
خير العمل)، وأُمروا أن
ينادي مؤذّنهم في آذان الصبح بعد (حيّ على الفلاح) بـ(الصّلاة
خيرٌ من النوم) مرّتين، وأُزيلَ ما كان على أبواب المساجد
من كتابة (محمدٌ وعليٌّ خير البشر)، ودخل
المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون
بالقصائد التي فيها مدح الصّحابة،
وذلك أنّ نوءَ الرّافضة اضمحلّ، لأنّ بني بويه
كانوا حكامًا وكانوا يقووّنهم
وينصرونهم، فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم
قومٌ آخرون من الأتراك
السلجوقية، الذين يحبون أهل السُّنّة ويوالونهم
ويرفعون قدرهم، والله المحمود أبدًا
على طول المدى، وأمرَ رئيسُ الرؤساء الوالي بقتل
أبي عبد الله بن الجلاب شيخِ
الروافض لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه،
فقتل على باب دكّانه، وهرب أبو جعفر
الطوسي ونهبت داره بالكرخ، وأخذ ما وجد من دفاتره
وكرسيّ كان يجلس عليه للكلام"()،
وكانت هي المرّة الأولى التي تُنهب فيها دار الشيخ
الطوسيّ، وتكرّر الأمر في سنة (449هـ) "وفيها كثرت العياريون ببغداد، وأخذوا الأموالَ
جهارًا، وكبسوا الدُّور
ليلاً ونهارًا، وكُبست دارُ أبي جعفر الطوسيّ متكلم
الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره
ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته ويدعو
إليها أهل ملته ونحلته ولله
الحمد"()،
فانظرْ إلى ابن كثير كيف يحمدُ اللهَ على القتل والنّهب
وحرق الكُتب
وإبادة المعرفة!
إنّ القتل والحرق والنّهبَ كان ديدن السّلاجقة ومَنْ تبعهم
من أهل بغداد،
حيث صارت بغداد بعد دخول السّلاجقة إليها مشاعًا للقتل
والنهب وأنواع الفتن، ولم
يسلم مفكّرو شيعة أهل البيت من هذا الحقد الدّفين،
ولم يراعوا في كبير علماء بغداد
إلاً ولا ذمّةً، فقد كُبست دارُهُ ونهبت "وأُحرقت
كتبه وآثاره ولمرّاتٍ عديدة بمحضر
من الناس"()،
"وأحرقوا كرسيّ التدريس الذي منحه إيّاه الخليفة القائم
بأمر
الله"()،
"وأحرقت كتبه على رؤوس الأشهاد في رحبة جامع القصر"()،
ونستنتج مما سبق
أنّ دار الشيخ الطوسي وكتبه وآثاره قد نُهبت
وأُحرقت أكثر من مرّة، وكأنّ بين أولئك
وهذا الشيخ الجليل عداءً تاريخيًّا، ينفسون حقدهم
بكتبه وآثاره كلّما سنحت لهم
الفرصة إلى ذلك، وهذا ما قاله السبكي: "..إنّ كتبه
أُحرقت عدّة نوب بمحضرٍ من الناس"،
فهاجر شيخنا الطوسيّ إلى النجف الأشرف، وأسس الحوزة
العلميّة في العتبة المقدّسة
العلويّة، فتسلّلت إليه روّادُ العلم وظمّاء
الفضائل، حتى برعوا بفضله الجمّ، ونشْرِ
ألوية العلم والدّين بعده".
توفّي الشيخ الطوسيّ في النجف الأشرف سنة 460هـ عن خمسٍ
وسبعين سنةً،
ودُفنَ في داره التي تحوّلت بعده مسجدًا في موضعه اليوم،
وخَلَفه على العلم والتُّقى
ولدُهُ الشيخ أبو علي الملقّب بالمفيد الثاني الحسن بن
محمد أبو الحسن الطوسيّ
(ت515هـ) صاحب كتاب المجالس
.
مكتبة الصاحب بن عبّاد
وهو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد، وزير فخر الدّولة
البويهيّ في الرّيّ،
ولد سنة 326هـ، "وتوفّي سنة خمس وثمانين وثلاث مئة بالريّ،
وكان أوحد زمانه علمًا ورياسةً ورأيًا، عارفًا بالكتابة،
ورسائله مشهورة ومدوّنة"()،
أخذَ اللّغة والأدب
عن أحمد بن فارس اللغوي وأبي الفضل بن العميد،
ولُقّب بالصّاحب لأنّه كان يصحبُه،
أو لأنّه صحب مؤيّد الدّولة بن بويه منذ الصّبا،
"واستمرّ عليه هذا اللقب، واشتُهر
به كلّ مَن وليَ الوزارة بعده"()،
صنّف في اللّغة كتابًا سمّاه (المحيط) وهو في
سبع مجلّدات، وكتاب (الوافي) في الرسائل، وكتاب
(الإمامة) يذكر فيه فضائل علي بن
أبي طالب، وكتاب (الكشف عن مساوئ شعر المتنبّي)،
"فكان عالمًا بفنون كثيرة، وله
تصانيف حسان، ونثر بالغ، وكان يخالط العلماء
والأدباء، ويقول لهم: نحن بالنّهار
سلطان، وبالليل إخوان"()،
"وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسيّ النّحويّ أنّ
نوح بن منصور()
أحد ملوك بني سامان كتبَ إليه ورقةً في السّرّ يستدعيه
ليفوّض إليه
وزارته وتدبير أمر مملكته، فكان من جملة أعذاره إليه أنّه
يحتاجُ لنقل كتبه خاصّةً
إلى أربع مئة جمل"()،
ومثل هذا قاله أكثر من مؤرّخ، قالوا: "وجمع من الكتب ما لم
يجمعه غيره، حتى أنّه كان يحتاج في نقلها إلى أربع مئة
جمل"().
إنّ مكتبةً هذا حجمها جُمعت في زمنٍ مبكّرٍ من تاريخ
الإسلام إنّما تدلّ
على سعة التأليف وغزارته وتنوّعه، وضخامة قدر هذه المكتبة
وكثرة مؤلّفاتها، فهي
مكتبة خاصّة جمعها صاحبها لثقافته، فكيف بتلك التي في قصور
الأمراء والوزراء
والأثرياء والأعيان والجوامع والبيمارستان..،
يتحدّث ابن عبّاد واصفًا خزانة كتبه،
فيذكر "أنّها تشتملُ على مئة ألف وسبعة عشر ألف
مجلد (117000 مجلد)" ()،
أقول: إنّ
خزانةَ كتبٍ بهذا الحجم يملكها أديبٌ واحدٌ لثقافته عاش في
القرن الرابع الهجري إنْ دلّ
على شيء فإنّه يدل على مقدار اهتمام المسلمين بالعلم
وإنتاجه، في الوقت الذي كان فيه الغرب غارقًا
في جهله وأوهامه وتخرّصاته وحروبه ونزاعاته، فمكتبة الصاحب
بن عبّاد تفوقُ في
موجوداتها مجموع ما وجد في مكتبات أوروبا مجتمعةً
في تلك الحقبة الزّمنية (القرن
العاشر الميلاديّ - الرابع الهجري)، يقول ويل
ديورانت: "وكان عند بعض الأمراء
كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب
الأوربية مجتمعةً"().
ويقول "ريسلر" يصف النشاط العلميّ في الدّولة
الإسلاميّة، فأنّى اتجهتَ تجد العلم
والعلماء والكتب والثقافة، قال: "عاش النّاس ورأوا
ما بين القرن التاسع والقرن
الثاني عشر الميلاديين ما لم يكونوا قد صادفوه
أبدًا، ففي كلّ مكان شغفٌ شديدٌ
بالكتب، وألفُ جامعٍ تسطع ببيان العلماء وبلاغتهم،
ومئة بلاط أميريٍّ تصدح فيها
ألسنة الشعراء أو الفلاسفة، ودروب مكتظة
بالجغرافيين والمؤرخين والفقهاء الباحثين
عن العلم والمعرفة، إنها أعظم يقظة فكرية في
التاريخ الإسلامي"().
وبالعودة إلى خزانة كتب الصاحب يقول عنها ياقوت الحموي
تحوي "ما يُحمل على
أربع مئة جمل أو أكثر"()،
ويستمر ياقوت في حديثه عن الصاحب بن عباد، فينقل عن
البيهقيّ قوله: "بيتُ الكتب الذي بالرّي دليلٌ على
ذلك، بعدما أحرقه السّلطانُ
محمودٌ ابن سبكتكين، فإنّي طالعتُ هذا البيت فوجدتُ
فهرست تلك الكتب عشرَ مجلدات،
فإنّ السّلطانَ محمودًا لما وردَ إلى الرّي، قيل
له: إن هذه الكتب، كتب الروافض
وأهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام،
وأمر بحرقه"()،
يقول السيد
الأمينيّ صاحب (الغدير): "يظهر من كلام البيهقيّ
هذا أنّ عمدةَ الكتب التي أُحرقت
هي خزانة كتب الصّاحب، وهكذا كانت تعبث يد الجور
بآثار الشّيعة وكتبهم ومآثرهم،
وكان خازن تلك المكتبة ومتوليها أبو بكر محمد بن
إبراهيم بن علي المقري المتوفى (381هـ)
وأبو محمد عبد الله الخازن بن الحسن الاصبهاني"().
حرق مكتبة بني عمار
إنّ تلفَ وإحراق التراث الفكري الإسلاميّ تنقّل في العالم
الإسلاميّ بين المشرق والمغرب، ووصلت النّوبة إلى طرابلس
من بلاد الشّام
.
كان بنو عمّار قضاة طرابلس، وبعد ذلك أصبحوا أمراءَها،
وأوّل مَن استقلّ بطرابلس منهم هو أبو طالب بن عمّار
المشهور بـ(أمين الدّولة)، وظلّ يعدُّ نفسَهُ تابعًا
للدّولة الفاطميّة حتى سنة 422هـ إذ استقلّ بطرابلس، فقامت
بذلك إمارة بني عمّار، واستمرّت في التّقدّم والنّمو إلى
سنة 502هـ، حيث احتلّ الصلبيّون طرابلس بعد نضال طويل
.
كان أمين الدّولة كبير العقل سديد الرأي عالمًا فقيهًا
وكاتبًا مُجيدًا، ألّفَ الكثير من الكتب النفيسة، وأمّا
المنقبة الكبيرة التي تركها فقد تمثّلت في تأسيسه (دار
العلم) في طرابلس "وقد جعلها مركزًا من مراكز التشيع وأنشأ
فيها بيتَ حكمة، جهزه بمئة ألف مجلّد من الكتب، وكان فيها
على عهده مدرسة جامعة ومدارس دينية وخزائن كتب، وربما كانت
طرابلس قبل استيلاء الصليبيين عليها، أول بلدة علمية في
الشام"().
إذًا، ضمّت (خزانة العلم) بين جنباتها مئة ألف كتابٍ في
بدءِ أمرها، فكان أمين الدولة يبعثُ البعوثَ في أنحاء
البلاد يفتّشون له فيها عن أندر الكتب وأنفعها، ويبذل في
شرائها مالاً وفيرًا، فتجلب له الكتب النادرة فيشتريها
مهما بلغ ثمنها، واستمرّ شراء الكتب وجمعها في (دار العلم)
بعد أمين الدولة في خلفائه، وقد جدّدَها ابنُ أخيه وخليفته
جلال الدولة سنة 472هـ، حيث عني بها عناية فائقة، وجعل
لطلاب العلم فيها رواتبَ، وجعل لها نُظّارًا يتولّون
القيام على رعايتها، فقد ساوت طرابلس ثقافيًا في تلك
الحقبة كبريات الحواضر العربية الإسلاميّة، فكثرَ فيها
المترجمون والنّسّاخون والكتّاب والخطّاطون حتى أصبحت (دار
العلم) في طرابلس "أروعَ مكتبة في العالم"()،
وكان في المكتبة مئةٌ وثمانون ناسخًا عملهم الوحيد نسخ
الكتب غير الموجود منها نسخ في المكتبة، فضمّت المكتبة
الكثير من الكتب اليونانية والرومانية والفارسية.. وظلت
مكتبة بني عمار تنمو وتكبر إلى أن بلغ "العدد ثلاثة ملايين
كتاب" على ما قال ابن أبي طيّ().
ويؤيّد ذلك ما نقله محمد كرد علي عن ابن الفرات من "أنّ
كتب (دار العلم) بطرابلس ثلاثة آلاف ألف"()،
وقال بهذا الرقم كثيرٌ من المستشرقين والمؤرّخين العرب،
يقول المستشرق شوشتري: "إنّ مكتبة طرابلس كانت تحوي على
أكبر عددٍ من الكتب عُرِفَ أن مكتبةً ما حوته حتى ذلك
الزمن ، ألا وهو ثلاثة ملايين كتاب"()،
ويبدو أنّ المكتبة بدأت في عهد منشئها الأول أمين الدولة
بمئة ألف كتاب، وارتفع العدد في عهد خليفته جلال الملك إلى
مليون كتاب()،
ثمّ ارتفع في عهد فخر الملك إلى ثلاثة ملايين كتاب
.
وقد حوت مكتبة طرابلس جميع أنواع المعرفة الإنسانيّة من
طبّ وفلك وتنجيم وهندسة وأدب وتاريخ وحديث وفقه ونحو وشعر
إلى جانب وجود عدد كبير من المصاحف الشّريفة
...
ولما جاءت سنة 503هـ دخل الصليبيّون طرابلس "فملكوها عنوةً
وقهرًا، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النساء
والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال
والأمتعة وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يعدّ ولا يُحصى"()،
فكانت (دار العلم) التي أنشأها بنو عمار في طرابلس من
ضحاياهم، إذ أحرقوها بكلّ ما فيها، ويعود سبب حرقها إلى
توهم الصليبيين أن جميع محتويات المكتبة هي نسخ من القرآن
الكريم، فعند احتلال طرابلس كان يرافق الحملة الصليبية أحد
القساوسة الذي تجوّل في القاعة المخصصة للقرآن الكريم،
فاعتقد أن المكتبة بجميع قاعاتها مخصّصة للقرآن الكريم،
فأعطى أوامره بحرقها، فأُحرقت بنيران العصبية العمياء،
فأتت النيران على جميع ما حوته هذه المكتبة الثمينة، حتى
أصبحت أثرًا بعد عين.
حرق المكتبات في جبل عامل على يد الجزار (1735م ـ 1804م)
أحمد باشا الجزّار مسيحيٌّ من مقاطعة البوسنة، لجأ إلى
الأستانة إثر
محاولته الاعتداء على زوجة أخيه، وكان في السّادسةَ عشرةَ
من عمره، هناك باع نفسه
إلى أحد تجّار الرقيق، فسمّاه أحمد بعد دخوله في
الإسلام، اشتراه علي بك الكبير
حاكم مصر وعيّنهُ جلادًا بعد أن أعتقه، فجاءت هذه
الوظيفة موافقة لفطرته بالقتل
وسفك الدّماء، حتى حسبه الناس نوعًا من الوحوش
الضّارية فلقّبوه بالجزّار، وكان هو
شديد الافتخار بهذا اللّقب، بالغَ الحرص على أن
يكون جديرًا به، وكان جديرًا به...
التجأ الجزار إلى دمشق، ومنها انتقل إلى لبنان، فدخل في
خدمة الأمير يوسف الشّهابيّ
الذي عيّنه متسلّمًا على مدينة بيروت .. وفي سنة 1775م
اغتيل الشيخ ظاهر العمر على
يد أحد رجاله، فتسلّمَ أحمد باشا الجزار الولاية على عكا
عام1776م، وكان أوّل همّه
إخضاع جبل عامل، ودارت بينهم معركة يارون عام1781م،
وانتهت بانتصار الجزّار
واستيلائه على جبل عامل، وخضع له طيلة ربع قرن من
الزمن حتى وفاته عام 1804م،
فتنفّس جبل عامل الصّعداء
.
اتّخذَ الجزّار عكا عاصمة له، وأقام فيها المسجد الكبير
على اسمه كي يخلّده
كحاكم في فلسطين، وإلى جانب المسجد بنى المدرسة والمكتبة
الأحمديّة، وجعل المسجد
نواةً للمكتبة، وعلى عادة الملوك والأمراء فقد عمدَ
الجزّار إلى امتلاك كلّ ما يقع
تحت يده من كتب ومخطوطات، ولو بالنّهب والسّطو،
ووضعها في خزانة مكتبة الأحمدية،
فكيف إذا كان الناهبُ جزّارًا!؟
يقول فيليب طرازي: "جمع الجزار في مكتبة الأحمدية كلّ
المخطوطات التي
انتزعها من أنحاء البلاد الخاضعة لولايته، ولا سيما من
خزائن (دير المخلص) قرب
صيدا، ومن خزائن الشيخ خيري مفتي الرملة، وانتهب
الجزار نفسه مكتبات جبل عامل
وخصوصًا مكتبة آل خاتون في قرية (جويّا)، وكانت
غنيّةً بمخطوطاتها، إذ أنافَ عددها
على خمسة آلاف مجلّد، فأمر أعوانَهُ أن ينهبوا من
تلك المكتبة كلَّ ما استطاعوا،
وينقلوه إلى عكا، فاضّطر فريقٌ من أولئك العلماء أن
يخفوا مخطوطاتهم عن المعتدين،
ويطمروها في صناديق تحت الأرض، حيث أتلفت الرطوبةُ
جانبًا وافرًا منها، وعلى الرغم
مما بعثر من
مخطوطات جامع الجزار فقد سلم منها قسمٌ يقال أنّ
عدد مجلّداته يبلغ الآن خمسماية
مجلّد أكثرها مخطوط"().
ويظهر أن المجتهد الأكبر العلامة السيد محسن الأمين
العامليّ (1284هـ-
1371هـ) قد اطّلع على واحدة من هذه المخطوطات المنهُوبة
من جبل عامل مع شخصٍ
فلسطينيّ فيها نسبٌ لجدّه، وهذ الشخص كان يدّعي
أنّه يعود في نسبه إلى ما ذُكر في
هذه المخطوطة، قال العلامة الأمين: "وجدتُ مع بعض
الفلسطينيين بخطٍّ غاية في
الجودة، وعليه خطوط العلماء من الفريقين وشهاداتهم،
وفيه ذكر أبناء الحسن المذكور
وغيرهم من متفرّعات العشيرة، وقد ادّعاهُ هذا
الفلسطينيّ، وادّعى أنّه من ذرّيّة
صاحب النّسب، ولا ندري كيف وصل إليه، ولعلّه مما
نُهبَ في حادثة الجزار من ذخائر جبل
عامل، ومنها الكتب التي أُوقدت في أفران عكا برهةً
من الزمن، واختار علماء عكا منها
جملةً من نفائس مخطوطاتها فأخذوها، وكان هذا النّسب
منها، والله أعلم"().
وقد أجمع العلماء على أنّ أحمد باشا الجزار قد نهب خزائن
كتب العامليين بعد
معركة (يارون) من قرى جبل عامل عام 1195هـ، ويارون قرية
متاخمةٌ لحدود فلسطين
الشمالية جرت فيها معركة بين الجزار والعامليين على
حين بغتة، وانجلت المعركة عن
انهزام العامليين ومقتل كبير مشايخهم ناصيف نصّار
الصّغيري الوائليّ، ولم ينجُ
منهم ـ بعد استصفاء مكتباتهم الحافلة بنفائس الكتب
ـ إلا مَنْ كُتب له السّلامة
بالفرار، وقد روى العامليون أنّ ما انتُهب من مكتبة
آل خاتون التي كانت تحتوي أربعة
آلاف مجلّد، فما بالكَ فيما انتهب من المكتبات
الأخرى الكثيرة؟().
ومكتبة آل خاتون تعود إلى "الشيخ علي خاتون الذي هاجر في
طلب العلم مدّة،
ثمّ رجع إلى بلاده طبيبًا مُتفنّنًا أديبًا، وبليَ بفتنة
الجزار فصودر مالُهُ،
وضُبطت أملاكُهُ، وحُبسَ مرّتين، ولم تقبل منه
فديةٌ، ثمّ أُخذت المكتبة الكبرى لآل
خاتون، والشيخ
المذكور وليَ أمرها، وكانت تحوي خمسةَ آلاف مجلد من
الكتب الخطّيّة
النادرة، فأمست في عكا طعمًا للنار، واستصفى الجزار
آثارهم(علماء جبل عامل) العلميّة، فكان لأفران عكا من كتب
جبل عامل ما أشغلتها بالوقود أسبوعًا كاملاً،
وكانت هي الضربة الكبرى على العلم وأهله"().
وحرق كتب العامليين في أفران عكا أيّامَ الجزار يؤكّدُهُ
فيليب طرّازي في
رواية أحد العامليين، يقول طرازي: "أخبرني الحاج أحمد عارف
الزين صاحب مجلة العرفان
في صيدا أنّ الجزار أجهز في تلك الثورة على خزائن كتب جبل
عامل، ونقلها إلى مدينة
عكا، وبينها مكتبة مهدي خاتون في قرية (جويّا) كانت تشتمل
على زهاء أربعة آلاف
مخطوط، فانتقى الجزار قسمًا منها ضمّهُ إلى خزائن
الجامع المعروف باسمه وهو جامع
الأحمديّة في عكا"()،
هذه المجزرة بحق المعرفة ارتكبها جزّارٌ حاقدٌ جاهلٌ مغمور
النسب، مشتهرٌ بالسيرة السيّئة والأخلاق المنحطّة،
وسلسل السيد حسن الصّدر أفعال
الجزار في العامليين في معرض ترجمته للشيخ علي
خاتون العامليّ، قال: " وهو أحد
العلماء الذين عذبهم أحمد الجزار، كان يحمي له
السّاج الحديد في النار ويضعه على
رأسه، فيقول الشيخ "يا الله" فيكون السّاج عليه
بردًا وسلامًا ؛ وضبط الجزار
أملاكَهُ وخزانةَ كتبه المحتوية على خمسة آلاف كتاب
وحبسه مرتين.. وكان مبدأ حكم
الجزار سنة إحدى وتسعين ومئة بعد الألف للهجرة في
عكا، وفي سنة سبع وتسعين أرسل إلى
(شحور)
عسكرًا فقتل مقتلة عظيمة وأخذ الأسرى، وفي سنة ثمان
ومائتين وألف فتك بأهالي
بشارة وقتل منهم جماعة خنقًا في الحبس، وفيها عذب الشيخ
علي خاتون وغيره، وفي سنة(1212هـ) أهلَكَ أهل بلاد جبل عامل قتلاً وحبسًا حتى
أهلك الحرث والنسل، حتى أنّه
كان يعذبهم في الحبس بتسليط الكلاب وضرب مقارع
الحديد، واستمرت الشدة إلى سنة تسع
عشرة ومائتين وألف، فهلك الجزار لعنه الله وأراح
أهل البلاد منه"().
تلف كتب محمد بن أبي عمير (... ـ 217هـ)
وهو محمد بن زياد، لأنّ اسم (أبي عمير) زياد، كان من أوثق
الناس عند العامّة
والخاصّة، وكان أوحد زمانه في الأشياء كلّها، وأدرك من
الأئمّة (عليهم السلام) ثلاثةً: موسى الكاظم وعليّ الرّضا
ومحمد الجواد (عليهم السلام)، وروى عنه أحمدُ بن
محمد بن عيسى كتبَ مئة رجلٍ من رجال الصّادق (عليه
السلام)، وله مصنّفات كثيرة، ذكر ابن بطّة
أنّ له أربعةً وتسعين كتابًا().
