العدد الثالث / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات هذا العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = ميزان التفسير وعدّة المفسر

إهمال الجهات الأدبية والظهورات العرفية:

أقول: لنا على كلامه ملاحظتان :

الملاحظة الأولى: أن التفسير اللفظي بين إفراط وتفريط، فقد أشار (قدس سرّه) إلى المفرطين في التفسير المادّي، ولكنه ترك ذكر مقابلهم وهم المفرطون في التفسير بالغايات وأخذ الجامع للمعاني، بحيث يدخل تفسيرهم في الفريق الذي أصرّ قدس سرّه على ردّهم .

فكما أن المعنى يشتمل على علّة غائية، فإنه يشتمل على العلة المادّية والصورية أيضًا، وكما أن الجمود على المادّة والصورة وترك الغاية غير صحيح لما ذكر، كذلك الجمود على الغاية وإهمال مادة المعنى وصورته أيضًا إفراط في التفسير بالغايات، وهذا هو المُشاهد من تفاسير العُرفاء والصوفيّة وبعض المتفلسفة الذين لا يراعون الأدب مع القوانين الأدبية والموضوعات المسلّمة عند أهل اللغة والنحو والصرف والبلاغة والفصاحة، ويرون التفسير فوق هذه العلوم، ويطلقون العنان في هذا الميدان أزيد من حقه، وينبذون قوله تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}([1])وغيرها من الآيات وراء ظهورهم.

وسيدنا الأستاذ (قدس سرّه) مع كونه من العرفاء والفلاسفة فإنه من المعتدلين في هذا الباب بمعنى أنه لا يخرج عن الضوابط الأدبية الدالة على تعيين مادة المعنى وصورته، ولا يفرط في الأخذ بالغاية والجامع بين المعاني عملاً إلا قليلاً.

ولكنه في بيانه هذا ربما يتوهم منه تفريط في جانب مادة المعنى وصورته، بالتركيز على غايته وفائدته، ولعل ذلك لأنه لا يرى الحاجة إلى التأكيد على جانب المادة والصورة، لوجود هذا الجانب بقدر الكفاية في كتب اللغويين والمفسّرين والأدباء.

الملاحظة الثانية: أن [تفسير القرآن بالقرآن] كلام مجمل وله وجوه مختلفة وطرق متعدّدة، حيث إن بعضهم يجمع الآيات المشتركة في الموضوع ثم يفسّرها برأيه، ويرى هذا تفسيرًا للقرآن بالقرآن، وبعضهم يجعل المجمل مفسرًا للمبين، ويحمل الخاص على العام، والمقيد على المطلق، ثم يسميها تفسيرًا للقرآن بالقرآن.

فمجرد الدعوة إلى تفسير القرآن بالقرآن لا يحلّ المشكلة إلا إذا بحث عنه بحثًا موضوعيًا عميقًا يعيّن طريقته، ويبيّن كيفيته، ويذكر شرائطه، ومن له أهلية هذا التفسير، ثم يراعي جميع هذه الأمور في ضمن التفسير.

والتحقيق: أن التفسير مثل ساير العلوم يحتاج إلى مقدّمات خارجة عنه مثل العلوم الأدبية والفصاحة والبلاغة، ثم إلى تكميل علم العقايد والكلام لا ليحمل الآيات عليها، بل ليكون معرفته بصاحب الكلام وأوصافه وأفعاله، ومعرفته بمن جاء به، ومعرفته بالعصر الذي نزل فيه، والقوم الذين خوطبوا به، والهدف الذي نزل من أجله، ومعرفته بمن أُحيل إليهم تفسيره وتأويله، والحالات التي نزلت هذه الآيات فيها، لتكون هذه الأمور وغيرها أضواءَ تُنير درب المفسّر، ومرجّحًا للاحتمالات التي تواجهه، فإن التأمّل في ذات القائل وصفاته وحياته وحواشيه وغير ذلك يؤثّر كثيرًا في فهم مراداته من كلماته.

ثم إنه إذا مارس علم التفسير مدّة طويلة وحضر عند الأساتذة وراجع التفاسير وجمع آراء العلماء وعلومهم إلى علمه، بمعنى أنه مضافًا إلى جمع الآيات المناسبة للآية المبحوث عنها يراجع الروايات الواردة في تفسيرها، ويجمع أقوال العلماء وأدلتهم، ويزيد على ذلك ما يخطر بباله، ثم يحاكم بين الجميع ويفسّر القرآن على ضوء واقع الموضوع الذي بحث عنه القرآن، لا واقعه العرفي الواضح، بل واقعه الذي بحث عنه في العلم المناسب له والآراء التي لأهل ذلك العلم فيه.

