السنة العاشرة/ العدد الخامس والعشرون /  حزيران 2014م / رمضان  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال =

المرجعية الدينية ومحاربة الاستعمار

 

6 - ولم يكتفوا بذلك، إذ ما إن شكلت الحكومة (الوطنية) في العراق في ظل الهيمنة البريطانية، ونودي بفيصل الأول ملكًا، حتى طالب علماؤنا بشروط تحفظ للإسلام والمسلمين بقية من كرامتهم، ولا تعجب بريطانيا والسائرين في ركابها، وأصروا على تلك الشروط بعد أن رُفضت وخولفت، وحرّموا الاشتراك في الاستفتاء الشعبي، وثبتوا على مواقفهم في تفاصيل يطول ذكرها.

وقد وقفت الحكومة -في وقته- منهم موقفًا قاسيًا، فنفت المرحوم الشيخ مهدي الخالصي (قدس سره) من علماء الكاظمية وشرّدته عن وطنه.

وتضامن معه علماء النجف الأشرف، فقد هدد المرجعان الشهيران الشيخ ميرزا محمد حسين النائيني([21]) والسيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سرهما) ([22]) بالسفر إن لم يرجع لوطنه.

فلم تستجب الحكومة لهما ولم ترجعه، بل سفَّرتهما مع جماعة كبيرة من العلماء وأهل العلم إلى إيران، وألحقتهم به في جوّ متوتر، ليخلو لها الجوّ وتتجنب ضغوطهم، وليضعف الوجود الديني في العراق، وتفرغ الساحة للنشاط التبشيري وللدعوة اللادينية، كي ينسلخ الناس عن دينهم، ويبقى العدوّ الاستعمار الجاثم في مأمن منه، في مخطط محبوك يعّم إيران والعراق وجميع بلاد الإسلام، لتجريدهما من بقية الدين، الذي يقضُّ مضاجع الكافرين والمنافقين السائرين في ركابهم، ويقف حجر عثرة في طريقهم، كما أدرك ذلك بعض علمائنا الأعلام (قدس الله أرواحهم).

فقد حدثني العلامة السيد أحمد جمال الهاشمي عن أبيه آية الله المرجع الديني السيد جمال (قدس سره)([23])، وقد كان من أعيان تلامذة الميرزا النائيني (قدس سره) وممن سافر معه من حاشيته حينئذ، قال: لما سافر العلماء إلى إيران استقبلهم الشعب الإيراني وعلماؤه استقبالاً حارًا حاشدًا، واحتفوا بهم، وعظّموهم، ورفعوا شأنهم.

فلما رأى المرحوم الميرزا النائيني (قدس سره) اهتمام الشعب الإيراني بهم والتفافه حولهم قال للعلماء: [إنا نستطيع بما رأيناه من اندفاع الشعب لنا أن نصلح الأوضاع في إيران].

فقال له المرحوم المرجع آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (قدس سره) ([24]): [إنا نستقبل جبالاً من بلاء، وليس لنا إلا الهدوء والاستسلام والحفاظ على البقية الباقية حتى ينجلي هذا البلاء المقبل، وننظر ما يكون].

وكأنه (قدس سره) كان ينظر بنور الله تعالى، فقد صدقت نبوءته، حيث انتهى الأمر بحكم رضا بهلوي لإيران، فأحرق الأخضر واليابس، وحاول اقتلاع الدين من جذوره في محنة مأساوية وقعت على العلماء والمؤمنين. ولله أمر هو بالغه.

وبنحو ذلك نظر من بقي في النجف الأشرف من رجال الدين وأهل العلم العاملين، فوجدوا الفراغ هائلاً بسفر العلماء وأدركوا خطورة الأمر وعواقبه الوخيمة، ورأوا ضرورة رجوع العلماء إلى مراكزهم، ليجددوا للحوزة نشاطها، ويشيّدوا كيانها، ويحافظوا على البقية الباقية من الدين بعد أن عجزوا عن إصلاح جهاز الحكم.

فجدّوا في العمل لرجوعهم. وممن تبنى ذلك واندفع في العمل له المرحوم الحجة مثال الورع والتقوى آية الله الشيخ باقر القاموسي (قدس سره)([25]) -كما حدثني بذلك مفصلاً ولده الحجة المقدس الشيخ صادق القاموسي([26]) (دامت بركاته)- وكان كثير العلائق مسموع الكلمة مبجلاً معظمًا داخل الحوزة وخارجها.

وقد خالف بعض ذوي الشأن، فكان يرى أن في رجوعهم من دون استجابة لمطالبهم وهنًا عليهم. غير أنه (قدس سره) أصر على رجوعهم بعد أن استوضح ضرورة التشبث بالميسور من الوظيفة، والتغاضي عن سلبياته، فعمل لذلك جادًّا بما له من العلاقة مع الوسائط من ذوي النفوذ.

وحتى تمّ له ولمن معه ما أرادوا، ورجع العلماء الأعلام ومن معهم إلى العراق، وأشغلوا مراكزهم وانصرفوا إلى الاهتمام الحوزوي، بعيدًا عن الاحتكاك بالمسؤولين.

ولعلهم كانوا مسدَّدين في ذلك، حيث صارت حوزات العراق بعد ذلك مفزعًا لمن فرّ من قسوة الحكم البهلوي، الذي صبّ نقمته على العلماء وأهل العلم في مواقف مأساوية فجيعة يطول شرحها.

فكانت تلك الحوزات ملجأ لمن سلم منهم وتيسَّر له الخروج من إيران. وكانت مفروضة نسبيًا على الحكومة الإيرانية تحسب لها حسابها.

كما استوعبت حوزة قم المقدسة الكثير أيضًا بزعامة المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدى (قدس سره) الذي عالج الأُمور بصبر وحكمة عجيبين.

وقويت حوزات العراق وقم، وتجمَّع فيها الكثير من أهل العلم ذوي المستويات العالية، حتى إذا انفرجت الأُمور في إيران، وتحسنت الأوضاع في العراق، كانت تلك الحوزات كنز الدين الثمين، وكهفه المنيع، ودرعه الحصينة ولسانه المبين.

فقامت بالدعوة لله تعالى، وترويج شرعه المقدس، وأدَّت الخدمات الجليلة للإسلام والمؤمنين بقيادة علمائها الأعلام (قدس الله أرواحهم)، وجزاهم خير جزاء المحسنين و{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ...}([27])، وهو ولي المؤمنين، وخير الناصرين {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ...} ([28]).

وهكذا أدَّت الحوزات الشريفة والمرجعية الدينية دورها المشرِّف في التصدي للأجنبي الكافر، ومحاولة إحباط مخططاته الجهنمية ومشاريعه الظالمة.

أما في تركيا فقد تمّ له ما أراد، حيث لا يُسمَع فيها للحوزات والمرجعية الدينية الشيعية صوتٌ، ولا ينالها نفوذهما، وانقلبت تركيا من دولة تحمل راية الإسلام، ومركز للخلافة الإسلامية المفترض حمايتها له، إلى دولة علمانية تعادي الإسلام وتقف في وجهه، وتمدّ يد الاستجداء بذلة للغرب الكافر العلماني المتحلل، وحتّى الذين لم يتصدوا لذلك ولأمثاله من محاولات التغيير نحو الأصلح لم يتقاعسوا خنوعًا وخوفًا، ولا خيانة وتهاونًا بالواجب، بل كانت لهم وجهة نظرهم الخاصة، حيث كانوا يرون قوة العدو المواجه، وضعف القوى المادية التي كانوا يملكونها، وقلة ذوي البصائر الثابتين على المبادئ، وكثرة المدسوسين والمشبوهين وضعاف النفوس وذوي الأطماع، الذين يُخشى أن يسيطروا على التحرك الإصلاحي، أو يجروه بالآخرة لصالحهم وتحقيق أطماعهم، ويتنكروا للمبادئ والأسس التي قام عليها، واندفع عنها، كما تكرر نظير ذلك على امتداد التاريخ.

فالمرجع الكبير آية الله السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس سره) قد امتنع من مقارعة بريطانيا والاشتراك في الثورة عليها بعد أن أخفق -عسكريًا- هو وغيره في صدّها ومنعها عن دخول العراق، وبعد أن تمّ لها السيطرة عليه عسكريًا ونفوذها فيه، لقناعته بعدم الجدوى في ذلك، نظير رأي المرحوم السيد محمد سعيد الحبوبي (قدس سره) بعد أن خاض تجربة الجهاد، فقد سبق أنه بعد أن رجع للناصرية قال: [الحمد لله الذي عرّفني تكليفي].

وكذلك كان رأي السيد اليزدي (قدس سره) من قبل حينما امتنع من الدخول في الدعوة للدستور الإيراني، تلك الدعوة التي عرفت بالمشروطة، فقد كان يعتقد أن ما يخطط له الداعون لذلك من الإصلاح لا يتم لهم.

وكان يقول فيما بلغنا: [إذا كان الشاه المستبد ذئبًا واحدًا فنحن سوف نقع بأيدي سبعين ذئبًا، وإن الناس الذين نراهم معنا مندفعين نحونا، سوف يتركوننا لوحدنا لو تهددت مصالحهم].

ولكل وجهة نظره، ومن حقِّه الاحتفاظ بها، والعمل عليها. و{الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ([29]). وإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. والرقيب هو الله سبحانه وتعالى، ومنه التوفيق والتسديد.

7 - وقد وقف المرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره)([30]) في لبنان من الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى نظير الموقف الذي وقفه المراجع والعلماء في العراق من بريطانيا في ثورة العشرين وما تبعها من أحداث.

وقد أدى ذلك إلى تعرضه لانتقام الفرنسيين، فحكم عليه بالإعدام، وهوجم بيته، وأُحرقت مكتبته، وانتهكت حرمته وحرمة المؤمنين معه، وفرّ هاربًا منهم بنفسه إلى فلسطين.

8 - كما كان للمرحوم آية الله السيد أبي القاسم الكاشاني (قدس سره) المواقف المشهورة في إيران ضدّ النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت ثمرتها تأميم النفط الإيراني بعد أن كان امتيازه للشركة البريطانية، وما استتبع من أحداث وتطورات تغني شهرتها عن التعرض لها.

وهذان الموقفان وإن لم تباشرهما المرجعيات الدينية القائمة في وقتهما، إلا أنهما يشاركان المواقف التي باشرتها المرجعيات في الدوافع والأهداف الشرعية. على أن الأول كان يشغل واجهة المرجعية في مركزه.

9 - وكان للعلماء الأعلام والمرجعية الدينية المواقف المتلاحقة ضد التغلغل الصهيوني وقيام كيانه ودولته في فلسطين.

وتبدأ تلك المواقف بسفر المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) ([31]) للقدس من أجل المشاركة في المؤتمر الإسلامي الذي عقد فيها في أواسط القرن الرابع عشر الهجري.

وكان سفره بمباركة من المرجعية الدينية آنذاك ودعم من العلماء الأعلام.

حتى أن المرحوم الميرزا النائيني (قدس سره) قد خرج مشيعًا له إلى خارج النجف الأشرف، وسيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) قد شيعه إلى بغداد.

وتلا ذلك البيانات والفتاوى والاستنكارات والنشاطات حتى أيامنا هذه، وكل ذلك معلوم مشهور بنحو يغني عن إطالة الكلام فيه.

والله سبحانه وتعالى من وراء القصد.

الثالث: التصدي الذي تميزت به هذه الطائفة في جميع أدوارها تبعًا لنهي الله تعالى عن الركون إلى الظالمين، ولتعاليم أئمتها (عليهم السلام) النابعة من ذلك.

فإن كثيرًا من الفئات تتعامل مع الوضع القائم على أساس الاعتراف بالأمر الواقع ولو بضميمة الشكليات التي تضمن شرعيته بنظرهم.

أما هذه الطائفة فقد حرَّمت - فقهيًا - إعانة الظالمين والركون إليهم، حتى عُدّا من الكبائر. ولو طبّق المؤمنون عمومًا ذلك وجروا عليه لكان لهم شأن آخر. ولا يسعنا إطالة الكلام في هذا الأمر.

غير أن المرجعية الدينية للشيعة قد جرت عليه، وتميزت الحوزات الشريفة عمومًا به، فكان لها كيانها المستقل.

وإذا كان هذا موقفها من الحكومات الإسلامية، وهي تعيش في ظلها، فلا بد أن يكون موقفها من الأجنبي الكافر -الذي يحاول النفوذ في بلاد الإسلام، والتحكم في مقدراتها وقوانينها- أصلب وأشد.

وقد بدا ذلك واضحًا في العصور القريبة حين بدأ الأجنبي يتسلل لبلاد الإسلام ويحاول النفوذ فيها.

وهناك عدة من الوقائع يحسن إثباتها..

منها: قصة التنباك الشهيرة([32]).

فقد أعطت حكومة إيران لبريطانيا امتياز التنباك، وقد أدرك السيد الشيرازي الكبير (قدس سره)([33]) خطورة هذا الأمر، وأنه مقدمة لنفوذها في إيران وتحكّمها فيها، كما حدث لها في كثير من البلاد، فأحبط ذلك بفتواه الشهيرة بتحريم التنباك، حيث وقفت تجارته، وتعطل عملهم.

وقد حاولوا إقناعه بالعدول عن ذلك، ومنّوه بالكثير، لكنه (قدس سره) أصرّ على موقفه.

وآخر ما قاله لوفدهم: -الذي ذهب إليه في سامراء لإقناعه- [لو تملؤون الدنيا لي ذهبًا وفضة لما عدلت عن ذلك]([34]).

وانتهى الأمر أخيرًا بتنازلهم عن الامتياز المذكور وفشلهم في مخططهم.

ومنها: الفتنة التي حدثت في عصر السيد المذكور في سامراء، وامتدت إلى بغداد وغيرها بما لها من عنف طائفي.

وقد قيل إنها بدفع من الوالي العثماني في بغداد. وقد اشتدت بسبب تجاهل الوالي لها وتصامّه عن سماع شكوى العلماء، ومحاولته منع إعلام السلطان في (الأستانة) بها.

واشتد الأمر على السيد (قدس سره) وأهل العلم الذين في سامراء، وقد حاول السفير البريطاني التدخل في الموضوع ونصرة السيد (قدس سره)، وذهب إلى سامراء لعرض خدماته عليه، وطلب الإذن بالدخول عليه، فلم يأذن له وأنف من الشكوى له حفظًا لكرامة الإسلام والمسلمين، ومنعًا لتدخل الأجانب في أمرهم.

فرجع السفير خائبًا، حتى إذا وصل الخبر عما حدث للسلطان في الأستانة تدخل لإيقاف العدوان وإطفاء الفتنة، وكفى الله المؤمنين([35]).

ومنها: أن خيرية (أودة) الهندية -التي هي خيرية شيعية مخصصة من صاحبها لأهل العلم والفقراء في العتبات المقدسة- كانت تنفق عن طريق المراجع، حتى أن الشيخ الانصاري (قدس سره) ([36]) في عصره قد تولى إنفاقها.

إلا أنه لما بدأت بريطانيا -التي كان لها حكم الهند-، تحاول النفوذ في البلاد، وخيف من استغلالها لذلك توجست منها المرجعية وتنزهت عنها.

حتى أنها عرضت على المرحوم المرجع الشهير المقدس الشيخ محمد طه نجف (قدس سره)([37]) فقال بعد الاستعاذة والبسملة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}([38]) .

فقال له الرسول : أنا مسلم.

فأجاب: نعم، ولكنك آلة الكافر([39]).

وبقيت النظرة إليها بريبة وتنزه، حتى أنه عرض منها مبلغ محترم على سيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) قبل مرجعيته بما أنه من أفضل مصارفها -وكان في ضائقة مالية شديدة- فلم تطاوعه نفسه على أخذه ترفعًا وتنزهًا([40]).

ومنها: أن الإنكليز لما تغلغلوا في البلاد الإسلامية حاولوا أن يتألفوا الرؤساء وذوي المقام الاجتماعي فيها -بما في ذلك العلماء- بالهدايا والأموال، ونجحوا في كثير من ذلك، مما سهل عليهم مدّ الجسور وفتح الحوار والتحكم في الأُمور.

وقد حاولوا ذلك مع مراجع الشيعة وعلمائهم فباؤوا بالفشل، حتى أن السير (رونالد ستورز) ([41]) لما فشل هو ومن قبله ثلاث مرات في إقناع المرجع الكبير المرحوم السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس سره) في قبول المال منهم -ولو بحجة مساعدتهم في توزيعه على الفقراء- عقَّب على ذلك بأنه يعتقد أن الشيء المهم الذي كان يعبأ به السيد هو الأنفة والإباء، لا المال، ثم يقول: [وهذا موقف بعيد تمام البعد عما يحدث في مصر والحجاز في ظروف مماثلة]([42]).

كما أنه أشاد بقوة شخصية السيد المذكور وتعاليه، حيث يذكر أنه بعد أن تبّحر في وجه السيد أدرك في الحال السرّ في شهرته ونفوذه، فهناك قوة في سيمائه الواضحة وعينيه الرماديتين المتعبتين، وسلطان في وجوده وحديثه الخافت مما لم يجد له مثيلاً في أي مكان آخر من بلاد المسلمين ([43]).

وذلك وإن لم يكن غريبًا علينا، بل هو متوقع من كلّ متدين، فضلاً عن المراجع العظام الذين يمثلون خط الإسلام، إلا أن اُلفتنا له إنما كانت بسبب التركيبة المثالية للحوزات الدينية التي هي امتداد لمدرسة الأئمة (عليهم السلام) وللمرجعية الدينية التي يفترض فيها أن تكون ممثلة لهم (صلوات الله عليهم). ولولا ذلك لكانوا كغيرهم من ذوي المكانة والنفوذ حتى المحسوبين على الدين.

ويبدو أثر ذلك كله واضحًا في موقف بريطانيا في العراق، حيث تجنبت التعامل مع الشيعة، بل شددت في تجاهلهم وفي الضغط عليهم، مع أنهم الأكثرية المستضعفة في عهد الحكم العثماني المعادي لهم، والمنحدر أمامهم، واعتمدت على غيرهم ممن كان يوالي العثمانيين، وينعم بظلهم، وله النفوذ والسلطان في عهدهم.

وهذه ضريبة الحق والمبدأ، والحمد لله على هدايته وتوفيقه، ونسأله أن يثبتنا على ذلك ويوزعنا شكره والقيام بحقه.

ومنها: تصدي العلماء الأعلام والمراجع العظام للحكومات القائمة في البلاد الإسلامية حينما كانت تعرض عن قوانين الإسلام وتعاليمه، وتحاول فرض القوانين والسلوكيات الكافرة والعمل عليها، متأثرة بالأجنبي حينما بدأ يتنفذ في المنطقة، وأخذت فاعلية الدين تضعف بسبب ذلك. فكانوا يقفون في وجه تلك الحكومات وينكرون عليها ذلك كما ينكرون عليها سائر تجاوزاتها ومظاهر انحرافها. وكان ذلك موقفهم الثابت الذي لا يحيدون عنه ما وجدوا إليه سبيلاً.

وربما تطورت الأُمور فكان لذلك الموقف مضاعفات وردود فعل مأساوية. ولعل من أفجعها ما حصل في إيران حينما سارت حكومة رضا بهلوي في طريق الانحراف والتنكر للإسلام بوحي من الأجانب، فأرادت تحويل المجتمع الإيراني المسلم المؤمن بالقسر والقهر إلى مجتمع غربي في سلوكه وتحلله، فوقف رجال الدين في وجهها وأنكروا عليها، حتى إذا تأزمت الأُمور ردّت الحكومة بقسوة بالغة انتهت بالمأساة والفجيعة قتلاً وسجنًا وتشريدًا في حملة لإنهاء الوجود الديني في إيران، ولم ينجُ من ذلك إلا حوزة (قم) المقدسة، حيث تجمعت البقية الباقية فيها برعاية المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي (قدس سره) كما سبق. إلى أن فرّج الله تعالى بعد محنة عسيرة طال أمدها.

وبعد ذلك في عصر المرجع الكبير آية الله السيد البروجردي (قدس سره) ([44]) حاولت السلطة سَنّ بعض القوانين الكافرة وتمريرها، فوقف (قدس سره) دون ذلك بحزم وصرامة، فلم تجرؤ السلطة على مخالفته لما له من مقام رفيع وقوة جماهيرية. حتى إذا قضى نحبه أعادت الكرة، فكان ما كان مما هو معروف مشهور.

وفي العراق كان المرحوم سيدنا الجد آية الله السيد الحكيم (قدس سره) في صراع مستمر من أجل إلغاء القوانين المخالفة للإسلام في العهد الملكي والقاسمي والعارفي، مما أوجب توتر العلاقة بينه وبينها في أغلب الأوقات. وهي تارة تضطر للاستجابة له، وأخرى تمتنع عليه حسب اختلاف الظروف والأحوال، وكانت هذه محنته معها وشكواه منها إلى آخر أيامه.

ومن أجل هذه المواقف المبدئية لأهل العلم والمرجعية كان رجال الدين عبئًا على أنظمة الحكم القائمة في البلاد وعلى الأجنبي من ورائها، وكانوا يجعلونهم في حسابهم عند تحركاتهم، ويخططون للقضاء عليهم، أو إضعافهم، أو تحجيمهم، أو إسكاتهم، وخنق أصواتهم، كما قد يحاولون إغراء العامة بهم وتشويه سمعتهم والنيل منهم حسب اختلاف الظروف والملابسات.

وتجلى هذا بوضوح منذ بدأ الأجنبي الكافر يتنفذ في البلاد، ويتحكم فيها، ولا يزال الصراع مستمرًا، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}([45])، وعليه المعول في الأُمور.

انتهى المقال

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([21]) الشيخ محمد حسين الشيخ عبد الرحيم النائيني (1277-1355هـ) من أكابر مدرسي الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومراجع التقليد فيها، أصولي مجدد وفيلسوف، من زعماء الثورة .

من مؤلفاته: «تنبيه الأُمَّة وتنزيه الملة»، «حاشية العروة الوثقى»، «رسالة في المعاني الحرفية» وغيرها .

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 26/215؛ الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 4/440؛ ماضي النجف وحاضرها: 3/364 وغيرها.

([22]) السيد أبو الحسن السيد محمد الأصفهاني (1284-1365هـ) تولى المرجعية الدينية في عصره، دعم المؤسسات المهتمة بالتثقيف الديني ورعاها. من مؤلفاته: [صراط النجاة]، [حاشية العروة الوثقى]، [وسيلة النجاة].

لمزيد من التفاصيل انظر: نقباء البشر: 1/41، معارف الرجال: 1/46، أعيان الشيعة: 52/47، وغيرها.

([23]) السيد جمال السيد حسين الكلبايكاني (1295-1377هـ) من مراجع التقليد في النجف الأشرف ومن أساتذة الفقه والأصول فيها، ولد في قرية (سعيد آباد)، وتوفي في النجف الأشرف.

من تآليفه: [الإجتهاد والتقليد]، [جواز البقاء على تقليد الميت]، [ذخيرة العباد ليوم المعاد]، وغيرها.

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 16/252، معارف الرجال: 1/285، ونقباء البشر: 1/309، وغيرها.

([24]) الشيخ عبد الكريم ابن المولى محمد جعفر الحائري (1276-1355 هـ) مؤسس الحوزة العلمية الحالية في قم. أشرف على تعليم طلاب الحوزة العلمية وأغدق عليهم بسخاء ووضع الامتحان السنوي لقياس مستوياتهم، أدار أمور المرجعية بحكمة وكياسة فى زمن متعب. من مؤلفاته: «درر الأصول» و«كتاب الصلاة» و«التقريرات».

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 8 /42. نقباء البشر: 3/ 1158. الموسوعة الفقهية الميسرة: 1/ 572 .

([25]) (ت1352 هـ) من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف الأشرف وأساتذة التدريس فيها، كان زاهدًا ورعًا أبيًا عابدًا حسن الخلق.

لمزيد من التفاصيل انظر: معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: 3/969، وغيره..

([26]) من العلماء الأفاضل عرف بالورع والتقوى وحسن الخلق. شاعر مبدع. له تعليقات وحواشي على الكتب الفقهية والاصولية، وديوان شعر.

لمزيد من التفاصيل انظر: ماضي النجف وحاضرها: 2/389. معارف الرجال: 2/200 . معجم رجال الفكر والادب في النجف خلال ألف عام: 3/ 968 وغيرها .

([27]) الروم: 4.

([28]) البقرة: 216.

([29]) القيامة: 14 .

([30]) السيد عبد الحسين السيد يوسف شرف الدين (1290-1377هـ، أحد أبرز العلماء المجاهدين في لبنان ومن الزعماء الوطنيين الكبار، له مواقف مشهودة في المجالات العلمية والدينية والسياسية والثقافية، جاهد ضد الفرنسيين في لبنان، وناظر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر وجمعت المناظرات في كتاب (المراجعات). من مؤلفاته: [المراجعات]، [النص والاجتهاد» و «الفصول المهمة» وقد تُرجمت إلى عدة لغات، وله كثير غيرها.

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 7/457، معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: 2/736 وغيرها كثير؛ وراجع: كتاب رائد الفكر الاسلامي السيد عبد الحسين شرف الدين للدكتور هادي فضل الله، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت-لبنان 1987م . ومقدمتي كتاب النص والإجتهاد للسيد محمد تقي الحكيم والسيد محمد صادق الصدر، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1966م.

([31]) الشيخ محمد حسين الشيخ علي كاشف الغطاء (1294-1373هـ) من أعلام ورجال الحوزة العلمية في عصره ومن فرسان الفصاحة والبيان، ولد ونبغ وتوفي في النجف الاشرف، جاهد ضد الإنكليز أثناء غزوه العراق، شارك في المؤتمرات العربية الاسلامية ونشر أبحاثه ومقالاته وأشعاره في أمهات الصحف العربية . له مكتبة نفيسة عامرة.

من مؤلفاته: [أصل الشيعة وأصولها]، [تحرير المجلة]، [المُثُل العليا في الاسلام لا في بحمدون»، وغيرها كثير.

لمزيد من التفاصيل انظر: الاعلام : 6/339 وأحسن الوديعة : 2/107 ومعجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: 3/1049.

([32]) اتفق ناصر الدين شاه مع شركة إنكليزية على احتكار التبغ الايراني، وذلك بأن تتولى الشركة الاجنبية زراعة التبغ وبيعه وتقديره لمدة خمسين عامًا ابتداءً من سنة 1890م. قد أثرت الاتفاقية تأثيرًا سيئًا على التجارة الداخلية والسوق المحلية فاندلعت على أثر ذلك انتفاضة شعبية في ايران عام 1890م بقيادة العلماء الاعلام، وقد أرسل السيد الشيرازي + رسائل عديدة لشاه ايران يطالبه فيها بالنزول عند إرادة الجماهير فلم تلقَ تلك الرسائل آذانًا صاغية، مما أضطر السيد الشيرازي + إلى إصدار فتواه الشهيرة بتحريم التدخين فامتنع الايرانيون عن التدخين. حتى أن نساء قصر الشاه كسرن آلات التدخين في القصر الملكي مما أضطر معه الشاه إلى الرضوخ للأمة وإلغاء الاتفاقية وتعويض الشركة عن خسارتها.

([33]) السيد محمد حسن السيد محمود الشيرازي (1230-1312هـ) تولى الزعامة الدينية فى عهده، هاجر وهاجر معه جمع من أهل العلم والفضل والورع إلى سامراء وفتح أبواب البحث والتدريس والعلم فيها، تصدى للشأن العام واهتم بالفقراء وأهل القرى والبوادي فكان يقدم لهم ما يحتاجون إليه من ألبسة وأطعمة في كل سنة مرتين، وكان له مجلس خاص ضم أهل الرأي والمشورة يعقد متى دعت الحاجة لمعالجة الشأن السياسي وتداعياته في بلدان المسلمين. من مؤلفاته: [حاشية نجاة العباد]، [رسالة في اجتماع الامر والنهي» وغيرها.

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 23/264 معارف الرجال: 2/233 الكنى والالقاب: 3/222 وغيرها كثير.

([34]) معارف الرجال: 2/235 .

([35]) معارف الرجال: 2/235 .

([36]) الشيخ مرتضى الشيخ محمد أمين ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (1214-1281) من مجددي المدرسة الفقهية الأصولية في جامعة النجف الأشرف الدينية، ومن أكابر محققيها، توفي في النجف الأشرف بعد أن تولى الزعامة الدينية في عهده. من أشهر كتبه «المكاسب» و«فرائد الأصول»، «قاعدة لا ضرر ولا ضرار»، وعدد كثير.

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 48/43 ماضي النجف وحاضرها: 2/47 ؛ الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 6/152؛ الاعلام: 8/58 وغيرها.

([37]) الشيخ محمد طه الشيخ مهدي نجف (1241-1323هـ) من مراجع التقليد في عصره ولد وتوفي في النجف الأشرف وجمع بين الفقه والأصول والرجال والأدب والشعر. من آثاره (اتقان المقال)، (الفرائد الاصولية)، (مناسك الحج) وغيرها .

لمزيد من التفاصيل انظر: أعيان الشيعة: 9375؛ والحصون المنيعة: 8/374 ؛ شعراء الغري: 9/388 وغيرها.

([38]) سورة الكافرون: 1-2.

([39]) معارف الرجال: 2/108.

([40]) وممن عرضت عليه وترفَّع عنها السيد حسين السيد رضا بحر العلوم (1221-1306هـ)، فقد رفض المبالغ الكبيرة التي فوضت إليه من خيرية (أودة) الهندية، وهي أن يستلم شهريًا خمسة آلاف روبية انكليزية، فقد هجر النجف على أثرها وسكن كربلاء فرارًا منها. انظر: أعيان الشيعة: 26/58. شعراء الغري: 3/216.

([41]) مبعوث بريطاني، كان يتقن اللغة العربية، زار النجف الأشرف والتقى ببعض الوجهاء والأدباء والعلماء.

([42]) موسوعة العتبات المقدسة قسم النجف الأشرف : 1/257.

([43]) موسوعة العتبات المقدسة قسم النجف الأشرف: 1/256.

([44]) السيد حسين السيد علي البروجردي (1292-1380هـ)، زعيم الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة في عصره، اهتم بالتقريب بين المذاهب الاسلامية وسعى له، له مؤلفات في الفقه والاصول والرجال.

لمزيد من التفاصيل انظر: نقباء البشر: 1/609 الموسوعة الفقهية.

([45]) الروم: من الآية 4.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس والعشرون