قال عنه النجاشيّ: " جليل القدر عظيم المنزلة فينا وعند
المخالفين، وكان
حبس في أيام الرشيد، قيل ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب
موسى بن جعفر (عليه السلام)،
وروي أنه ضُرب أسواطًا بلغت منه، فكاد أن يقر لعظم الألم،
فسمع محمد بن يونس بن عبد
الرحمن وهو يقول: (اتقِ الله يا محمد بن أبي عمير)،
فصبر ففرج الله عنه، وروي أنّه
حبسه المأمون حتى ولاه قضاء بعض البلاد، وقيل إن
أخته دفنت كتبه في حال استتارها
وكونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب، وقيل بل
تركتها في غرفة فسال عليها المطر
فهلكت، فحدّث مِن حِفظه، ومما كان سلف له في أيدي
الناس، فلهذا أصحابنا يسكنون إلى
مراسيله؛ وقد صنف كتبًا كثيرة"().
وروى ابن داوود الحلّي، قال: "حُبس ابن أبي عمير بعد
الرّضا، ونهب ماله،
وذهبت كتبُهُ، وكان يحفظ أربعين مجلّدًا"().
ويظهر من الروايات أنّ ابن أبي عمير حُبس مرّتين: مرّة عند
الرشيد لتشيّعه،
"وضرب مئة خشبة وعشرين خشبة أيام هارون
لعنه الله، تولى ضربه السّنديُّ بن شاهك
على التشيع وحبس، فأدى مئة وأحدًا وعشرين ألفًا حتى
خلي عنه"()،
وأخرى عند ابنه
المأمون لإجباره على تولي القضاء وهو لا يريده،
والظّاهر أنّ كتبه تلفت أثناء وجوده
في حبس المأمون وبعد وفاة الإمام الرضا سنة 203هـ،
وضربُ الرشيد له واضحٌ مفهومٌ،
لأنّ الرشيد كان كارهًا للعلويين، فقد أنزلَ أشدّ
العقوبات بهم أو بمَن اتُّهم
بالميل إليهم، وهذا ليس غريبًا على الرشيد، فقد
"قبض على موسى بن جعفر (عليهما
السلام)، وأحضرهُ في قبّة إلى بغداد، فحبسهُ في دار
السّنديّ بن شاهك، ثمّ قتل
وأظهر أنّه مات حتف أنفه"().
ويرجع السبب في حبس ابن ابي عمير أنه رفض أن يتولّى
القضاء للمأمون، فحبس وضُرب ، ودفع مالاً لقاء
خروجه من السجن وأحرقت
وأغرقت كتبه ولم يشِ بأحدٍ من أتباع أهل البيت ،
قال ابن داود : "فأمره السلطان بتسميتهم فأبى، قال: فضربتُ
ضربًا عظيمًا، فتقوّيتُ وصبرتُ ولم أخبرهم، والحمد لله"()؛
رحم الله محمّد
ابن أبي عمير
.
خلاصة:
قال تعالى {ن وَالْقَلَمِ
وَمَا يَسْطُرُونَ}()،
اهتمّ القرآن بالعلم أيّما
اهتمام، حتى استطاع المسلمون أن يهضموا النتاج
المعرفي لغيرهم من الأمم والشعوب،
ويصحّ القول إنّ الحضارة الإسلامية هي حضارة كتبٍ
ومكتبات.
وأمّا كتب الشيعة فقد
ضاع منها الشيء الكثير، أو عفى عليها الزمن بسبب
الحروب والفتن والأحقاد المذهبيّة،
وقد نقرأ أسماء كثيرين من المصنفين في كتب التراجم
إلا أنّه لم يصل إلينا من نتاجهم
شيءٌ، بل نجد أنّ جماعةً أخرى "لم نطّلعْ على
أسمائهم وأحوالهم ومؤلّفاتهم"()،
وقبل
ذلك اعترف الشيخ الطوسي في (فهرسته) بعجزه عن الإحاطة
والترجمة الوافية لرجال
الشيعة، قال: "ولم أضمن أنّي أستوفي ذلك إلى آخره، فإنّ
تصانيف أصحابنا وأصولهم لا
تكاد تضبط، لانتشار أصحابنا في البلدان وأقاصي الأرض"()،
وقال النجاشي يعتذر: "وقد
جمعت من ذلك ما استطعته، ولم أبلغ غايته، لانعدام
أكثر الكتب، وإنما ذكرت ذلك عذرًا
إلى من وقع إليه كتاب لم أذكره"()،
وأنا أنقل كلامًا من كتاب (مرآة الكتب) يلخّص
بحثي بمجمله، قال:
"وأنت خبير بأنّ كتب قدماء الأصحاب قد تفرق شملها أيادي
سبأ، وهبَّ
بها ريح الجنوب والصبا، لحوادث جرت عليها، وأهوال
توالت على أربابها، مع أنّ الدولة
كانت في غيرهم والقوم بخلافهم، أحاطتهم التقية من
كل مكان، وشملهم الخوف في كل
عصر وأوان، حتى إن بقاء هذه البقية من أغاليط
الزمان وغفلات الدوران، وزدْ على ذلك
ضيق اليد عن تحصيل الكتاب ونشره، وقلة الاهتمام من
أهله، فقد ضاعت كتب محمد بن أبي
عمير لكونه في الحبس أربع سنين، واحترق دار شيخنا
الطوسي وكتبه في بغداد لمّا وقعت
الواقعة بين الشيعة والسُنّة في سنة ثمان وأربعين
وأربعماية، ولطالما شُنت الغارات على
البلاد الإسلامية من الكفار، وعلى الإمامية من
مخالفيهم، واحتراق خزانة كتب الشهيد
الثاني وكانت مشتملة على ألف مجلد؛ وقد استيقظ
الزمان قليلاً من نومته في عهد
السلاطين الصفوية، فأيّدوا علماء عصرهم بنشر الأمان
في البلدان وإحياء دوارس
العلوم، حتى اجتمع من الكتب ما اندرس، وآل إلى
الرواج ما كسد، ثم نام بعد انتباهه
نومة لا يقظة بعدها أبدًا، وإن نفخ في الصور، ومات
العلم موتة لا حياة بعدها وإن نشر
من في القبور"().
إنّ التراث الإسلاميّ المكتوب إبّان ازدهار الحضارة
الإسلاميّة صار طعمًا
للنّار بسبب الحروب والغزوات والفتن المذهبيّة والأحقاد
الدّفينة، وكلّها غوغائيّة
متعصّبة، تبيد نتاج الفكر وعصارة العقول بشبهة لاحت لغازٍ
أو حاقد أو متعصّب، فتخسر
الإنسانية أعزَّ نتاجها وثروتها الفكريّة، فهل يتّعظُ
جرّاء ذلك المتّعظون!.
وأختم بلفتةٍ لها حديث آخر، ففي مكتبات العالم كنوزٌ من
التراث المعرفي
المكتوب للمسلمين لا تزال بين مهجورة ومطمورة، تنتظر مَن
ينفض عنها غبار الأيّام،
ولا يزال العرب في غفلة عنها مع ما يملكون من فائض
ماليّ ، وهذا أمرٌ يبعث على الأسف، في
الوقت الذي رأينا شغف الأمم المتمدّنة بنشر علومها
وفنونها، وتكرّر النشر مثنى
وثلاث ورباع، ونشر علوم الأمّة أمارةٌ على يقظتها
ونباهة عقلها وكرامتها القومية
ومشاركتها في إعلاء صرح الحضارة البشريّة، ولكنّ
العرب والمسلمين ما زالوا في
غيبوبة منذ أن دخل التتار بغداد سنة 656هـ، فمتى
نستيقظُ، ونبعدُ عن أنفسنا مقولة: أُمّةُ إقرأ متى تقرأ؟
(انتهى)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
|