التقوى العلمي:

إذا جمع المفسّر روايات صاحب الرّسالة (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وآراء أهل التفسير وآراء علماء الفنّ التي يرتبط بها موضوع الآية وغير ذلك، وتدبّر بالمقدار الذي يمكنه من التدبّر ،حينئذٍ كان من المتّقين في عمل التفسير، لأنه اتّقى من التسامح والتقصير {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}([2])، ويرزقه التفسير الواقعي من حيث لا يحتسب، فإنه تعالى إذا وجد هذا المفسّر قد بذل جهده، وجاهد قدر طاقته، وجمع ما احتمل دخله في فهم الآية، واستفرغ الوسع، كان مشمولاً لقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}([3]) وقوله تعالى {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}([4]).

وأما إذا اكتفى بجمع الآيات وقصّر في الجهات الأدبية والروايات التفسيرية، أو توجّه إليها وغفل عن آراء العلماء في التفاسير، أو جمع هذه الأمور ولكنه أهمل البحث عن موضوع الآية ولم يراجع آراء علماء فنّه وأهل خبرته وأهل الاختصاص به، لم يكن ممن بذل جهده، ولم يجاهد، ولم يتقِ الله وذلك بسبب إهماله بعض هذه الجهات ، فلا يكون الله تعالى معه، لأن {اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}([5]).

حكومة القرآن على الحديث واستعانته به:

وهنا نكتة مهمّة، وهي أن هذه الوسائل التي يستعان بها على تفسير القرآن، هل يؤخذ بها كليّة حتى ولو استلزم حمل الآية على خلاف صريحها أو ظاهرها بالتأويل وغيره، أو يترك بالكليّة ؟ أو هناك حدّ معقول ؟

لقد بحث العلماء عن مسألة عرض الأحاديث على الكتاب وطرح ما خالفها، ومسألة تفسير القرآن بالحديث.

ولا إشكال أن القرآن حتى على فرض حجية ظاهره للجميع - كما هو الحقّ - وعدم توقف حجيّته على ورود الحديث، لا يمكن لأحد إنكار أن أعلم الناس بتفسير القرآن هم مَنْ نزل عليه ومن تعلمّوه منه بلا واسطة ونزل القرآن في بيوتهم من أهل بيت العصمة، فكل ما ورد في تفسير الآيات عنهم يجب الأخذ به والبحث عنه عند تفسير الآيات.

ولكن من جهة أخرى ليس كل ما ورد عنهم ونسب إليهم فهو منهم، إذ ما أكثر الأحاديث التي يعلم كذبها وجعلها.

شبهة الدور وجوابه:

وحيث إن القرآن لا شك في سنده وإن كان يشكّ في دلالته، والحديث بالعكس، فيستعان بكل واحد منهما للآخر، ويرفع موضع الشك من كل واحد منهما بمقابله وقرينه، وحيث إن جهة السند مغايرة لجهة الدلالة فلا دور.

ولكنّ حاجة القرآن إلى الحديث في غير موارد الصّراحة والظهور، فتُعرض الأحاديث على القرآن في نصوصه وفي ظواهره، ويميّز باطل الأحاديث من حقّه، فيؤخذ بعضها ويترك البعض، وهذا هو المراد من الأخذ بما وافق الكتاب وترك ما خالفه كما ذكره الأصوليون.

أما الأحاديث التي خرجت من هذا الامتحان بعنوان [ما يوافق الكتاب] أو [ما لا يخالفه]، فهي التي تجعل في ضمن الوسائل التي يستعان بها في تفسير القرآن وفي رأسها.

ومن هنا يظهر أنه لا يمكن رفع اليد عن ظاهر القرآن أو صريحه بالحديث، لما مرّ من أن الأحاديث المخالفة لنصوص القرآن وظواهره تطرح أولاً عند عرضها على القرآن وغربلتها، فلا يبقى منها عند الاستعانة بها في التفسير إلا ما لا يتّسم بسمة مخالف القرآن.

يتبع =

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - الشعراء الآية 195.

[2] - الطلاق الآية2.

[3] - العنكبوت من الآية 69.

[4] - البقرة من الآية 282.

[5] - النحل من الآية 128 .

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية